أخبار - 2018.06.25

محمد الهادي الزعيم: ماذا يريد الاتحاد العام التونسي للشغل؟

محمد الهادي الزعيم: ماذا يريد الاتحاد العام التونسي للشغل؟

لاحظنا منذ عدة أشهر تسارعا للحملة المتواصلة التي ترمي إلى شيطنة الاتحاد العام التونسي للشغل، بإلقاء اللوم عليه وتحميله مسؤولية  تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للبلاد. وقد وصلت ذروتها منذ أيام بعد تعليق اتفاقية قرطاج 1 وإجهاض قرطاج 2، ممّا جعل المنظمة الشغيلة تبدو "غير مسؤولة". ويتم في هذا الصدد تقديم مطالبة المنظمة برحيل يوسف الشاهد وحكومته كمناورة غايتها منعه من فتح "ملفات" تتعلق بفساد مفترض لبعض قادة النقابة المركزية. وفي المقابل ،وبينما يبحث نداء تونس عن موقف، تتلذذ النهضة بالظهور كنموذج للحكمة  والراعي الوحيد "لمصالح البلاد العليا"، وتعبر من أجل حمايتها عن استعدادها "لكل التنازلات وكل التضحيات ".

صحيح أنّ المطالبة بتغيير الحكومة، قبل ثمانية عشر شهرا من موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام 2019، يمكن أن يبدو بحق على أنّه نوع من الهراء. كما أنه من الهراء أيضًا أن نطلب من حكومة، شرعت في تطبيق سياستها الخاصة - وهي في الحقيقة ليست سياسة خاصة بها - بتنفيذ المحتوى المفترض لاتفاقية  قرطاج 2 المفترضة. وحتّى لو افترضن أنّه يمكن لها خلال هذه الفترة الوجيزة أن تترجمها إلى إجراءات عملية، وأنه لديها الإرادة والوسائل لإنجازها - ويمكننا أن شكّ في ذلك - فإن النتائج المرجوة ستستغرق عدة سنوات حتى تتحقق.

ونريد أن نبين أنّ مطالبة الاتحاد العام التونسي للشغل بتغييرات العميقة للحكومة، بما في ذلك رحيل يوسف الشاهد، لا يجب قراءتها كرفض للشخص ذاته، بل كرفض للسياسة التي أصبح يجسدها.

برنامج الإصلاح الهيكلي الجديد

لا شك أنّ الاقتصاد التونسي منهك الآن، كالجسم المجروح  النازف الذي فقدا جزءا كبيرا من دمه. لا أريد أن أضيف كلمة واحدة عن الأسباب الظاهرة، ولا أن أعيد استعراض المؤشرات الكارثيّة الأخيرة، لأنني لا أريد أن أضيف إلى ما يكرره "خبراؤنا"على كل الوسائط. ويمكن القول إنّ البلاد تواصل الوقوف على قدميها بفضل نتائج استثنائية للقطاع الفلاحي، وعمليات الضخ، خاصة تلك التي يتم تقديمها، بشكل مباشر أو غير مباشر، من طرف صندوق النقد الدولي. ومقابل ذلك فإنّ الصندوق يفرض وصفته الاعتيادية والتي لم تتغيّر منذ عقود، مع تعديلات صغيرة هنا وهناك، والتي تشمل فقط مستوى الجرعة ووتيرة العلاج، اعتمادا على الحالة الخاصة لكل بلد. والملاحظ أنّ هذه الوصفة تشكّل في الواقع جوهر وأساس ما تسميه الحكومة "الإصلاحات الكبرى". وهي تمثّل في نظرنا أول نقطة خلاف رئيسية بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة. وقد يبدو في ذلك موقف الاتحاد غير عقلاني، لملاحظ متسرّع أو سطحي.

كلّ يعرف "الحساسية" الطبيعية والاعتيادية للمنظمات النقابية تجاه هذا النوع من العلاجات.  ومن ضمن مكوّنات الوصفة فإنّ نقطتين هما الأكثر إثارة للجدل:

  • تخفيض الدعم للمواد والخدمات الأساسية،
  • خصخصة معظم المؤسسات العامة ، لاسيما تلك التي تعاني من عجز مزمن.

يجب على التونسيين أن يفهموا أنّ البلد أصبح أكثر فقراً - ومعه التونسيون ككلّ - وأنه لن يكون بالإمكان الحفاظ على مستوى المعيشة الذي عشناه من قبل دون المرور بفترة تعديل، أي مجموعة إصلاحات تهدف إلى تطهير المالية العمومية، واستعادة التوازنات الاقتصادية الرئيسية وترشيد تدخّلات الحكومة وإرجاع البلاد إلى العمل. في هذا التمشّي، يريد الاتحاد العام التونسي للشغل،  فرض "خطوط حمراء" معينة ، والتي أذكر منها أثنين هامين:

  • يجب عدم تحميل "التضحيات" التي لا مفرّ منها، كما هو الحال دائمًا، على العمال، 
  • يجب عدم تفكيك القطاع العام.

ولسائل أن يتساءل: ما هو منطق هذه "الخطوط الحمراء"؟

عندما يستعرض المرء النزاعات التاريخية التي عرفتها العلاقات بين الحكومة والنقابة منذ الاستقلال، يدرك أنّ هذه الصراعات تمحورت في أغلبها حول مفاهيم مختلفة لطريق الخروج من الأزمات التي عرفتها البلاد، والتي كانت دوماً تتجلى في تدهور حالة المالية العمومية والدفوعات الخارجية. وفي جلّ تلك الوضعيات كان موقف الاتحاد العام التونسي للشغل - عن صواب أو عن خطأ، بعقلانية أو برد فعل "غريزي" - مطالبا بأن لا يتم تحميل تبعات الأزمة وكلفة تجاوزها لجماهير الشغالين.

لقد جاء جانفي 2011 بتطلّعات جديدة، وبالأمل أن يكون لمن تمّ تهميشهم في العهود الماضية - فئات اجتماعية ومناطق - الحقّ في التعبير والتمتّع بالفوائد التي يفترض أن تحققها الثورة. ومن الواضح أنّ العكس قد حدث. القدرة الشرائية لجميع التونسيين تقريباً تتدهور باستمرار بشكل دراماتيكي و"الطبقة المتوسطة" تتقلص يوماً بعد يوم والفوارق الاجتماعية تزداد عمقا وحدّة. أما أولئك الذين يمتلكون موقعا من مواقع "القوة"، فقد بقي لهم إمكانية الدفاع عن مواقعهم ، وحتى اكتساب مواقع جديدة، في ظلّ الفوضى السائدة. والكلّ يعرف أنّ فترات الأزمات الكبرى هي الأكثر مواتية للتراكم غير الطبيعي للثروة وظهور طبقة "غنية جديدة".

تعارض المركزية النقابية -  وفي الظاهر، ضد المنطق - خصخصة بعض المؤسسات العمومية. ومن البديهي أنّ هذه المؤسسات - التي غالباً ما تعاني من عجز كبير - تشكّل عبئاً ثقيلاً على المالية العامة ، عوضا أن تكون دعما لها. ويرجع هذا العجز إلى اقتران العديد من العوامل، ويجب وضعه في إطاره الصحيح. فهذه المؤسسات مجبورة في أغلب الحالات على تسويق منتوجها بأسعار أقل من التكلفة الحقيقية، وتعاني من عدم الدفع من قبل الهيئات العامة وبعض شرائح المستهلكين، وهذا في الواقع مجرد انعكاس لحقيقة هي أنّ السلطة السياسية كانت دائماً تريد أن تحمّلها دورا "اجتماعيا" يشبه من بعض النواحي دور صندوق التعويض. إصلاح نموذج الأعمال لهذه الشركات (أي طريقة تنظيمها وتسييرها)  أمر حتمي وممكن. لكننا نفضّل اللجوء إلى الحلول السهلة والمربحة: ببساطة تصفية هذه الشركات عن طريق خصخصتها. هذا الخيار يعكس عدم وجود رؤية واضحة ومجدية لنموذج جديد لهذه الشركات ، لأنّ هذا النوع من النموذج يفترض عبقريًة أصبحت إلى حد ما سلعة نادرة. كما يفترض توافقا بين الجهات الفاعلة الرئيسية.

ويمكننا مقارنة شركة عامة بقطعة أرض موروثة من الأجداد تم إهمالها إلى أن تحولت إلى أرض قاحلة ومصبّا للنفايات. هذه القطعة هي احتياطي للأسرة عند الحاجة القصوى. وبدلا من الاعتناء بها وصيانتها للحفاظ عليها، تترك لحالها. وكلما تدهورت حالتها أكثر ، يصبح  من المنطقي والعقلاني التفويت فيها بأدنى الأسعار خاصة عندما يقع الورثة في ضائقة مالية. فالذئاب بالمرصاد متواجدة لجني الفاكهة التى نضجت. الحكومة لا تولي الأمر أهميّة، لأنّ خصخصة المؤسسات العمومية تمكّن من فوائد على المدى القصير: تخفيف الضغط على الموازنة العامة للدولة من خلال التخلص من العبء الذي يشكله الدعم الأبدي لها، وتوفير موارد حيوية من الدخل المتأتي من بيع هذه الشركات. أما المدى الطويل فذلك شأن آخر. قال أحد الاقتصاديين من أصدقائي، عن حق: إن المدى الطويل بالنسبة إلى أيّ حكومة، هو موعد الانتخابات القادمة.

اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي

الخيار الاستراتيجي الآخر الذي يعارضه الاتحاد العام التونسي للشغل ، هو مشروع اتفاق التجارة الحرة الكامل والمعمّق مع الاتحاد الأوروبي (ALECA).

ومن المفارقات أن تنطلق جولة جديدة من المفاوضات بين تونس والاتحاد الأوروبي حول هذه الاتفاقية في نفس اليوم الذي تجتمع فيه الأطراف المنخرطة في وثيقة قرطاج لتقرير مصير حكومة الشاهد. "بعد أربعين عاما من تنفيذ برنامج التعاون بين تونس وأوروبا، قد تغير الوضع في البلاد بالخصوص منذ عام 2011. هذا التحوّل الأكثر عمقا منذ الاستقلال، والذي تسارع خلال السنوات السبع الماضية، خلق وضعيّة جديدة وأنتج انتظارات جديدة يبدو أنّ الاتحاد الأوروبي لا يوليها الاعتبار الكافي. ولا تزال بروكسل تستخدم نفس النماذج ونفس مناهج المفاوضات ونفس الجدولة الزمنية المعتمدة في الماضي. "رسميا، تبدو النوايا نبيلة، غير أنّنا نلاحظ في الواقع ،أنّ  اللجنة الأوروبية تريد الكثير وتجذب الحبل لصالحها. والرؤية نفسها لا تأخذ في الاعتبار الوضع الجديد، في تونس وفي الاتحاد الأوروبي. 

وإنّ أخطر الشواغل هي التأثير الخطير للغاية لمشروع الاتفاق على القطاع الفلاحي. خلال ندوة نظمت الشهر الماضي من قبل مخبر أبحاث PS2D لكلية الاقتصاد    والتصرف بتونس،  قدّم ممثل الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري معطيات مفزعة لتبيان هذا التهديد، مبيّنا  أنّ 250000 من المزارعين من المرجح أن ينمحوا من الخريطة، وثلاثة قطاعات أساسية قد تندثر: الحبوب، وقطاع اللحوم الحمراء ومنتجات الألبان.

وأنا من بين أولئك الذين يعتقدون أنّ التنمية المستدامة لبلدنا غير ممكنة بدون فلاحة مزدهرة وقابلة للبقاء. إنّ تصفية بعض القطاعات الحيوية، حتى لو كانت أقل قدرة على المنافسة، لصالح المنتجات المخصصة للاستهلاك في أوروبا، حتى ولو تدرّ أرباحا أكبر، تنمّ عن قصر النظر، ممّا يضع البلاد على مدار غير مستقر للغاية وخطير جدا. في حالة حدوث أي أزمة، سنجد أنفسنا مع فائض للبضائع "غير الضرورية" وقلة للموارد لاستيراد المنتجات لتغطية الاحتياجات الأساسية لدينا.  ويمكننا أن نطيل القول حول التأثير السلبي للغاية على البيئة والموارد الطبيعية - وأولاً وقبل كل شيء التوازن المائي والاجتماعي وأمن البلاد. 

من الضروري الحفاظ على عالمنا الريفي وجعل الفلاحة نشاطاً يضمن للفلاح العيش الكريم، وهذا خارج منطق التنافسية. الفلاحة هي للبلاد تأمين على الحياة. كما يجب علينا الحفاظ على البيئة ورفض أي اتجاه قد يهدّدها بشكل لا رجعة فيه ، حتى لو كانت الفوائد  على الأمد القصير والمتوسط  حقيقية من حيث الوظائف أو عائدات النقد الأجنبي. وأضيف أنّ في هذا توجّه يشكل المحور  الأساسي - وأنا أدعي أنّه الوحيد - لأولئك الذين يسعون إلى معالجة الاختلال التنموي المزمن بين الفئات والجهات.

إنّ النسخة الجديدة من برنامج الإصلاح الهيكلي، والذي تم تكييفه في شكل "برنامج الإصلاحات الكبرى" - من جهة، واتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي، من ناحية أخرى، هما الآن الركنان الأساسيان  للسياسة التنموية الاقتصادية للحكومة. يشكل الأوّل المدى القصير والمتوسط، وله أهداف "الإنقاذ" بشكل أساسي، لكن لمحتواه لا محالة تأثيرات هيكلية طويلة المدى. ومشروع الاتفاق مع الإتحاد الأوروبي هو خيار مجتمعي حقيقي مستقبلي للبلاد. وإن التغييرات التي يفترضها سوف تغير المجتمع بطريقة عميقة يصعب التراجع فيها. لقد التزم يوسف الشاهد، كرئيس للحكومة ، وبصفة شخصية ، في اتجاه يبدو من الصعب عكسه، وأعلن بوضوح خلال المحادثات رفيعة المستوى التي تمت ببروكسل يوم 24 أبريل، أنه سيتم التوقيع على هذا الاتفاق خلال 2019. ولذلك فمن المفهوم أنّ أولئك الذين يشكّكون في هذه الخيارات الأساسية، وعلى رأسهم الإتحاد  العام التونسي للشغل، يعتبرون أنّ يوسف الشاهد رمز وأيقونة للسياسة المتنازع عليها.

وفي المقابل، فإن النهضة، وهي القوة الوحيدة الأخرى التي تهيمن على المشهد السياسي (مع الاتحاد العام التونسي للشغل)، تعبّر عن تعلقها بيوسف الشاهد. على مستوى الخطاب، هذا التعلق له ما يبرّره، كما قلنا في البداية، بإدّعاء الحفاظ على الاستقرار الضروري. في هذه اللعبة يحلو للنهضة أن تظهر كنموذج للحكمة، والضامن الوحيد "لمصالح البلاد العليا"، من ذلك  "استعدادها لكل التنازلات وكل التضحيات". في الواقع، وبشكل ضمني، تريد النهضة أن تظهر لدى شركائنا بأنها القوّة السياسية الوحيدة القادرة على حماية مصالحها وضمان تنفيذ إملاءاتها.

إذا كان موقف الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية مفهوما، فإنّه يعسر تفهّم موقف الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري الذي الذي يستنكر النتائج الخطيرة لمشروع الاتفاق على القطاع الزراعي من جهة، ويدعم الحفاظ على حكومة تلتزم بالانخراط  فيه، من جهة أخرى. ويرى بعض الملاحظين أنّه لا يمكن تفسير هذا التناقض إلا بتبعية مزعومة لقيادة المنظمة لبعض التيارات السياسية.

لقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل طرفا فاعلا في كل المعارك السياسية  الحاسمة منذ الكفاح ضد المستعمر، و ضدّ دكتاتوريتي بورقيبة وبن علي، حتى أحداث ديسمبر 2010 وجانفي 2011. و الكل يعرف الدور المهم الذي لعبته هذه المنظمة إبّان الانتفاضة الشعبية في المناطق بتوفير التأطير والحماية للمتظاهرين. ولقد كانت دوما المعقل الأخير ضد الانحرافات والأخطاء. ليس الاتحاد نقابة بالمعنى التقليدي للمصطلح ولن يكون أبدًا. وقد كانت هذه الازدواجية نتيجة حتميّة للوضع الذي كان يهيمن عليه حزب واحد. وحتى بعد الثورة، تم الحفاظ على الجانب السياسي، وفي بعض الأحيان تم تعزيزه في مواجهة مشهد سياسي قد يهيمن عليه لون واحد يشكل عودة للديكتاتورية في أشكال أخرى، وأمام عجز الأطراف السياسية عن استنباط أنموذج تنموي يمكّن من تحقيق الأهداف التي انتفضت من أجلها جلّ الشرائح الاجتماعية. وهل يمكن أن نطالب منظمة مهمتها الدفاع عن مصالح السواد الأعظم من الشعب أن يقتصر دورها على المطلبية وأن لا تتدخل في خيارات سياسية واقتصادية عندما تعتبر أنّ تلك الخيارات قد يكون لها تبعات سلبية على مصالح البلاد وبالتالي منظوريها.

الاتحاد، مثل أي منظمة جماهيرية أخرى، لديها "خرافها السوداء"، و"فاسدوها"، ومغامروها والمتمعشون منها. ولكن ذلك لا يبرر الدعوى إلى "رمي الطفل مع ماء الحمام" ، فتلك حكاية أخرى. 

في مواجهة حملة التشويه التي تستهدفه، والتي يتوقّع أن يتم تضخيمها، من المستعجل أن يخرج الاتحاد من صمته وأن يطرح النقاش في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية على الساحة العامة. نحن نشغل الناس من خلال نقاشات ثانوية في مسائل يتفنن البعض جاهدين في إثارتها دوريا، بينما لا يدرك المواطن على الإطلاق أننا نتفاوض على اتفاق استراتيجي حيوي مع الاتحاد الأوروبي، مثلا. البعض يجدون أنّه من السهل والمفيد أن يتم مهاجمتهم على مستوى مراجع ثقافية أو دينية، هي في الحقيقة قاسم مشترك للسواد الأعظم من الشعب التونسي، إذ يمكّن ذلك من أن يشغلهم عن النظر والبحث عن المصالح الرئيسية وغير المعترف بها، التي يعملون في صمت من أجلها.

في حتمية بديل؟

إذا لم تحاول قوى التقدم أن تقترح بديلاً جريئًا ومعبّئًا وواقعيًا، لا يكون نسخة أخرى للخطاب الغريزي "لليسار التقليدي"، فإنني أتوقع بأنها ستترك المجال فسيح في الانتخابات المقبلة لمزيج من الشعوبيين من جميع الأنواع. وليس لهؤلاء برنامج، ما عدا إدانة التجاوزات الحقيقية للآخرين، ومكافحة مفترضة للفساد، والسعي إلى "تنظيف" خادع للطبقة السياسية. وسيلقى هذا الخطاب آذانا صاغية   لدى الأغلبية الساحقة من التونسيين، تزيده جاذبية و"لذة" الجرأة اللفظية المتطرفة، التي غالباً ما تقترب من الجلد والإعدام بلا محاكمة ولا يقوى على مجابهته الخطاب "العقلاني" المفترض للحكومة، الغائب، عند البقية. وسيكون ذلك مدخلا لجولة جديدة من الأخطاء، ستكون هذه المرة، قاتلة.

في مواجهة الرفض الصريح، أدعو إلى الاعتراف بحقيقتين.

أولا ، التعديل أمر لا مفرّ منه

الاقتصاد التونسي منهك حقا. يجب على التونسيين أنّ يفهموا أن البلد أصبح أكثر فقراً - ومعه أغلبية التونسيين - وأنه لن يكون بالإمكان الحفاظ على مستوى المعيشة الذي عشنا من قبل، دون المرور بفترة تعديل، أي جملة من الإصلاحات تهدف إلى تطهير المالية العامة، واستعادة التوازنات الاقتصادية الرئيسية، وترشيد تصرف الحكومة وإعادة البلاد إلى العمل.

بعض الجهات الفاعلة – (الحكومة في الصدارة) - لا ترى حلاً سوى ذلك الذي يقدمه صندوق النقد الدولي، بينما يقترح البعض الآخر "البحث عن المال" حيث يعتقدون أنه موجود. على سبيل المثال، يشكّل الإصلاح الجبائي أمرا ضروريا ولكنه لن يؤدي إلا إلى حلّ المشكلة بشكل عابر. ويمكن أن يكون أحد التدابير الرامية إلى جعل التكلفة الاجتماعية للإصلاح أكثر إنصافاً، إذا تفادينا ما قد ينجرّ عنه من إعاقة للمبادرة والعمل. على سبيل المثال أيضا، فإن تطوير ما يعرف "بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني" يمكن أن يكون توجّهاً مهماً. لسوء الحظ، لا يزال هذا الخيار يفتقد إلى مفهوم واقعي ومبتكر لهذا القطاع. يجب أنّ نفهم أن شعار "إنقاذ الاقتصاد التونسي" لا يكتسي بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من التونسيين أي معنى. وبالنسبة إلى أولئك الذين وصلوا إلى القاع، لا يهم أن يغرق القارب ، ليس لديهم ما يخسرونه. وفي اتجاه هؤلاء ، سيكون علينا أن نبتدع خطابًا يعيد تعبئتهم ، وتنفيذ تدابير ملموسة تُظهر أنّ هذا الخطاب لا يصاغ لخداعهم  في انتظار مرور العاصفة، ثم "تعود حليمة إلى عادتها القديمة ".

أوروبا هي شريكنا الأول على جميع الجبهات ، وستظلّ كذلك

أوروبا هي شريكنا الأول على جميع الجبهات، وستظل كذلك. مئات الآلاف من التونسيين أصبحوا أوروبيين الآن، وسوف تنمو أعدادهم. أنا من بين أولئك الذين يعتقدون أنّ مستقبلنا سيكون مرتبطا بشكل كبير بأوروبا، ولكن ليس بأي شكل من الأشكال. في الوقت الذي ترتفع  فيه أصوات في أوروبا رافضة للخيارات التي فرضتها المفوضية الأوروبية على مجتمعاتهم، من المشروع أن نسأل أنفسنا ما إذا كان توكيل المفوضية الأوروبية لكي تختار نموذجنا التنموي هو الاختيار الأمثل. والمحنة تكمن في انعدام الأنموذج لدى هذه الحكومة.

من المهم أن نشير إلى أنّ هذه الرؤية للعلاقة مع العالم بشكل عام وأوروبا بشكل خاصّ، لا تندرج في خانة الانعزالية، ولا المنطق التقليدي المتمثل في المقاطعة والمواجهة. من المفارقات أن يكون الكفاح ضد هيمنة المؤسسات الأوروبية في أوروبا نفسها مدعوما في نفس الوقت من قبل القوى السياسية الرجعية وحتى العنصرية من جهة، وبعض من قوى التقدم، من جهة أخرى. في حين يمكن  أن نعتبر الأولى خارجة عن التاريخ، فإنّ الأخيرة تناضل من أجل علاقة أكثر عدلاً بين الشعوب ، من أجل احترام التنوع الثقافي وحقوق الإنسان. ونحن نعتقد أنّ بناء العالم الجديد لا يمكن أن يتم إلاّ  مع هذه القوى.

في تونس ، أخيرا، يواجه هذا التوجّه بالتأكيد حالة طوارئ لا يمكن تحملها.

عندما ينزف الجسم، فإنّ العمل المستعجل هو إيقاف النزيف. ،أما تشخيص المرض العميق الجذور الذي يقف وراء النزيف والذي يجعله مزمنًا، واستنباط الإجراءات "الهيكلية" للقضاء عليه يمكن أن ينتظر في نظر السلطة الحاكمة. إن عبقرية الحاكم هي التأكد من أن معالجة النزيف لا تجعلك تنسى الداء العميق، وأنها لن تساهم في جعله أعمق. فإن دوام السلطة السياسية يعتمد لسوء الحظ على وقف النزيف أكثر من اعتماده على اعتماد علاج طويل الأمد. ربما يكون هذا هو التحدي الرئيسي الذي يواجه تونس اليوم، ونحن نفهم أولئك الذين يناضلون، في بعض الأحيان غريزيًا، لكي تغيير الأشياء. يجب أن يساهم هؤلاء اليوم في وقف النزيف وفي نفس الوقت يقترحون ويعملون من أجل مشروع تقدّم.

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.