أخبار - 2018.07.19

تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة : ليت الـــطموح وحدَه يكفي...

تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة : ليت الـــطموح وحدَه يكفي...

" حياة يصنعها توازن النقائض والموت يكون عندما تصبح في صراع "

جلال الدين الرومي

1 - يعسر على القارئ الحريص على المبادرات التشريعية الإصلاحية الخاصّة بالمجال الاجتماعي- الثقافي ألاّ يخرج متأسّفا من قراءة تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة معتبرا أنّ ما توصّلت إليه اللجنة هو تقرير الفرصة الضائعة. لا شكّ أنّ اللجنة اشتغلت بطموح واضح في القسمين الثاني والثالث من التقرير الخاصّين بالحريات الفردية والمساواة عند مناقشتها للترسانة القانونية التونسية والعمل على مراجعتها في ضوء مستجدّات السياق الاجتماعي وتقديم مقترحات في شأنها. لكنّها لم تزد، فيما انتهت إليه، عمّا يمكن اقتراحه في أيّ مكان آخر يُراد فيه الاصطفاف على المقولات التحديثية التي تدعو إليها المواثيق الدولية والإقليمية المعتنية بالحريات الفردية والمساواة.

2 - لذلك فإنّ التقرير رغم ما اشتمل عليه من أفكار ومقترحات، لم يَبْنِ خطابا متناسقا مستجيبا لرغبة التوصُّلِ إلى ما اعتُبر دستورا اجتماعيا تحديثيا يقطع مع ما سمّاه «سكونا تشريعيا» خيّم على تونس سنوات.

لقد توصّلت اللجنة إلى وثيقة تقنينية تقترح إصلاحا تشريعيا متعلّقا بالحريات الفردية والمساواة لكنّها لم تتمكّن من تحديد الرؤية الحضارية المتماسكة التي تؤسّس عليها مقترحاتها الإجرائية. فقدانُ المزاوجة بين قسم «المقاربة الاجتماعية الدينية» والقسمين الثاني والثالث أنتج نصّا هجينا في بنيته ونسقه وغير مُقنع من حيث أرادتْ اللجنة أن يكون تقريرها «سبقا تاريخيا» لخلق «مناخ إيجابي وبناء جسور تواصل وتفاعل مع بيئتها».

3 - كيف يمكن تفسير هذا الخلل؟

عند التركيز على «المقاربة الاجتماعية الدينية» يتبيّن أنّنا أمام معالجة «تصحيحية» لمسألتي الحرية الفردية والمساواة كما جرت ممارستُهما في عالم المسلمين مما جعلهما بحاجة إلى مزيد «الاجتهاد والجرأة في الرأي والتشريع». أساس هذا التوجّه التصحيحي، حسب التقرير، ما عاشه المسلمون من «تعارض» بين الأصول ومقاصد النصوص المُؤسِّسة وبين التشريع والثقافة والممارسة. من جهة ثانية فما يلاحظ في هذا التقديم «النظريّ التصحيحي» هو إحالته على بعض النصوص الدينية التي تؤكّد فيما وقع اختياره منها على قيمة الحريّة باعتبارها أصلا في الإسلام وبما تفيده من حريّة المعتقد ممّا يُعلي من قيمة «الفرد» ويسمح بالتشريع لجملة من حرياته الفردية الخاصّة بالحياة والكرامة والحرمة الجسدية. يواصل التقرير على درب التصحيح معتبرا أنّ « الفرد» لم يغب في تاريخ المسلمين حتّى في مرحلة البعثة النبويّة خلافا لما «افترض البعض» ونتيجة انحراف آخر هو «طمس  معنى أساسي في القرآن يتعلّق بالخلافة» التي تحوّلت وجهتها « لرسم صورة قاتمة تجعل الحاكم خليفة للإله» !!!

يثير هذا القسم من التقديم « النظري» جملة من الملاحظات من أهمّها أنّ منطلق التقرير في هذا الجزء قام على مصادرة على المطلوب حيث جعل جزءاً من المقدّمة والنتيجة (الإقرار بالحريات الفردية والمساواة) شيئا واحدا. لذلك اكتفى بانتقاء نصوص تُدعِّم صحّة القضية التي يريد البرهنة عليها. كان في ذلك يحتذي منهج بعض الدُّعاة في توظيفاتهم الدَعَوِيّة عندما يختارون من النصوص ما يولّد من الأفكار المعبِّرَة عن ميولهم وأُفقهم الفكريّ والعاطفيّ.

4 - كان شأن التقرير في ذلك شأنَ من يقوم بــ « استنطاق» النص الديني المُؤسِّس وليس بقراءةٍ مُتفهِّمةٍ له من كامل بنيته ومن تكامل مكوناته وخصوصية رؤيته للعالم والإنسان والحياة ومن نوعية النماذج التشريعية والإجرائية التي صاغها. المسوّغ لهذا هو النظر إلى النص الديني على أنّه رُكامٌ من المعاني والأحكام المختلفة التي تسمح بانتزاع مقاطع منه حسب حاجيات المُستَنْطِق الآنيّة ووفق معارفه ورُؤاه. بذلك جاز القول إنّ تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة يعاني من خلل منهجي واضح لأنّه يُخرج النصوص المؤسّسة عن وضعها البنيوي والدّلالي الذي يجعل منها نظاما إدراكيا ومجالا حيًّا حاملا لمعنى كامل ولحكمة ناظمة. ذلك هو الوجه الأبرز لمعضلة التقرير المنهجية: إنّه اعتبار النصوص الدينية المؤسّسة مَقاطعَ وشتاتا يسمح باجتزاء بعضها حسب اختيارات قَبْلِيَّةٍ ومسعى توظيفيٍّ للنصوص كما حصل في أكثر من حالة قديما وحديثا.مسألة طبيعة النصوص الإسلامية المؤسّسة غابت وأفقرتْ القسم «التأصيلي» في التقرير لإقباله السريع والسهل على مسألة الاجتهاد والجرأة في الرأي حرصا على بلوغ النتائج المنشودة بناء على اعتقاد أن أحكاما وتشريعات واردة في النص قد تجاوزها الواقع. لا شكّ أنّ النصوص المؤسّسة في الإسلام مرتبطة، في جوانب منها، بسياق ثقافي وتاريخي مُعيَّن لكنّها تظلُّ لذلك علامةَ إجماع ومركزَ نشاط فكري متجدّد لما تحمله من خصب بقَدْرٍ من القيم والمعاني والاحتمالات التــي لا تنضب. هي لذلك، تسمح بالاجتهاد والإبداع واستحداث قيم جديدة لأنّها حين شرّعت وفق المبادئ العامّة الشاملة والمتكاملة إنّما كانت تنظِّم لجماعةٍ وأمّةٍ وواقع مُحدّد ولتكون نموذجا ونواة لترسيخ المبادئ التي تنهض عليها حياة دينية واجتماعية وقيمية مفتوحة على الزمن وعلى العالمين.

5 - من ثمّ تبرز قيمة «العُرف» وأهمية « التقليد» (Tradition) في كلّ جهد اجتهادي لأنّ كلّ تغيير أيّا كانت درجة حَدِّيته أو ثوريته إنّما يتحقّق ضمن نسق من الاستمرارية والثّبات وأنّ كلّ استمرارية تستدعي بالضرورة تغييرات وتطويرات. هذا ما يجعل البُعدَ الخصوصي التاريخي والتشريعي في النصوص المؤسّسة هامّا عند كل انفتاح تجديدي للقانون تستدعيه السياقات الجديدة المحلية والعالمية لأنّ انقطاع السند وطمس الخصوصيات يقضي على القدرة الإبداعية للقيم العامّة التي ترفعها النصوص وللتقَـبُّلِ المجتمعي الذي يحفظ بها فاعليته. مؤدّى ذلك أنّه بدون ترسانة التشريعات الخاصّة وقيمتها النموذجية والمرجعية تفقد المجتمعات «ذاكرتها التشريعية» بما يُعجِزُها عن تطوير ذاتها في تفاعلها مع التحديات الحضارية ومستلزماتها الروحية والفكرية والقانونية. يضاف إلى هذا أنّ الإجابات الجاهزة للأسئلة المطروحة ابتداءً أخلّتْ، في المستوى المفاهيمي للتقرير، بما أعلن عنه من أنّه عمل تشاركي يرمي إلى بناء مشروع لمجتمع بأسره «لا تحتكره الطبقة السياسية» بل «يفتح باب الحوار المباشر مع كل المعنيين بالموضوع على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم». من الجهة المفاهيمية يفاجِئ التقرير القارئ بخلط لافت بين جملة من المفاهيم المفتاحية التي استعملها من أهمّها «الإنسان والفرد» و«العائلة والأسرة» و«الاستخلاف» (منزلة الإنسان في الأرض إزاء بقيّة الكائنات) و«الخلافة» (النظام السياسي الذي أُرسي مع الراشدين وبعدهم) فضلا عن استعماله لمصطلح المقاصد منزوعة منه دلالته العلمية الدقيقة.

6 - للتمثيل على هذا الخلط المفاهيمي نقتصر على ما ورد في بداية القسم التنظيري لمسألة الحريّات من أنّ «الإنسان يولد حُرّا» وأنّ «هذه الحقيقة أكّدها الإسلام ...». بعد ذلك مباشرة يُستدعى مفهوم «الفرد» بالقول : «وُلد الفرد في مرحلة البعثة ولم يكن غائبا....».

من الغريب حقّا أنّ لا يلتفت التقرير إلى أنّ «الإنسان» في الانتظام العربي القديم وفي «اللغة القرآنية» لا يعني «الفرد» الذي يعتني به التقرير وفق ما اشتغل عليه الفلاسفة والمشرّعون الحداثيّون. المقصود بـ«الإنسان» في النصّ القرآني هو الآدمي الذي تُعالَج ذاتُه البشرية (النفس) تربويا فلا صلة له بالحقوق والتقنين. في هذا المستوى يقوم النصّ الديني على الإيمان بمصير الإنسان وعلى حاجة المؤمن في الاشتغال على ذاته واكتشاف رُتبتِه في سلّم الموجودات بخوض تجربة حياة دينية تُظهر ذاته في تفرُّدِها بوصفها مجالا أعمق من نفسّية الذات العادّية مما يحقق تقدُّمها في مدارج الارتقاء  الإنساني. لذلك نجد في النصّ القرآني استعمالين لـ«الإنسان»: استعمالٌ متداول قديم واستهجاني لكونه قرينَ الضآلة والانقطاع والخروج عن الجماعة. ما ورد من الآيات عن الإنسان«الكنود» أو أنّه « يَؤوس كفور» وثيق الصلة بهذا النسق المعتَمَد في الثقافة العربية السائدة في القرن السابع وهو نسق يعتبر التفرّد مَهلكةً وخُسرانا مُعْلِيا من شأن الانضواء في العشيرة والسعي المتواصل لجمع شتاتها. هذا الترسّب التاريخي المُستبعِد لنزعة التفرّد قائم في النصّ القرآني إلى جانب استعمال ثانٍ يريد به خطاب الوحي زحزحةَ الدلالة القديمة للخروج بها إلى حقل مغاير يكون الإنسان به حاملا لقضيةٍ وقابلا للتوجيه لأنّه:«على نفسه بصيرة»  و«في أحسن تقويم» وأنّ «السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا». هذه المواكبة التي تكشفها قراءة مفهوم «الإنسان» في الخطاب القرآني تجعلنا ندرك أنّ النصّ يتفاعل مع معطيات التاريخ الموضوعية لكنّه لا يقف عندها إذ يعمل على تيسير حركته بمدارج مغايرة غايتها تنشئة «الفرد المجتمعي».

7 - المحيّر في التقرير عدم تمييزه بين السِجِّلِ القرآني الخاصّ بمفهوم «الإنسان» وصلته النفسية والأنتروبولوجية بالوضع العربي وبما ارتبط به لاحقا ضمن حقل دلالي مميّز لموقع «الفرد» في الجماعة وطريق نموّه الذاتي وبين السِجِّل الفلسفي والحقوقي الخاصّ بتطوّر مفهوم «الفرد» تحقيقا لهويّته وأمنه وحريته ضمن تحوّلات المجال الغربي. أيكون التقرير في هذا متجاهلا لرحلة الفكر الحديث وفلسفته السياسية ومواطن تطوّر «الفرد» على درب الحرية وما تعيّن في ذلك من تعاقد اجتماعي وترابط قيمي وحقوقي؟

إلى هذا الحدّ من المهمّ أن نسأل: كيف ينبغي التفاعل في فضائنا الوطني والعربي الإسلامي مع هذه المسيرة التاريخية الخاصّة والممتدّة التي نَمَتْ وتطوّرت ضمنها الأفكار والمجتمعات والحقوق والمواثيق في الغـــرب؟

قد يكون هذا السؤال الحيوي حَرَّك الطموح الإصلاحي للجنة الحريات الفردية والمساواة ومنه انبعثتْ مبادرتها التي ينبغي تثمينها. ذلك أنّ فكرنا التشريعي بحاجة إلى التطوير الموزون ولخروج النخب الوطنية في علاقتها البينية ومع جمهورها العريض بمختلف مكوّناته من علاقة التدابر التي تجعل المجتمع مَخْتُوما عليه بالكراهية والفكر الأحادي.

لكن هل يكفي الطموح وحده للإقناع والإصلاح؟!

إنّنا نحتاج من بين ما نحتاجه إلى حوار وطني واسع يقلّص من الصراع والتّنافي وما يصنعانه من تهديم لنرتقي بالتّدافع والتّنافس إلى عصر التعدّد المُـثْري والبناء الجديد.

د. احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.