أخبار - 2018.06.26

ميّة الجريبي...نصاعة الثلج وصفاء النبع

ميّة الجريبي...نصاعة الثلج وصفاء النبع

ناصعة كالثلـج. صافيةً كالبلـور. مُتّقدة كما العين الثّاقبة. متناسقة كمــا القصيدة. تلك هي قامة ميّة الجريبي، ذات الأبعاد العـــصيّة على الإحصاء والعــدِّ. عرفتُها في بواكير الثمانينات. فتاةً نحيفــة ورشيقة، مـــع حيــوية لا تخطئُها العين. هي أصغرُنا سنّا، إذ لم تتجاوز الحادية والعشرين. كانت تأتي من صفــاقس، حيث تدرس البيولوجيا، للمشاركة في الاجتــماعــات والمشاورات التمهيدية لتأسيس حزب يساري كبير. نادى شقّ بالاكتفاء بداية بصحيفة تجمع المُتناثر، فيما أصرَّ آخرون على بعث حزب قانوني وطيّ صفحة العمل السرّي، خاصّة بعدما أجريت  أوّل انتخابات تعدديّة في 1981. في الأخير أسّس أكثر من أربعين وجها يساريا «التجمع الاشتراكي التقدمي»، الذي انبثق منه لاحقا «الحزب الديمقراطي التقدمي». كانت ميّة من بين المؤسّسين، وشكّلت مع عصام الشابي والتيجاني زايد وآمنة بن عثمان، الرافد الطلابي للحزب. ما أن أنهت دراستها في كلية العلوم بصفاقس، حتّى عادت لتستقرّ في بيت الأسرة برادس. وأثناء بحثها عن شغل، تعثّرت في أدراج صحيفة «الرأي»، التي كان يُديرها المرحوم حسيب بن عمار، فأقنعها بالعمل في الصحافة. وجدت ميّة في الصحيفة المستقلّة مساحة فسيحة من الحرية. كانت المغامرة شديدة الإغواء. وكان كلّ ما تملك حفنة من إرادة وثقافة محترمة باللغتين العربية والفرنسية. انطلقت تسعى للقبض على الحلم وفتح نوافذ للغد، فانتقلت بسلاسة من نافذة «الرأي» إلى نافذة «الموقف» بعد صدورها في ماي 1984.

لم تكتف ميّة بالكتابة وإجراء الحوارات والتّحقيقات، بل كانت تحضر كلّ فجر خميس، مع عصام الشابي، إلى حيث نصنع العدد الجديد في نهج القاهرة لينقلاه، على متن سيارة متهالكة، إلى المطبعة في المنطقة الصناعية بقصر السعيد. لم تستصغر ميّة يوما مهمّة عمليّة. كما لم تتهيّب من المهام الجسيمة. رأت الفكرة التي حملتها طويلا تنساب في شارع الحياة وتمشي في شوارع الناس. احتضنتها بقوة، بينما كنا نتردد في خوض مغامرة ترمي إلى بعث الأمل في جسد نصف نائم. وبعدما أسدل التصحّرُ السياسي والفكري ستائره على نوافذ البلاد في تسعينات القرن الماضي، ظلّت ميّة تُسرج قناديل الأمل. لا تملك سوى جسدها ووقتها تهبُهُما لتعبيد مسالك الحرية. وبعد تولّيها الأمانة العامّة لـ»الديمقراطي التقدّمي» لم تتخلّف أسبوعا واحدا عن القيام بزيارات إلى مختلف الولايات لحشد الأنصار وكسب الأعضاء الجدد، إلا إذا أقعدها المرض. وبالرّغم من تواضع الإمكانات كانت تُقدم على السّفر إلى قابس أو قبلي لرؤية ثلاثة أو أربعة أشخاص فقط، لأنها كانت تُؤمن بدور النواة الرّائدة والقائدة. بهذه الرّوح تعاملت مع مناطق مثل القصرين وسيدي بوزيد، فكان لها إسهام نوعي في إنضاج الظروف لانتفاضة 17 ديسمبر 2010 في الولايتين، وإن لم تتطرّق وسائل الإعلام إلى هذا الدّور. ينسى البعض أنّ ميّة هي الزّعيمة الوحيدة تقريبا، التي كانت تجوب مناطق البلاد قبل الثورة، لتحصد ما بذرته صحيفة «الموقف» في الأوساط السياسية والنقابية. ولذلك لم يكن غريبا أن تتنزّل المنزلة التي تبوّأتها يوم 14 جانفي: مُعتلية أكتاف المتظاهرين وشاهرة شارة النصر في قلب شارع بورقيبة.

في تلك اللحظات تذهب بك الذّاكرة وأنت تتأمّل الصّورة، إلى نساء خالدات أمثال نــور الهدى الشعــــراوي وجميلــــة بوحيرد ودولوريس إيبروري Dolores Ibárruri التي أطلق عليها الإسبان لقب الباسيوناريا La Pasionaria، وهي التي قادت الحزب الشيوعي الإسباني من 1942 إلى 1960، وكانت النائبة الجمهورية الوحيدة من بين أعضاء برلمان 1936 التي عادت إلى النيابة بعد عودة الديمقراطية في 1975. غير أنّ ميزة ميّة أنّها لم تسجن نفسها في قوالب عقائدية، وتعاطت مع الحياة في خصوبتها وتنوُّعها. ولذا لم تجد صعوبة في تجميع أعضاء المجلس التأسيسي من خارج نوّاب «الترويكا» حول شخصها لتخوض معركة كان الجميع يعلم سلفا أنّها ليست منافسة، بقدر ما هي تأسيسٌ رمزيٌ وتمرينٌ تطبيقيٌ على اتّباع التقاليد الديمقراطية السليمة. بهذا المعنى سيبقى الخطاب الذي ارتجلته بعد إعلان نتائج التصويت، وثيقة مرجعية.

إلى جانب دورها في المجلس التأسيسي، مضت إلى مهمّة من أعقد ما واجهها من أدوار في حياتها، وهي إعادة هيكلة الحزب الذي عرف هزيمة غير مُتوقّعة في انتخابات التأسيسي. واستطاعت فعلا أن تغدو بفضل قوة شخصيتها، العنوان المشترك لأكثر من ثلاثة أحزاب وسطية، تحت راية «الحزب الجمهوري»، الذي اختارها أعضاؤه في 9 أفريل 2012 زعيمة للحزب الجديد. لذا استهدفها الإرهابيون إذ عثر عناصر الأمن لدى الجماعات الارهابية على تخطيط مُفصل لبيتها في رادس. وحتى لما كلفت السلطات مُرافقا بحراستها، ظلّت ميّة تُخاتله وتقود سيارتها بنفسها لإنجاز مهمّات أو للتنقل إلى مقرّ عملها، لأنها تُصرُّ على ألاّ تحظى بامتيازات لا يحصل عليها المواطن العادي. ومنذ أن اجتاحها المرض أصرّت أيضا على التّداوي في المستشفيات العمومية.

كلمة أخيرة عن ميّة الإنسانة التي كانت أوّل من يتعاطف مع المظلومين، فلم تترك جلسة من محاكمات أبناء الحوض المنجمي في قفصة إلاّ وحضرتها على رأس وفد من الحزب. ولم يتعرّض شابّ من حزبها للاعتقال إلاّ وسارعت لزيارة الأسرة مرّات عدّة، حتى غدت صديقة تلك العائلات. وعندما تشنُّ راضية النصراوي إضرابا عن الطعام دفاعا عن زوجها، تكون ميّة أوّل من يُناصر حتى تكاد تُقيم معها في البيت. وعندما يُسجن محمد عبّو تكون هي المتطوعة لنقل زوجته بسيارتها إلى السجن لزيارته... رحلت ميّة لكن السنديانة مازالت هنا.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.