أخبار - 2018.08.06

حسن حسني عبد الوهاب: الأخْــــذ مـــن كــــلّ شــــيء بــــطــــــرف

حسن حسني عبد الوهاب: الأخْــــذ مـــن كــــلّ شــــيء  بــــطــــــرف

حسن حسني عبد الوهاب أنموذج نادر في الحياة الثّقافيّة والفكريّة في تونس خلال القرن الماضي، فقد جمع على نحو منقطع النّظير بين الكُلف والمشاغل الإداريّة والسّياسيّة وبين المشاركة اللّافتة في الحركة الثّقافيّة والفكريّة والعلميّة في الدّاخل والخارج، وجمع جمعا فريدا بين موالاة البايات الحسينيّين والعمل في إدارتهم وبين الاندماج في دواليب دولة الاستقلال وخدمة برامجها

ولا شكّ في أنّ المنزلة التّي اكتسبها الرّجل تعود أساسا إلى شغفه بالبحث والتّوثيق والتّأريخ ولكنّ ذلك لا يمكن أن يحجب أمرا آخر وهو أنّ جانبا من الحظوة العلميّة والثّقافيّة التّي نالها إنّما تهيّأت له بفضل قدرته على نسج علاقات وطيدة مع أصحاب الجاه والسّلطان في تونس وخارجها وعلى تملّق أهل العِلم والسّياسة والتّقرّب إليهم.

لعلّ مــــرور نصف قـــرن على وفـــــاته (1884 – 1968) منـــاسبة لاستئنــــاف النّظـــر في مسيرته ونشـــاطه العلمـــيّ وحيــــاته الإداريّة والمهنيّة بمـــا يُلقـــي مزيدا مـــن الضّوء على مـــلامح هــذه الشّخــصيّة المميّزة.

الأصل والنّشأة 

ينتسب حسن حسني عبد الوهاب إلى أصول أندلسيّة، ذلك أنّ جدّه عبد الوهاب بن يوسف الصّمادحي ينحدر من أسرة وافدة من الأندلس، وكان يُدير الحرس الأهليّ للبلاد (رئيس الحوانب) ويرأس التّشريفات في عهود البايات محمود وحسين ومصطفى والمشير أحمد باي الأوّل . أمّا والده صالح بن عبد الوهاب فقد تقلّب بدوره في عدّة وظائف مخزنيّة ، إذ عمل مترجما للجنرال حسين عندما كُلّف بوزارة الخارجيّة ورافقه في زياراته إلى الممالك الأوروبيّة، وتولّى بعد انتصاب الحماية جملة من الوظائف منها عامل على الأعراض (قابس) وعلى المهديّة، وتوفّي أواخر سنة 1904.

وأمّا والدة حسن حسني عبد الوهاب فتنحدر من أصول تركيّة إذ هي حفيدة مصطفى آغا وابنة علي بن مصطفى آغا أكبر أعوان الوزير خير الدّين، وجدّته لأمّه فرنسيّة من مواليد باريس سنة 1827 وتدعى آنياس دوكرو.

وقد كتب حسن حسني عبد الوهاب قبيل وفاته سيرة ذاتيّة موجزة في بضع صفحات وافى بها حوليّات الجامعة التّونسيّة التّي نشرتها في عددها السّادس لسنة 1969 أكّد فيها أنّه ولد سنة 1884 بالعاصمة وتعلّم بالمدرسة الفرنسيّة بنهج السّويد ثمّ بالمدرسة الصّادقيّة، وانتسب بعد ذلك إلى مدرسة العلوم السّياسيّة بباريس فتتلمذ على يد أعلام كبار من أمثال «دي منتاي» و«شاركو». إلّا أنّه لم يستكمل الدّراسة بباريس واضطرّ إلى العودة إلى تونس سنة 1904 وهو في العشرين من عمره بسبب وفاة والده. 

الحياة الإداريّة 

امتدّت حياة حسن حسني عبد الوهاب الإداريّة في عهد الحماية لفترة تتجاوز الأربعين سنة (1905- 1947)، فقد انخرط في سلك موظّفي إدارة الفلاحة والتّجارة منذ 1905، ثمّ عُيّن رئيسا لإدارة غابة الزّياتين للشّمال التّونسي سنة 1910، والتحق أثناء الحرب العالميّة الأولى بإدارة المصالح الاقتصاديّة (1916)، وغادرها بعد أربع سنوات ليترأّس خزانة المحفوظات التّونسيّة (مصالح الأرشيف) سنة 1920، وسيكون لاضطلاعه بهذه الخطّة أثر بعيد وخطير في حياته الفكريّة والعلميّة لأنّ وجوده على رأس هذه الإدارة سيمكّنه من الاطّلاع على مجريات أحداث التّاريخ التّونسيّ منذ دخول الأتراك إلى تونس (1574) وسيضع بين يديه نفائس المخطوطات في الأدب والتّاريخ واللّغة وسائر المعارف والفنون.

ولكنّ عبد الوهاب سيخوض بعد الأرشيف تجربة جديدة هي تجربة الحكم المحلّي، ذلك أنّه سيُعيّن عاملا على المثاليث (جبنيانة) من 1925 إلى 1928 ثمّ عاملا على المهديّة من 1928 إلى 1935 ثمّ عاملا على الوطن القبلي من 1935 إلى 1939. وستتوّج هذه التّجربة بالعودة سنة 1939 إلى العاصمة حيث سيتولّى عبد الوهاب خطّة وكيل للإدارة المحليّة والجهويّة ثمّ سيُعيَّن رئيسا لمصلحة الأوقاف. ولكنّ الحدث الذّي سيُفضي إلى توجيه انتقادات لاذعة إلى حسن حسني عبد الوهاب وصلت درجة نعته بالخيانة هو قبوله المشاركة في حكومة صلاح الدّين البكّوش التّي تلت مباشرة حادثة خلع المنصف باي ونفيه إلى الصّحراء الجزائريّة. فقد عُيّن عبد الوهاب وزيرا للقلم في أوّل حكومة للأمين باي في ماي 1943، وهي خطّة تشمل الإشراف على إدارة الشّؤون الدّاخليّة للبلاد والقيام بتحرير المكاتيب الدّوليّة ومخاطبة ملوك الخارج، وقد شغل هذا المنصب إلى جويلية 1947. وبنهاية هذه المهمّة انقطع عبد الوهاب – ظرفيّا – عن الأشغال الإداريّة وهو في سنّ 63 عاما وأقبل على تأليف كتابه الضّخم الذّي سمّاه «كتاب العمر». إلّا أنّ نيل الاستقلال في 1956 ومغادرة حشود من الموظّفين الفرنسيّين المصالح الإداريّة جعل الحكومة التّونسيّة الفتيّة تدعوه إلى رئاسة المعهد القومي للآثار والفنون فاضطلع بهذه المسؤوليّة من 1957 إلى 1962. وهكذا تمدّدت حياته الإداريّة الطّويلة الزّاخرة لفترة جديدة ساهم خلالها في بعث خمسة متاحف بسوسة والمنستير والقيروان وقرطاج ودار حسين بالمدينة العتيقة.

وتنطوي شخصيّة حسن حسني عبد الوهاب على جانب لعلّه أن يكون خفيّا غير مشهور وهو نشاطه الاقتصاديّ ، فقد بعث سنة 1917 مؤسّسة بنكيّة سمّاها «المصرف التّجاري التّونسيّ» وترأّسها لمدّة طويلة، كما أسّس عددا من الشّركات التّجاريّة وتوّج هذه الخبرة بإصدار أوّل كتاب تونسيّ متخصّص في علم الاقتصاد «الإرشاد إلى قواعد علم الاقتصاد» (1920). ولكن كيف أُتيح لهذا الموظّف السّامي و«الڤايد» والوزير في حكومة الباي أن يُسهم في الحركة العلميّة والفكريّة جمعا وتأليفا ومشاركة في المؤتمرات الدّوليّة ونشاطا بالهيئات العلميّة العربيّة والأجنبيّة؟

الحياة العلميّة

لا يملك دارس سيرة حسن حسني عبد الوهاب إلّا أن يطرح السّؤال بشأن الوجوه التّي أساغت للرّجل نشاطا علميّا غزيرا ومكثّفا في الوقت الذّي كان يضطلع بمسؤوليّات إداريّة دقيقة وحسّاسة. لقد شارك عبد الوهاب في عديد المؤتمرات الدّوليّة بين 1905 و1939 وهو آنذاك موظّف بإدارة الحماية أو قايد على جبنيانة فالمهديّة ثمّ نابل، من ذلك مشاركته في مؤتمر المستشرقين بالجزائر سنة 1905 وهو شابّ في الحادية والعشرين من عمره لا يحمل شهادة عليا ولم يصدر له تأليف بعدُ ولم يُعرف له نشاط علميّ يُذكر، بل إنّه ألقى محاضرة في المؤتمر بعنوان «الاستيلاء العربيّ على صقليّة» (المُلاحَظ أنّه سّمّى دخول العرب إلى صقليّة استيلاء ولم يسمّه فتحا!). ثمّ شارك سنة 1908 في مؤتمر كوبنهاغن للمستشرقين وسنة 1922 في مؤتمر باريس للمستشرقين الفرنسيّين وسنة 1927 في مؤتمر الرّباط بالمغرب، ونراه سنة 1930 يشارك في مؤتمر الجزائر الذّي انعقد بمناسبة الاحتفال بمائويّة احتلال الجزائر!

وفضلا عن مؤتمرات المستشرقين نجده مشاركا في مؤتمر الموسيقى العربيّة بالقاهرة سنة 1932 بدعم من «البارون ديرلانجي» (وهو آنذاك قايد المهديّة) وحاضرا في مؤتمر باريس للأديان سنة 1939 (وهو وكيل الإدارة المحليّة والجهويّة).

وإذا دقّقنا النّظر في الوثائق المتّصلة بسيرة الرّجل لاحظنا أنّ المشاركة في المؤتمر الأوّل كانت بدفع من محمّد الأصرم رئيس الجمعيّة الخلدونيّة التّي كان عبد الوهاب ناشطا بها. ومنذ ذلك الحين برع الرّجل في نسج علاقات وثيقة مع أصحاب السّلطة وأهل العلم من الملوك والأمراء والعلماء من أمثال الأمير أحمد فؤاد ابن الخديوي إسماعيل الذّي سيصبح ملكا لمصر، وقوستاف أدولف ملك الدّانمارك وعبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربيّة السّعوديّة ومحمّد فريد بك رئيس الحزب الوطنيّ المصريّ والمستشرق الألماني «نولدكه» والمستشرق النمساوي « قولدزيهر» والمستشرق الفرنسي «لويس ماسينيون» وعميد الأدب العربيّ طه حسين وغيرهم كثير.

وقد مكّنته هذه الشّبكة الممتدّة من العلاقات من نيل شرف الانتماء إلى مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة منذ تأسيسه سنة 1932، فقد عيّنه صديقه الملك فؤاد عضوا مؤسّسا بالمجمع، وهو آنذاك قايد على المهديّة، علما بأنّ طه حسين لم يحظ بعضويّة المجمع إلّا سنة 1940. كما مكّنته تلك العلاقات من نيل لقب الدّكتورا الفخريّة من جامعة العلوم بالقاهرة سنة 1950 بمناسبة مرور خمسين سنة على تأسيسها، وتمّ ذلك بإيعاز من صديقه طه حسين الذّي كان وقتئذ وزيرا للمعارف، كما نال اللّقب نفسه من جامعة العلوم بالجزائر سنة 1960.

وقد كشف طه حسين سببا من أسباب الحظوة التّي يجدها حسن حسني عبد الوهاب في مصر، إذ أشار في مقدّمة كتاب «آثار أبي العلاء «إلى أنّ عبد الوهاب أمدّ المصريّين بكثير من المخطوطات النّفيسة النّادرة، وكتب من عبارات الإطراء والاستهواء ما يكشف أنّه يُؤمِّل من عبد الوهاب تمكين مصر من مزيد المخطوطات الموجودة في إفريقيا الشّماليّة.

ويبدو أنّ عبد الوهاب كان يملك في تلك الفترة سلطة معنويّة فائقة على خزانة المحفوظات التّونسيّة ، فقد أدارها بين سنتي 1920 و1925 ثمّ شاءت الصّدف أن يديرها شقيقه علي عبد الوهاب بين 1932 و1936.

أمّا عن المؤلّفات التّي تركها حسن حسني عبد الوهاب فتُعتبر رصيدا هامّا متنوّعا فيه من التّاريخ ، وفيه من الكتب المحقَّقة، وفيه من سير المشاهير، وفيه من الدّراسات المختلفة جزء كبير منها ألّفه باللّغة الفرنسيّة. ولعلّ أهمّ كتبه «كتاب العمر» الذّي أقعده تقدّم السّنّ ووهن الجسد عن إكماله فعهد للأديب محمّد العروسي المطوي والباحث بشير البكّوش بإتمامه فأخرجاه بدعم من وزارة الثّقافة سنة 1989. ويليه في الأهميّة كتاب «ورقات عن الحضارة العربيّة بإفريقيّة التّونسيّة» وقد صدر في جزأين سنتي 1965 و 1966، و«شهيرات التّونسيّات» (1934) و«خلاصة تاريخ تونس» وقد طُبع طبعات عديدة (أوّلها 1918 ثمّ 1953)، و«بساط العقيق في حضارة القيروان وشاعرها ابن رشيق» (1912) و«المنتخب المدرسي من الأدب التّونسيّ» (1908) الذّي أصبح فيما بعد «مجمل تاريخ الأدب التّونسيّ» (1968).

ومن الكتب التّي حقّقها رسائل الانتقاد «لمحمّد بن شرف القيرواني و«وصف إفريقيّة والأندلس» لابن فضل اللّه العمري و«رحلة التّجاني» لعبد اللّه التّجاني و«آداب المعلّمين» لمحمّد بن سحنون. 

إنّ المتأمّل في سيرة حسن حسني عبد الوهاب ليعجب من تعدّد اهتماماته وغزارة نشاطه العلميّ واتّساع علاقاته فهو المترجم والمؤرّخ والمدرّس والمُحقّق وعضو المجامع اللّغويّة وهو «الڤايد» والوزير ورجل الأعمال وصاحب الشّركات التّجاريّة.

وإذا قام منهجه في التّأليف على الجمع والتّوثيق والإفادة ممّا وقع بين يديه من نادر المخطوطات ونفيس الأعلاق فإنّه أحكم استثمار تلك الوثائق لحفظ جانب من الذّاكرة الثّقافيّة الوطنيّة. ولئن حصل على الألقاب الفخريّة وانتسب إلى الهيئات العلميّة وشارك في الملتقيات الدّوليّة فإنّ للباقته ولطفه وحُسن إدارته لعلاقاته في الأوساط العلميّة والسّياسيّة أثرا واضحا في نيل تلك الحظوة مشرقا ومغربا. إنّه الآخذ من كلّ شيء بطرف الضّارب في كلّ فنّ بسهم.

الحبيب الدّريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.