أخبار - 2018.08.07

سيـدي عــامر قريــة تـونسية

سيـدي عــامر قريــة تـونسية

يتناقل أهالي «سيدي عامر» جيلا بعد جيل قصّة فتاة مصرية قَدِمت أواسط ستينات القرن الماضي إلى القرية وأقامت بها فترة من الزمن لتنجز عنها بحثا جامعيّا. والقصّة هكذا، مجرّدة من تفاصيلها الدّقيقة التي لا يذكرها الاّ من عاشوا تلك الفترة -وهم قلّة الآن- تظلّ غامضة ولا تفيد في شيء كثير غيرَ الاستدلال على أهميةٍ ما لهذه القرية قد تميّزها عن بقيّة قرى الساحل وبلداته، فلكلّ قرية حكاية، لا سيّما تلك القرى التي يقترن تاريخُها ووجودُها بوليّ صالح وطريقة صوفية وخوارق تتجاوز العقل والمنطق والإدراك الحسّي، لكن الأمر هنا لا يتعلّق بكرامة من كرامات.

«عامر المزوغي» دفين الزاوية الكائنة في ربوة تحضن من عليائها بيوت القرية وطريقها المؤدّي إلى البحر، وإنّما هي حكاية أخرى تنضاف إلى حكايات كثيرة عنه وعن أهله ومريديه بعد قرون من وفاته تتحدّث بلغة العلم لا بلغة الخرافة.

سيدي عامر: الزاوية والحمادة 

«سيدي عامر قرية تونسية» كتاب يحمل توقيع الباحثة المصريّة في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية الدكتورة نادية أبو زهرة، وهو في الأصل عمل أكاديمي لنيل شهادة الدكتوراه في هذا الاختصاص من جامعة أكسفورد العريقة، نشرته باللغة الانجليزية مؤسّسة «إيثاكا» المتخصّصة في نشر البحوث الأكاديمية في العام 1982، ولم ينقل إلى العربية بعد. والأنثروبولوجيا الاجتماعية كما تعرّفها الباحثة ذاتها في مقال بعنوان «التّصوّر الشعبي للجوع والعطش في بعض البلاد العربية» علم يهتمّ بالتصورات الشعبية التي تؤثّر في السلوك الاجتماعي، فمهمّة عالم الأنثروبولوجيا هي جمع البيانات بأمانة ثمّ وصفها وتحليلها بموضوعية وبيان الرّوابط بين هذه التصوّرات وشرح مدلولاتها الاجتماعية. وفي هذا السياق نفهم الأسباب العلمية التي تجعل من قرية «سيدي عامر» تربة خصبة للبحث الأنثروبولوجي، فالباحثة تؤكّد أنّ المعتقدات الشعبية مزيج من عناصر إسلامية وأخرى نابعة من تراث العادات والتقاليد الشعبية، لكن الذين يعتقدون في هذه المعتقدات يظنون أنّها كلّها من الإسلام، وليس من مهام التحليل الأنثروبولوجي الفصل بين هذه المكوّنات، لأنّ هذه التّصورات لا يمكن فهمها إلاّ باعتبارها وحدةً غير قابلة للتّجزئة، وكلّ محاولة لفعل ذلك تفضي إلى تشويهها. ينطبق هذا الأمر تماما على مجتمع القرية في تلك المرحلة من تاريخ الدولة الحديثة حيث ما يزال كل شيء رغم الحداثة وانتشار التعليم يدور حول «الزاوية» بدءا من تفسير نشأة القرية وتكوّن مجتمعها وصولا إلى رسم الخارطة الوراثية لأبنائها والتمييز تمييزا اجتماعيا صارما بينهم وبين المريدين والوافدين ممّن لا تربطهم بالوليّ قرابة الدم، ينعكس ذلك حتّى على التوزيع الجغرافي الرّسمي، ففي أوّل خريطة للجمهورية التونسية الوليدة يشقّ القريةَ الطريقُ القادم من الساحلين في اتّجاه الوردانين ويشطرها إلى نصفين، نصفٍ يسمّى «الزاوية» ونصفٍ يسمى «الحمادة»، ومن هذه التراتبية الاجتماعية المؤسّسة على أسطورة التكوين رصدت الباحثة تأثير المعتقدات الشعبية في التّصورات الاجتماعية المحلّية وتأثيرها في الحياة اليومية والعادات والتّقاليد للأسر في المنطقتين. 

البركة بين العلم والخرافة

اهتمّ البحث بالطابع الزّراعي للقرية باعتبار فلاحة الزيتون هي أهمّ مورد اقتصادي لمختلف العائلات حتّى تلك التي انتسب أبناؤها إلى الإدارة في فجر دولة الاستقلال، كما اهتمّ بالوظيفة الروحانية التي تجعل من زاوية سيدي عامر مزارا يأتيه الأتباع والمريدون من الداخل والخارج طلبا للبركة بالزيارة وتقديم القرابين، وكثيرا ما يكون ذلك طلبا للعلاج على أيدي شيوخ الزاوية ممّن حافظوا على هذه المهنة عبر الأجيال، ومن أهمّ روافد هذه الوظيفة «الحضرة» التي تُسمــّى «العْـــوامرية» للتمييز بين أناشيدها الصوفية وأناشيد الطّرق الأخرى. لا ينسبُ هذا إلى الشّعوذة أو الاتّجار في الوهم والدّجل بقدر ما يمثل مُكمّلا مُهمّا للعلاج النفسي بالنظر إلى طبيعة المجتمع في تلك المرحلة وأهمية المعتقدات الشعبية فيه، وكثيرا ما كان الدكتور سليم عمّار رائد الطب النفسي في تونس يؤكّد حرصه على إرسال بعض المرضى إلى الأولياء الصّالحين فيستغلّ استعدادهم النّفسي واعتقادهم في قدرات الأولياء الخارقة لتيسير العلاج الاكلينيكي الأصلي ويوظّف الطاقة الإيحائية  للإيقاعات والشطحات الصوفية في استكمال دورة العلاج الفرويدي، وهو ذات الموقف الذي تتّخذه الانثروبولوجيا الاجتماعية مثلما أسلفنا، فالعلوم الإنسانية لم تتصادم مع الموروث الثقافي ولم تفكّك مكوّناته التي هي عادة مزيج من التاريخ والأسطورة والعلم والخرافة، وإنّما تسلّلت إلى داخله وتعاملت معه وحدة كلية غير قابلة للتجزئة لفهمه وقراءته علميا، والدكتورة نادية أبو زهرة تؤكّد في بحثها أنّ الناس يعتقدون في وساطة الأولياء بينهم وبين الله لا لقضاء الحاجات وشفاء الأمراض فحسب بل أيضا لجلب الرزق والمطر، فبركتهم هي أيضا وسط بين الرحمة الإلهية والعوز الإنساني، يتجلّى ذلك حتّى في أسمائهم (سيدي بوراوي، سيدي أبي الغيث، الخ) من ثمة يحدث الترابط العضوي بين البيئة القروية ذات الطابع الزراعي السّقوي والبنية الثقافية والعقائدية التي تقوم على سلطة الوليّ الصالح الرمزية ومرجعيته الدينية والاجتماعية.

ليمون سيدي عامر 

تعود أصول «سيدي عامر» عبر سلسلة نسب طويلة إلى على بن أبي طالب وفاطمة الزهراء، جاء والده سالم المزوغي مهاجرا من منطقة «مزوغة» الواقعة قرب مدينة مليلة بشمال جبال الأطلس المغربية، ونزل عند حلوله بالساحل لدى الشيخ الولي «سيدي نصر الشارف» فتزوّج ابنته وأنجب منها ابنه عامر سنة 920 هجرية 1514م، تتلمذ عامر المزوغي في شبابه على الشيخ الصوفي أبي الغيث القشّاش ثم تنقّل طويلا بين مدن الجنوب طويلا قبل أن يعود إلى ساحل سوسة حيث أعانه أحد أتباعه وتلامذته وقد كان نافذا في عهد الدولة الحفصية على إقامة زاويته في نواحي المنستير سنة 970 هجرية 1564م، وفضلا عن كونه متعبدا وفقيها تصف المراجع التاريخية عامر المزوغي بالمجاهد الذي عُرف باستبساله في مقاومة الغزو الإسباني ما جعله يتمتّع بحظوة لدى الولاة العثمانيين، فجدّدوا زاويته عدّة مرات وأوقفوا عليها أوقافا كثيرة، وصارت وجهة للزيارة من مناطق مختلفة لا سيّما من ولاية صفاقس في موعد سنوي خلال فصل الربيع يسمّى «الفيشطة» أو «الخرجة»،

ونجد لارتباط أهالي صفاقس بقرية سيدي عامر صدى في قصّة شعبية ذكرتها نادية أبو زهرة وملخّصها أنّ «سيدي عمر كمون» أحد أولياء مدينة صفاقس وأحد أتباع الطريقة العامرية كان متعبا وشقيّا، فلمّا أتى الربيع ذهب من صفاقس إلى مدينة جمّال واشترى منها بعض الليمون الحلو، ولمّا وصل إلى سيدي عامر وجد ابنته «رقيّة» مريضة فقدّم لها هذا الليمون دواء، ولما تعافت فرح عامر المزوغي بذلك وقال له: «لقد نلت كلّ البركة»، فزال عنه الشّقاء واعترته النّشوة. ولئن كانت الأنثروبولوجيا تنتبه في هذه السردية إلى ارتباط الانتقال الروحي من الشقاء إلى النشوة بالانتقال الجسدي في المكان فإنّها تبدو تأويلا أسطوريا لهذه الرحلة الربيعية المشهورة التي تقوم بها الأسر الصفاقسية إلى قرية سيدي عامر مرورا بزوايا سيدي بوسحاق بجبنيانة وسيدي علي محجوب بقصور الساف وللاّ أم الزين بجمّال وسيدي نصر بالساحلين قبل أن تدخل محفوفة بالحضرة ومحملة بالهدايا إلى زاوية سيدي عامر وتقيم فيها ثلاثة أيام، وما يزال أهالي صفاقس يطلقون على هذا الليمون الحلو الذي يجلب من الساحل اسم «ليم سيدي عامر».

سيدي عامر في أكسفورد، مغامرة علمية برعاية علماء الدين

هل كان يسيرا على فتاة مصرية أن تقوم ببحث أنثروبولوجي في الساحل التونسي بمفردها في منتصف ستينات القرن الماضي؟ الإجابة عن هذا السؤال تقودنا إلى اكتشاف الدور الهام الذي لعبه كبار علماء الدين في الأزهر والزيتونة في رعاية مثل هذه المغامرة العلمية وتوفير كلّ أسباب النجاح لها بعيدا عن أيّ منطق إقصائي أو تعصّب جندريّ، فوراء قصة نادية أبو زهرة أستاذة الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأكسفورد مع قرية سيدي عامر والساحل التونسي عموما علاقة صداقة متينة ربطت والدها الشيخ محمد أبو زهرة (1898 - 1974) وهو أحد كبار علماء الشريعة الإسلامية والقانون في مصر بالشيخين محمــــد الفاضل بن عــاشور (1909 - 1970) ومحمد الشاذلي بالقاضي (1901 - 1978)، تذكر الكاتبة أنّ والدها حدّث صديقيه أثناء لقاء جمعه بهما في القاهرة عن رغبة ابنته في إنجاز بحث علمي ميداني في تونس، فرحّبا بذلك وتعهدا بتيسير كل السبل أمامها. لكن ذلك الأمر لم يكن في البدء يسيرا، حيث تزامن مع إلقاء الرئيس الحبيب بورقيبة خطابه الشهير في «أريحا» واندلاع أزمة ديبلوماسية حادّة بين مصر وتونس ما جعل السلطات المصرية ترفض تمكينها من السفر إلى بلادنا واقترحت عليها أن تنجز بحثها في الجزائر أو اليمن، لكنّ إصرارها على المضي قدما جعلها تستخدم بعض الوساطات لتليين عريكة النظام المصري واقتلاع التّأشيرة في اتّجاه تونس التي وصلتها قادمة من بنغازي في نهاية شهر ماي 1965.

أقامت نادية في بيت الشيخ محمد الشاذلي بالقاضي كما لو كانت واحدة من بناته وتمكّنت خلال الأسبوع الأوّل من التعرّف على خصائص المدينة العتيقة التاريخية والمعمارية بمساعدة من المؤرخ عثمان الكعاك، ثم سلّمها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور توصية إلى «سالم فرشيو» مدير معهد بورقيبة للفتيات بالمنستير لمساعدتها حال وصولها إلى الساحل، لكنّ ذلك لم يمنع الشرطة التونسية من مراقبتها خلال جولتها المكثّفة بقرى الساحل وإلقائها أسئلة كثيرة حول مختلف جوانب الحياة العامّة فيها، وكان ذلك إضافة إلى لهجتها المصرية سببا كافيا لإيقافها في الساحلين والتحقيق معها. ثمّ تدخّل الشيخ محمد الفاضل بن عاشور ثانية لدى والي سوسة من أجل السماح لها بمواصلة البحث دون مضايقات بوليسية، وهو ما أتاح لها العمل بحرية حال استقرارها في قرية سيدي عامر، وتذكر الكاتبة أنّ المعتمد توجه إليها بالخطاب مباشرة أمام الجمهور عند حضورها حفلا أقيم بالزاوية يوم 30 أوت 1965 بحضور الرئيس الحبيب بورقيبة بنفسه وهو ما أزال كلّ الشكوك حول شخصيتها ومهمّتها الحقيقية في القرية. من ثمة انطلقت رحلتها العلمية في أغوار المجتمع وتمكّنت من ربط علاقات متينة مع بعض الأسر في «الزاوية» فرصدت كل تفاصيل الحياة اليومية وكوّنت منها المدوّنة النصيّة الشفويّة لبحثها الميداني وأخضعتها للتحليل الأنثروبولوجي لتستشفّ منها مختلف المعاني الرمزية، ومثل هذا التحليل الدقيق لمختلف جوانب الحياة في البيت القروي والعلاقات الاجتماعية بين الناس وعاداتهم يجعل من هذا الكتاب مرجعـــا لا غنى عنه في دراسة تحوّلات المجتمع التونسي في دولة الاستقلال.

عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.