أخبار - 2018.07.23

محمد إبراهيم الحصايري: رأي في التفاعل الضروري بين السيادة والعولمة

محمد إبراهيم الحصايري: رأي في التفاعل الضروري بين السيادة والعولمة

حسنا فعل المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية حين عقد يوم السبت 21 جويلية الجاري، أي أربعة أيام قبل حلول ذكرى إعلان الجمهورية، ندوة تحت عنوان "تحديات السيادة في تونس" تناول المشاركون فيها بالبحث بعض الإشكاليات التي تطرحها مسألة السيادة في ظل التحولات الداخلية التي تشهدها بلادنا، والخارجية التي تشهدها المنطقة والعالم من حولها... فبالرغم من حساسية هذه المسألة، مما يجعلها من شبه "المحرمات السياسية"، كان لا بد لجهة رسمية ما أن تقدم على طرحها للبحث والتمحيص خاصة وأنّ الجدل حولها ما فتئ يحتد نتيجة لتفاقم الصعوبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها البلاد، وتراكم التحديات متعددة الأوجه والأبعاد التي تعترضها في مسيرة بحثها المتواصل والمُضْنِي عن استعادة توازنها المفقود بفعل سنوات العسر التي عرفتها منذ 14 جانفي 2011.

وما من ريب أنّ لهذا الجدل دواعيه ومبرراته المنطقية والمعقولة، فهذا الكم الهائل من الضغوط والشروط والإملاءات والإكراهات التي تصادفها بلادنا اليوم في تعاملها مع بيئتها الإقليمية المضطربة والدولية القلقة، تثير لدى السياسي المسؤول كما لدى المواطن العادي المخاوف من تراجع قدرتها على الصمود، ومن تقلص هامش الحرية المتبقي لها لاتخاذ ما تراه وتحتاجه من قرارات باستقلالية، وللاختيار مع استطاعة الرفض والقبول...

ومن يستعرض هذه الضغوط ومصادرها يلاحظ أنّها تشمل مختلف جوانب حياتنا اليومية، وهي مسلطة علينا من أهم وأقرب شركائنا، وفي نفس الوقت من مؤسسات دولية وفواعل "لا دَوْلَتِيَّة" متعددة ومتنوعة الوسائل والأدوات.

فمن الشروط التي توصف عادة بـ"المجحفة" والتي يفرضها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي على البلاد، ومن الضغوط المباشرة وغير المباشرة (كالتصنيفات في القوائم السوداء) التي يسلطها الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية عليها من أجل دفعها إلى  التوقيع على "اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق"، ومن أجل قبول  السياسات التي حددتها، آحاديا،لمعالجة إشكالية الهجرة غير الشرعية، وتنفيذ الالتزامات الواردة في اتفاق "الشراكة من أجل الحركية"، خاصة فيما يتعلق باستقبال وإيواء المهاجرين غير الشرعيين الأجانب، إلى جانب الإكراهات التي تقتضيها مواجهة مخاطر الإرهاب المتفاقمة في محيطنا المباشر وفي المنطقة عموما، بات البعض يخشى، خاصة في ظل الغموض أو غياب الشفافية  في تعامل الحكومات المتعاقبة مع هذه المسائل المصيرية، من ارتهان مستقبل تونس ومصادرة قدرتها على التحرك الحر الذي يضع مصالحها قبل وفوق كل اعتبار...

ثم إنّ الجدل المحتد حول ما سمته الندوة "تحديات السيادة في تونس" يصطبغ بصبغة انفعالية عاطفية بيّنة لا مجال لإنكارها او التغافل عنها، وهذا الأمر يؤدي، حتما، إلى نظرة غير سديدة أو ينقصها السداد الى هذه الإشكالية، وهو ما يستوجب التطرق إليها بشيء من الهدوء الفكري والرصانة الاكاديمية...

والحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها منذ الوهلة الأولى هي أن إشكالية السيادة ليست إشكالية تونس وحدها وإنّما هي إشكالية عامة، تهم جميع دول العالم كبيرها وصغيرها، وإن من زوايا مختلفة... ذلك أنّ التحولات الكبرى والمتغيرات العميقة التي شهدها ويشهدها العالم خاصة منذ تسعينات القرن الماضي أي منذ انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي، وما اعقب ذلك من تفرد الولايات المتحدة والغرب، بقيادة العالم،  أفضت كلها إلى التقليص التدريجي من سيادة مختلف الدول، حتى أنّ المناقشات الأكاديمية في مجال الفكر السياسي ذهبت إلى أنٰ  الدولة القومية انتهت او هي في طريقها إلى الانتهاء بفعل تآكل قدرتها على التحكم في شؤونها الداخلية ببسط سلطتها الكاملة على إقليمها وتطبيق أنظمتها على سكانها جميعا، كما في شؤونها الخارجية، بتنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى، دون الخضوع لأية إرادة أخرى غير إرادتها الحرة...

ولقد بات هذا الموضوع محل سجال واسع النطاق على الصعيد الدولي، خاصة وأنّ العولمة منحت الدول الأكبر والاقوى فرصة لترسيخ هيمنتها على الدول الأصغر والاضعف...

وليس هذا مقام التوسع في الحديث عن تفاصيل هذه المسألة، لكن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو جملة من الحقائق التي نعتقد أنّه من الضروري وضعها في الاعتبار في كل مقاربة واعية وعقلانية لهذه المسالة، وهذه الحقائق هي في نظرنا التالية:

أولا: أنّ مفهوم السيادة مفهوم، متحرك، متغير وليس ثابتا او جامدا كما يبدو للبعض، وقد طرأت عليه، خلال سيرورته منذ ظهوره قبل عدة قرون (أي منذ منذ مؤتمر "Westphalie" 1648)، تطورات عديدة متتالية، تسارعت بشكل خاص منذ أواسط القرن العشرين وبالتحديد منذ ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام منظمة الأمم المتحدة...

ثانيا: أنّ الحدود الجغرافية بين الدول القومية باتت قابلة للاختراق والتجاوز، في ظل ثورة المعلومات والاتصالات، وفي خضم الأدوار التي باتت تلعبها الهيئات المالية والتجارية العالمية المتمثلة  في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، إلى جانب ظهور قوى فاعلة جديدة في السياسة الدولية، مثل التكتلات الاقتصادية العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية مما أثر تأثيرا واضحا على انسيابية حركة رؤوس الأموال، والسلع والبضائع والشركات والمعلومات وحتى البشر وإن في اتجاه واحد.

ثالثا: أنّ فقدان الدولة القومية لجزء من سيادتها يقابله عادة الحصول على مزية أو فائدة معينة... ومن المهم أن تعمل الدولة على الموازنة بين المغانم والمغارم التي يمكن أن تحصل عليها من العلاقات الدولية التي تقيمها.

وفي هذا الإطار ينبغي أن نلاحظ أنّ انخراط دولة ما في منظومة إقليمية أو دولية يرتب عليها جملة من الالتزامات الدولية الإضافية ولكنه في نفس الوقت يزيد من قدرتها على مواجهة التهديدات ورفع التحديات التي تعترضها.

وعموما فإنّ على الدول عامة أن تدرك أن تنازلها عن جزء من سيادتها لصالح تجمع أو تنظيم اقليمي أو دولي لا يعني التقليل من هيبتها أو تقييد سيادتها وإنّما هو عبارة عن إعادة ترتيب لحقوقها السيادية، خاصة وأنّ تقليص سلطتها في مجال ما يقابله تعظيمها في مجال آخر كما يتجلى ذلك مثلا في تعاون مجموعة من الدول مع بعضها البعض على مواجهة أخطار أو تهديدات مشتركة.

رابعا: أنّ البيئة العالمية الراهنة غير ما كانت عليه خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ انتقل العالم من عالم آحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب... وهذا ما يمكن أن يضفي عليه شيئا من التوازن ويفسح المجال من جديد، للدول الصغيرة، أمام تعدد الخيارات والبدائل...

خامسا: أنّ العولمة كما يعرفها البعض مشروع معقد ذو طابع تدرجي، مفتوح، غير مكتمل، لا يريد أن يتوقف ولا يعرف أين سيتوقف، ولكنه شرع في شقّ طريقه ليشمل الكرة الارضية، كاملة بدون استثناء وذلك بالاعتماد على آليات ووسائل تكنولوجية متطورة، وبالاستناد إلى إيديولوجية إلزامية غائيتها البعيدة هي تقليص أبعاد العالم، وتنميط ثقافاته وتوحيد سياساته، وتوجيه اقتصاداته، حتى تكون في خدمة واضعيه والعاملين على تجسيمه على أرض الواقع.

ولأنّ منطق هذا المشروع هو اللامحدود واللاخصوصي فإنّه لا يعترف باي خطوط حمراء تجاه سيادة الشعوب واستقلاليتها، في كافة المجالات بدءا بالاقتصاد والتجارة والمال، ووصولا الى السياسة والفكر والثقافة والاتصال والإعلام... وهذا يعني أنّ ممارسة الدول لسلطاتها وفقا لمفهوم السيادة التقليدي لم يعد ممكنا، وهو ما يستوجب منها البحث عن آليات حصيفة للتعامل مع العولمة بما يقي من شرّها، ويجلب بعض ما قد يكون فيها من خير...

سادسا: أنّ الآراء في العولمة تراوحت بين التشاؤم والتفاؤل والاعتدال...
وتذهب بعض الاطروحات المتشائمة، مثلما نرى ذلك عند محمد عابد الجابري، إلى أنّ "العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن، نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدول الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية".

أما بعض الاطروحات المتفائلة فإنّ أنصارها يرون أنّ العولمة لا تعني نهاية الدولة القومية، ويعتبرون أنّ مقولة نهاية الدولة مقولة متهافتة ولا ترقى إلى مستوى الطرح العلمي الأكاديمي. وهم يذهبون إلى حد القول إن العولمة تقدّم نفسها كمكسب يفتح آفاقا جديدة أمام المصالح الاقتصادية للدولة، ويدفع لتحقيق نوع من التوازن والتكامل العالميين، انطلاقا من تعميق التبادل الحر على مستوى السلع والخدمات وتوسيع دائرة انتقال رؤوس الأموال الأجنبية، وكل ذلك من شأنه أن يساعد الدول النامية على مواجهة الكثير من التحديات وتحقيق بعض ما تصبو اليه من نمو وتقدم.

وأما أصحاب الأطروحات المعتدلة فإنهم يرون أنّ ما طرأ من مستجدات على مفهوم الدولة القومية زمن العولمة ليس إلا تراجعا في وظيفتها وتقلصا لبعض أدوارها خاصة الاقتصادية منها، ومعنى ذلك في نظرهم أن العولمة لا تريد أن تمس مكونات الدولة وشروط سيادتها، بل هي تريد، أساسا وبالدرجة الأولى، إعادة صياغة وظائفها وتوجيه سياستها الاقتصادية على نحو يسمح بتهيئتها لامتطاء قاطرة العولمة.

سابعا وأخيرا: أنّ النظرة إلى السيادة والوظائف التي تضطلع بها الدولة داخليا وخارجيا ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار جملة المعطيات والحقائق السابقة.

ومهما يكن من أمر، وتأسيسا على كل ما تقدم، فإنني أعتقد أنّ التعاطي مع مفهوم السيادة ينبغي أن يتم من خلال تحقيق مصالحتين أساسيتين:

  • مصالحة أولى بين العقل والواقع، وهو ما يسمح بنزع الصبغة الانفعالية العاطفية عن رؤية إشكالية السيادة.
  • ومصالحة ثانية هي ثمرة للمصالحة الأولى، بين السيادة والعولمة التي لا جدال في أنّها تستهدف تنميط العالم، من خلال العمل على تكريس الرأسمالية ونشر معايير الديمقراطية وحقوق الانسان وخلق نوع من المواطنة العالمية وتوحيد الإنسانية في بوتقة الليبرالية الديمقراطية، غير أنّ رفضها لا يعني إيقاف تأثيراتها، ولذلك فلا بد من التعاطي معها وفق تمش منهجي وعقلاني يمكن من الحفاظ على هامش واسع من حرية الحركة والفعل والتصرف...

ومعنى ما تقدم هو أنّه بات من الضروري مراجعة المفهوم التقليدي للسيادة الذي يعني سيطرة الدولة المطلقة، وهو أمر أمسى مستحيلا في زمننا الراهن، على شؤونها الداخلية والخارجية، وتجريد هذا المفهوم من "القدسية" التي يضفيها عليه البعض والعمل على التكيف مع المتغيرات الدولية، بما يمكن من تضييق الفجوة الناشئة عن التضارب بين أهداف العولمة وتأثيراتها وبين مقتضيات الحفاظ على السيادة الفعلية خاصة من قبل الدول الصغيرة.

غير أنّ هذا التمشي ينبغي أن يسبقه التعجيل باستعادة وحدة الصف الوطني ولحمة الشعب التونسي بكل مكوناته، وأن يصحبه قدر كبير من اليقظة والحذر وتعبئة الجهود حتى تستطيع الدولة الوطنية ترسيخ مكتسباتها التاريخية، وإحكام الحفاظ على مصالحها الحيوية، وخوض الصراع الذي يبدو حتميا وغير متكافئ مع العولمة التي ستواصل العمل على تحجيم أدوارها وتغيير وظائفها والتقليل من فاعليتها...

وفي رأينا فإنّ مثل هذا التوجه هو الذي يمكن أن يساعد على عقلنة الجدل الدائر حول هذه المسألة، وهو الذي يمكن أن يفتح الباب أمام أشكال جديدة من التعاون الإقليمي (مثلا على صعيد المنطقة المغاربية وجوارها) لأن اعتماد مفهوم جديد للسيادة والتخلي عن مفهومها التقليدي سيجعلان المواجهة الجماعية للتهديدات والأخطار المشتركة لكل شعوب ودول المنطقة، أمرا ممكنا، ذلك أنّ قبول كل دولة من دول المجموعة الطوعي والارادي لبعض القيود سيتم في إطار منظومة لتبادل المصالح، يتم الإذعان لشروطها مقابل الاستفادة مما توفره لكل عضو من أعضائها من دعم وتضامن بقية الاعضاء.

محمد إبراهيم الحصايري


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.