أدب وفنون - 2018.06.28

عامر بوعزّة: من يــريد فرض ثقــافة الهامش؟

عامر بوعزّة: من يــريد فرض ثقــافة الهامش؟

تقدّم وسائل الإعلام الخاصّة بكثافة مواد ثقافية قد يعتبرها البعض في منتهى الرداءة والإسفاف، يشمل ذلك أغاني «الراب» المتداولة بقوّة بين اليافعين، والمنوّعات التلفزيونية ذات القوالب المستوردة، وصولا إلى إنتاج درامي تركّز الاختلاف في تقييمه على المضمون القيمي الذي يمثّله. ويتردّد باستمرار توصيف ما يحدث بأنّه «تدمير منهجيّ لبنية المجتمع القيمية والأخلاقية تحت مسمّى حرية التعبير والعولمة الثقافية» بل ويصل الأمر لدى البعض إلى اتّخاذ هذا الانفلات الثقافي دليلا على إخفاق المسار الثوري برّمته!

بعيدا عن نظــرية المؤامرة، تشهد الكثير من المضامــين الثقافية التي تعتمدها وسائل الإعلام حقّا على حـدوث انزياح كبير فقدت بموجبه بعض التعبيرات الفنية سلطتها على الذوق العام لفائدة أنماط تعبير جديدة قادمة من الهامش، فالمواجهة التي أودت إلى انهيار منظومة الحكم في 2011 رفعت شارة العصيان أمـــام كلّ ما يمثّل السّلطة القائمة بما في ذلك التعبيرات الثقافية والفنية السّائدة. وما نراه اليوم هو أيضا حصاد مرحلة اتّسمت بالانفلات احتدّ فيها الصراع بين المركّز والهامش. والثقافة الهامشية كما يعرفها رائد الجغرافيا السياسية «فريديريك راتزل» (1844 - 1904) هي الثقافة التي تتاخم ثقافة أخرى وتتميّز بفقر عناصرها واقتصادها، ويمكن سحب هذا التّعريف على كلّ أشكال التجاور في المنظومة الثقافية الواحدة لرؤية ديناميكية التحوّل داخلها، لقد رفعت «النّوبة» في بداية التسعينات الحصار على آلة «المزود» لتصبح جزءا من الثقافة الشعبية الرسمية، كما أخرجت «الحضرة» الأناشيد الصوفية من بين جدران الزوايا والحفلات العائلية الضيّقة لتصبح عرضا فرجويا واحتفالا جماهيريا فضلا عمّا أصبحت توفّره من مجالات للتجريب والابتكار في تطوير التراث. ولا يمكن عزل هذا التحوّل الذي أفضى إلى تبادل المواقع بين الهامشي والمركزي عن السياق السياسي والاقتصادي الذي حدث فيه حيث تزامن انهيار المعسكر الاشتراكي وقيام النظام العالمي الجديد مع حرب الخليج الثانية وكانت إعادة اكتشاف هذه التعبيرات تندرج في سياق معركة الاستثناء الثقافي في مواجهة العولمة، وكان ذلك أيضا جزءا من «المصالحة» التي باشرها النظام السياسي الجديد والتي أفضت إلى إعادة تشكيل خارطة مواقع القوى سياسيا واقتصاديا وثقافيا أيضا!

لكن عندما كتب الشاعر علي اللواتي في 2011 نشيدا في قالب قصيد عمودي على البحر المتقارب لحّنه ربيع الزموري بشكل أركسترالي، أخفقت كلّ محاولات وسائل الإعلام في جعله لدى الجمهور «نشيد الثورة التونسية»، ولم يستطع التفوّق رغم قيمته الإبداعية على نشيد آخر مجهول المصدر ردّده المعتصمون في القصبة. في تلك الفترة بدأت أغاني «الراب» تجد طريقها إلى وسائل الإعلام في سياق «تقديم البدائل» لا سيما أنّ هذه التعبيرات التي يقدّمها الشباب وتنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي تمتاز بجماليات تعبيرية مختلفة تستمدّ طاقتها من الواقع اليومي المعيش وتقوم مضامينها على التمرّد ومواجهة السلطة القائمة بكلّ تجلّياتها بدءا من سلطة اللغة والأخلاق وصولا إلى سلطة الدولة. وقد أدّى اعتبار الثّورة من صنع الهامشيين إلى جعل رموز السلطة يتودّدون بكل الأشكال لمن يمثّلون الهامش ويتقرّبون إليهم ولا يمانعون في أن تكون ثقافتهم مكوّنا أساسيّا في المشهد الثقافي، كأن تدرج حفلات الرّاب بكلّ ما تقدّمه من مضامين تحثّ على العنف والتمرّد والانحراف جزءا من برنامج مهرجان قرطاج السيادي، وكأن يترنم الباجي قائد السبسي أثناء حملته الانتخابية بأغنية «حوماني» ويتمايل طربا على أنغامها وهو يجالس ثلّة من الشباب ويعدهم بإعادة النظر في القوانين الرّادعة لتعاطي الزّطلة.لقد ارتبطت التحوّلات الثقافية الكـــبرى تاريخيا بالتحـــوّلات السيــــاسية، ولذلك فإنّ التدافع بين المركّز والهامش ليس الاّ صورة من صور التدافع بين الغالب والمغلــوب وفـــق التعريف الاجتمــاعي للثقافة لدى ابن خلدون، وبهذا المعنى تبدو الثقافة المركزية اليوم بكل تعبيراتها الفنية مهزومة في واقع ثقافي جديد فرضته ثورة قام بها «المهمّشون»، لكنّ الطريق الذي تسير فيه الثقافة اليوم مختلف عن الطريق الذي سلكته في بداية الاستقلال أو في التسعينات، فهي طريق تتّجه بقوّة نحو المجهول، يعود ذلك إلى فقدان السلطة القدرة على فرض «ما ينبغي أن يكون» ثقافيا، في ظلّ حرية مطلقة يتمتّع بها قطاع الإعلام الخاصّ الذي يوجّه الرأي العام دون ضوابط، ويساير شبكات التواصل الاجتماعي حيث لا سلطة لأحد مطلقا خارج ما يفرضه منطق الرّبح.

الثقافة الوطنية اليوم في حاجة إلى من يحرّرها من قبضة الصورة الاستهلاكية النمطية ومضامين العنف والمواجهة التي تتمعّش منها قنوات القطاع الخاصّ. لا نتحدّث هنا عن الرقابة بأشكالها التقليدية بل عن تخطيط استراتيجي ينبغي أن تقوم به وزارة الثقافة إجابة عن سؤال كبير «أيّ ثقافة نريد؟» وألاّ تقتصر في عملها على أن تكون مجرّد «متعهّد حفلات»، فالسلطة السياسية بكلّ مكوّناتها مؤتمنة على الثقافة واقعا ومآلا وعليها أن تستردّ دورها بفرض التنوّع، والعمل على أن تكون الثقافة في خدمة التنمية لا ضدّها وعلى جعل التدافع يحتكم إلى القيمة الإبداعية لا إلى قوّة رأس المال..

عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.