أخبار - 2018.07.23

مفهوم التـــرفيه في برمـجــة المهـــرجانات الــصّيــفــيّـــــة

مفهوم التـــرفيه في برمـجــة المهـــرجانات الــصّيــفــيّـــــة

«إن ما يمكن أن يلهينا عن بؤسنا هو التّرفيه ومع ذلك فهو أكبر عوامل بؤسنا». هذه مقولة لبليز باسكال يقترح فيها تعريفا للتّرفيه. ولكن أعتقد أنّ الأمر لا يتعلّق بتحديد مدلول التّرفيه بقدر ما يطرح مفارقة. فكيف يمكن أن نعتبر التّرفيه دواء وداء في الآن؟

ربّما تشير المفارقة إلى كيفيّة الاستعمال. فقد ينقلب الدّواء آفة إذا أسأنا استعماله ولم نحرص على احترام المقادير وأوقات تناوله. كذلك الشّأن بالنّسبة إلى التّرفيه. لعلّ ما يبرّر تناول موضوع التّرفيه في علاقته بالمهرجانات الصّيفيّة هي ظاهرة التّخمة التي تفشّت في قائمات البرامج التي تقدّمها المهرجانات الصّيفيّة لروّادها.

شهدت المهرجانات الصّيفيّة تحوّلات عديدة في المجتمع التّونسي، خاصّة فيما يتعلّق بالمشهد الثّقافي. ومن أهمّ هذه التّحوّلات انخراط المناهج الثّقافيّة فيما عرف بثقافة السّوق، نتيجة لمنظومة العولمة.

لقد تأسّست المهرجانات المرجعيّة في تونس وهي مهرجانات قرطاج والحمّامات والمنستير ودقّة والجمّ وطبرقة في فترة تاريخيّة على جانب من التّميّز والخصوصيّة. وهي فترة الغليان الذي شهده العالم الغربي في أواخر السّتّينات التي كان سببا في اندلاع أحداث ماي 1968. وقد قامت هذه المهرجانات الاعتباريّة على مرجعيّة فكريّة تشكّلت فيها بوادر ما بعد الحداثة. وهذه العوامل كانت محدّدة للخيارات والمقاييس التي كانت تقوم عليها أهداف هذه المهرجانات أوّلا ثمّ على التّصوّرات التي كانت تسند خطط البرمجة التي تؤثّثها.

وهي تصوّرات لا يغيب فيها هاجس التّرفيه. فلنتذكّر أنّ من خلفيّات ماي 68 تسليط الضّوء على الإبداع اللّامعياري والذي يسعى إلى التّخلّص من التّنميط وتوجيه الدّولة للفكر والإبداع والثّقافة (le dirigisme de l’Etat) الذي كان مسيطرا على العقد الأسبق أي بين أواسط الخمسينات وأواسط السّتّينات، وهــو ما أنتج تنشيطا للمهرجانات عرضت فيه أهمّ الإبداعات العالميّة التي ولع بها الجمهور سواء كان ينتمى إلى النّخبة المثقّفة أو إلى عموم المواطنين. فإذا اعتبرنا أنّ التّرفيه، كما يتحدّد مفهومه في علم الاجتماع، يجمع بين الأنشطة المكرّسة لتحقيق الذّات، يفترض أن نربط بين مواز يسير فيه خطّان هما برامج المهرجانات الصّيفيّة من جهة، والتّغيّرات الاجتماعيّة بصفتها محدّدة لمقاييس تحقيق الذّات كما يحلّلها علم النّفس الاجتماعي الذي خاض في المسألة إبّان تشكّل الفكر المابعد حداثي والذي أعلن رفع الحصار الاجتماعي على الموهبة الفرديّة والقدرات الذّاتيّة للأشخاص، تميّزا عن الأعراف المكبّلة له والتي تعيق مخياله وطاقاته الذّاتيّة. هذه الطّاقات التي يرفّه بها عن العمل في مفهومه الإنتاجي البراغماتي.

وقد صادف ذلك في مهرجانات السّتّينات وسيرها حتّى أواخر السّبعينات تناغما كبيرا مع الجماهير المرتادة حتّى أصبح لكلّ مهرجان مريدوه وروّاده المواظبون على متابعته.

أسئلة التّرفيه أم أسئلة الحيرة؟

وبداية من أوائل الثّمانينات، لاحت أسئلة حائرة حول المهرجانات والوجهة التي بدأت تنتهجها.

ففي حين ارتكزت حيرة ماي 1968 على هاجس القطع مع السّائد ومقاومة الفكر الشّكلاني والاتّباعي، اتّسمت حيرة أواخر الثّمانينات بهواجس اقتصاديّة وإيديولوجيّة بالأساس. لقد بدأت تلوّح بشعارات العولمة وتنميط الثّقافة وسوق الثّقافة وإدماج الثّقافة في الدّورة الاقتصاديّة و»الماركتينغ» أو التّسويق. وهي مفاهيم تحوم كلّها حول تأثير الثّقافة أو المنتوج الثّقافي كهدف في حدّ ذاته دون اعتبار لنوعيّة هذا المنتوج ولا للمضمون الذي يحمله. وهي مفاهيم تكرّس من ناحية أخرى مفهوم اللّهث وراء السّوق العالميّة. وبالتّالي، فإنّها ضمنيّا، تضرب بالخصوصيّة الثّقافيّة عرض الحائط. هذا التّحوّل في تصوّر دور الثّقافة ووظائفها كان لا بدّ أن يضيف إلى معاناة العمل الإبداعي صعوبات جديدة وطارئة. واتّخذ الدّخلاء والمزايدون والمتطفّلون من هذه المفاهيم الجديدة أوعية لإنتاجات تتوفّر فيها مواصفات السّوق السّائدة والتي تدّعي الانتماء إلى الفنّ من هذا المنظور ولكنّها من ناحية أخرى وبسبب تحوّلها إلى ظاهرة لم تلبث أن أدخلت البلبلة في المشهد الثّقافي العامّ الذي ثقلت خطواته التّجريبيّة والباحثة وتوتّرت أنفاسه وضاقت المنافذ أمامه، بعد أن أعلنت الدّولة خيار التّخلّي عن دورها كمنتج أساسي ووحيد للتّعبيرات.

كيف كان موقف المهرجانات الكبرى من هذه الظّاهرة؟ لقد وجدت نفسها أمام خيار صعب. الاندفاع في تيّار الثّقافة الجديدة القائمة على التّسلية والتّرفيه وقلّة التّكلفة ووفرة المردود أو مواصلة التّشجيع على دفع التّجارب المتحصّنة ضدّ السّهولة ومجاراة الذّوق السّائد ومسايرة عواطف الجمهور العريض.لقد كثر في تلك الفترة الحديث عن تحقيق المعادلة بين هذين المنحيين تحت تأثير الضّغط المالي وتقلّص إمكانات واستعدادات وزارة الإشراف كما كثر الحديث عن شرعيّة البعد التّرفيهي للمهرجانات الصّيفيّة في علاقتها السّوسيولوجيّة بالمتلقّي أي بالجمهور.

وشهدت المهرجانات ترجيح هذا البعد الأخير على الصّبغة الأساسيّة للمهرجانات وهي وظيفتها الفكريّة والثّقافيّة والتي تتحدّد من خلالها مقاربتها لمفهوم التّرفيه، لفائدة نسق التّعهّد والمنطق السّلبي للتّسويق، إلى حدّ ترسّخ معه الاعتقاد في تخلّي المهرجانات الكبرى منها والصّغرى، عن التّعبيرات الجادّة وعن التّجارب التي ترعرع أغلب رجالها فوق أركاح هذه المهرجانات بالذّات. إذا حاولنا البحث في أسباب هذا التّخلّي، نلاحظ أنّها وليدة الظّرف العالمي، ولكنّها أيضا لا تخلو من أسباب أخرى أهمّها غياب الحوكمة الرّشيدة والإرادة الثّقافيّة في مستوى إدارة المهرجانات، خاصّة الكبرى منها أو ما تسمّى بالمهرجانات السّياديّة أي تلك التي يعود تسييرها بالنّظر إلى السّلطة الثّقافيّة المركزيّة، مثل مهرجاني الحمّامات وقرطاج وأيّام قرطاج المسرحيّة والسّينمائيّة.

ثقـــافة «التّقليعة»

بعد 14 جانفي 2011، تفاقم الخلط في التّعامل مع البعد التّرفيهي للمهرجانات والذي بدأ يتشكّل منذ أواسط التّسعينات لمّا تعاقدت المهرجانات الصّيفيّة مع مؤسّسة روتانا وتعاملت معها كمتعهّد حفلات تنهل من قائمة نجومها في الموسيقى والذين لا تمثّل إنتاجاتهم أيّ صفة احترافيّة أو إضافة فنّيّة تذكر. وتفشّت هذه الظّاهرة فأصبحت بمثابة التّقليعة التي «تكالبت» عليها المهرجانات الدّوليّة وحتّى الوطنيّة أو الجهويّة، في حين كان المفترض أن تسعى المهرجانات الوطنيّة والجهويّة إلى تعميق مفهوم التّرفيه انطلاقا من خصوصيّتها الاجتماعيّة والثّقافيّة. على أنّ ذلك ما كان يمكن أن يتمّ بدون فتح المحافر السّوسيولوجيّة والنّفسيّة والاقتصاديّة التي قام عليها علم اجتماع التّرفيه في أمريكا التي أصبحت برمجة التّرفيه فيها بمثابة صناعة غزت أوروبّا وإفريقيا وكافّة القارّات في تنافذ مع العولمة وأيضا مع مقتضيات ثقافة السّوق واقتصاد الثّقافة.

بعد أكثر من نصف قرن مرّ على تأسيس المهرجانات الصّيفيّة، لم تجر أيّ دراسة ميدانيّة تستشرف العلاقة بين المهرجانات الصّيفيّة والتّرفيه عن طريق مساءلة الجمهور أو النّقّاد حول تصوّرهم لمفهوم التّرفيه وتقييم أداء المهرجانات في هذا المعنى. إنّ دراسة هذا الموضوع يمكنها أن توفّر للمبرمج في المهرجانات الصّيفيّة تصنيفا للمتلقّين حسب فئاتهم الاجتماعيّة والفكريّة والمهنيّة يضفي على وظائفها نجاعة متأكّدة ويخلّص المهرجانات مـن الغوغاء التي تـردّت فيها بدعوى ترجيح كفّة التّرفيه، على حساب الإبـــداع الجادّ.

وكأنّ الإنتاج التّرفيهي لا يتطلّب جدّيّة أو احترافيّة...وكأنّ الجمهور وهو يطلب التّسلية لا يشترط الجودة والجدّيّة في ذلك.  أزمة حادّة تهدّد اليوم المهرجانات الصّيفيّة، باستثناء مهرجان الجمّ للموسيقى السنفونيّة. فقد بهتت ملامح مهرجاني قرطاج والحمّامات وأصبحت مدرّجاتهما تنفر من غوغاء وصخب مرتزقة الفنّ الذين أرهقت كاشيهاتهم صناديق وزارة الإشراف وجيوب الجمهور. مئات الآلاف من العملات المحلّيّة والأجنبيّة تصرف على حفلات هي بمثابة أسواق المــزاد تقــدّم تقليعــات أدمن عليها جمهور لايزال يتوهّم أنّ ما يقدّم له هو ترفيه. لكنّ مئات الآلاف الأخرى تنفق على تغليف حبّـــات الاتّصال التي  تقــدّم بها هـــذه المــادّة «التّرفيهيّة».

أمّا مهرجانات طبرقة وسوسة والمنستير فقد تجاوزت الأزمة حين آلت إلى الاندثار

فوزيّة بلحاج المزّي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.