الرئيس الأمريكي دونالد ترامب, بين »اغتصاب« الحقوق الفلسطينية و»التحرّش« بالنظام العالمي القائم

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب, بين »اغتصاب« الحقوق الفلسطينية و»التحرّش« بالنظام العالمي القائم

من الطبيعيّ أنْ يتركّز اهتمام العرب والمسلمين، هذه الأيام، من ناحية أولى، على نقل الولايات المتحدة الأمريكية سفارتَها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وحمّام الدم الذي رافقه في غزّة، ومن ناحية ثانية، على نقضها للاتّفاق الذي عقدته «مجموعة الخمسة زائد واحد» مع إيران حول البرنامج النووي الإيراني سنة 2015 والذي اعتبره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأسوأ في التاريخ الأميركي، فهذان الحدثان الجَلَلاَن وما كان وسيكون لهما من ارتدادات يهمّان الأمّتين العربية والإسلامية بشكل مباشر وجوهري، غير أنّهما لا ينبغي أن يحجبا عن الأنظار أنّهما ليسا سوى حلقتين في سلسلة طويلة من التحرّكات والقرارات والمواقف المتتابعة الأخرى التي اتخذها الرئيس الأمريكي منذ تولّيه الحكم قبل ستّة عشر شهرا.

وتتمثّل أهمّ هذه التحرّكات والقرارات والمواقف التي تنذر بخلخلة، إن لم نقل تقويض القواعد التي يقوم عليها النظام العالمي الراهن، فيما يلي:

  • في 27 جانفي 2017، أي أسبوعا واحدا بعد تولّيه الحكم، وبدعوى «حماية الأمّة من دخول إرهابيين أجانب إلى الولايات المتحدة» وقّع الرئيس دونالد ترامب، قرارا أراد بموجبه أن يعلّق دخول اللاجئين بالكامل إلى بلاده لمدة 120 يوما على الأقل، واللاجئين السوريين إلى أجل غير مسمًّى، كما علّق القرار لمدة 90 يوما إسناد تأشيرات الدخول لمواطني سبع دول إسلامية هي إيران والعراق وليبيا والصومال والسودان وسوريا واليمن. وقد أثار هذا القرار فور الإعلان عنه فوضى في المطارات الأمريكية وموجة احتجاجات ومظاهرات مندِّدة بالتمييز ضدّ المسلمين، كما أجّج استنكار المنظمات الحقوقية، علما بأنّ القضاء الأمريكي اعترض عليه وعلى كلّ النّسخ المُعَدَّلَة منه التي تلته...
  • في مارس 2017، قام الجيش الأمريكي، خارج أيّ شرعية دولية، بتوجيه ضربة صاروخية لقاعدة «الشعيرات» الواقعة قرب مدينة حمص، تحت ذريعة استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي في بلدة خان شيخون. وفي بداية أفريل 2018، وعشيّة انعقاد القمّة العربية التّاسعة والعشرين بالظهران، عادت الولايات المتحدة من جديد الى ضرب سوريا بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا تحت نفس الذّريعة أي استخدام السلاح الكيميائي، ودوما خارج أيّ شرعية دولية.
  • في أفريل 2017، أعلنت الولايات المتحدة عن وقف مساهمتها في تمويل صندوق الأمم المتحدة للسّكان الذي يدعم برامج رعاية صحة الأم والطفل في 150 دولة، بتعلّة أنّ البرنامج يدعّم سياسة «الإجهاض القسري».
  • في أواسط أفريل 2017، استخدم الجيش الأمريكي، لأوّل مرّة، ما سمّاه بـ»أمّ القنابل» (قنبلة تزن 9.800 كيلوجراما)، في ضرب بعض الجبال التي يتحصّن بها مقاتلو طالبان. 

وقد عبّر الرئيس دونالد ترامب عن فخره بنجاح الجيش الأمريكي في تنفيذ هذه العملية، بينما أدانها الرئيس الأفغاني السابق، حميد كرزاي، قائلا إنّها «غير إنسانية وتدلّ على أبشع استغلال لأفغانستان» التي تستخدم الولايات المتحدة أراضيه في تجربة أسلحتها الجديدة.

  • في 01 جوان 2017 أعلن الرئيس دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ التي يعتبر أنّها تعود بالمنفعة على الدول الأخرى، وبالمضرّة على بلاده، وأكّد أنّ بلاده ستعيد التفاوض حولها للحصول على معاملة منصفة للمصالح الأميركية ولدافعي الضرائب الأمريكيين.
  • في 19 سبتمبر 2017، أعلن الرئيس دونالد ترامب في أوّل خطاب يلقيه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الولايات المتحدة ستخفّض من حجم مساهمتها في ميزانية المنظمة الأممية لأنّها تعتبر أنّ إصلاحها، لِكَيْ تكون شريكا فاعلا في مواجهة التهديدات المحدقة بسيادة الدول الأعضاء وأمنها واستقرارها، يستدعي بصورة خاصّة، أن تساهم هذه الدول في ميزانيتها بشكل عادل، إذ ليس من الإنصاف، أن تتحمّل الولايات المتحدة وحدها 22 بالمائة من هذه الميزانية.

وبالفعل فقد قرّرت واشنطن تخفيض مساهمتها في ميزانية سنة 2018/2019 بـ 285  مليون دولار.

  • في نفس هذا الخطاب، هاجم الرئيس دونالد ترامب كوريا الشمالية بدعوى أنّ برنامجيها النووي والصاروخي يثيران التوتّر في شبه الجزيرة الكورية وقد توعّد «بتدميرها بالكامل إذا اضطرّت الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها أو عن حلفائها».

وعلى إثر ذلك أمر بتحريك الأسطول الأمريكي السابع للمناورة في مواجهة ســـواحلها...

ورغم أنّ الجانبين الأمريكي والكوري الشمالي اتّفقا، على عقد قمّة بين رئيسيهما في 12 جوان في سنغافورة، فإنّ واشنطن واصلت تهديداتها للرئيس الكوري حيث توعّدته بأنه سيلقى مصير الرئيس صدام حسين والعقيد معمر القذافي إنّ لم يستجب لمطالبها.

  • في 12 أكتوبر2017 أعلنت الولايات المتحدة الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، بسبب ما سمّته «قلقها من استمرار انحيازها ضدّ إسرائيل»، وكانت قبل ذلك قرّرت منذ أكتوبر سنة 2011 التوقّف عن تمويل المنظمة بسبب منحها العضوية الكاملة لدولة فلسطين. وقد ازدادت العلاقة بين واشنطن واليونسكو تشنّجا على إثر سلسلة من القرارات التي اتخذتها المنظّمة خلال السنوات الماضية والتي تعلّقت باعتبار المدينة القديمة في الخليل «منطقة محميّة»، تابعة للتراث العالمي، وبإدراج البلدة القديمة في القدس المحتلّة وأسوارها ضمن قائمة المواقع المعرّضة للخطر في العالم، وبنفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق الذي يسمّيه اليهود «حائط المبكى»، حيث اعتبرتهما تراثا إسلاميا خالصا، وبالتأكيد سنة 2017 على قراراتها السابقة التي تعتبر إسرائيل محتلّة للقدس، وترفض سيادتها عليها.
  • في 13 أكتوبر 2017 ألقى الرئيس دونالد ترامب خطابا خصّصه لإيران، وقد رفض فيه الإقرار بأنّ طهران التزمت بمقتضيات الاتّفاق المبرم حول برنامجها النووي، مؤكّدا أنّها لا تحترم روحيّته. 

وقد فوّض الخزانة الأمريكية لفرض عقوبات على الحرس الثوري الإيراني، باعتباره داعما للإرهاب، وأعلن أنّه سيعمل مع حلفاء الولايات المتحدة من أجل مواجهة أنشطة طهران «المزعزعة للاستقرار والداعمة للإرهاب في المنطقة». 

  • في نوفمبر 2017، وعند التصويت في الأمم المتحدة على مشروع القرار الرافض لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، (صوّتت لفائدته 128 دولة)، هدّد الرئيس دونالد ترامب بقطع المساعدات المالية التي تقدّمها بلاده للدول التي ستصّوت لصالح هذا المشروع، وقال في هذا السياق: «إنهم يأخذون مئات الملايين من الدولارات، وحتّى مليارات الدولارات، ثم يصوّتون ضدّنا. حسنا، سنتابع هذا التصويت، دعهم يصوّتوا ضدّنا، سنوفّر الكثير من الأموال، نحن لا نهتم».
  • في أوائل ديسمبر 2017 أعلنت الولايات المتحدة الانسحاب من عملية إعداد الميثاق الدولي لتحسين التعامل مع أزمات المهاجرين واللاجئين الذي تعتزم الأمم المتحدة إصداره سنة 2018، لأنّه «يتناقض» مع سياساتها حيث أنّه يتضمّن أحكاما عديدة تتضارب مع مبادئ وقوانين الهجرة واللجوء الأمريكية.

على أنّ الرئيس دونالد ترامب لم يتوقّف عند هذه التحرّكات والقرارات والمواقف التي في بعضها «اغتصاب» لحقوق الشعب الفلسطيني الثّابتة وغير القابلة للتصرّف، وفي بعضها الاخر «تحرّش» بجوانب عدة من النظام العالمي القائم، وإنّما امتدت «تحرّشاته» حتّى الى علاقاته مع أهمّ حلفائه. ومن ذلك مثلا أنّه بادر، منذ اعتلائه كرسيّ الرئاسة، إلى انتقاد «حلف شمال الأطلسي» واعتباره «حلفا متقادما» قد عفا عليه الزمان، ولا جدوى من بقائه، خاصّة وأنّ الولايات المتحدة تدفع حصّة مبالغا فيها من مصاريفه، مقارنة مع ما تدفعه بقية الدول الأعضاء. غير أنّه ما لبث أن راجع هذا الموقف، وتراجع عنه حيث أكّد في أوّل قمّة يحضرها للحلف في 25 ماي 2017 ببروكسيل، أنّ هذا الحلف يمكن أن يكون «حلف المستقبل» شريطة أن «يركّز على الإرهاب والهجرة وعلى التهديدات الروسية لحدوده الشرقية والجنوبية». ونفس الملاحظة تنطبق على انسحاب الولايات المتحدة من اتّفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، التي تضمّ 12 دولة، هي إلى جانب الولايات المتحدة، أستراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، والبيرو، وسنغافورة، وفيتنام. ومع أنّ الرئيس دونالد ترامب فتح الباب في 26 جانفي 2018، على هامش مشاركته في منتدى دافوس بسويسرا، أمام عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية التبادل الحر لدول المحيط الهادئ، فإنّه ربط هذه العودة بالتوصّل الى صيغة اتفاق أفضل من الاتفاق السابق.كما تنطبق على مطالبة واشنطن بإعادة النظر في اتفاقية التجارة الحرّة لأمريكا الشمالية (نافتا NAFTA)، ففي 23 جانفي 2017 وقّع الرئيس دونالد ترامب قرارا يتعلّق ببدء المفاوضات مع كندا والمكسيك حول تغيير شروط هذه الاتفاقية التي كانت الدول الثلاث أبرمتها سنة 1994، والتي تهدف الى إزالة العوائق الجمركية وتعزيز الروابط الاقتصادية، وتبادل الاستثمارات، وإنشاء سوق إقليمي موحّد بينها. ومن أهمّ وربّما أخطر قرارات الرئيس دونالد ترامب في نفس المجال، إعلانه في مارس 2018 حربا تجارية على أوروبا من ناحية وعلى الصين من ناحية أخرى من خلال «الإجراءات الحمائية الأحّادية» التي اتّخذها للتقليص من العجز التجاري الأمريكي المقدّر بـ800 مليار دولار سنويا.

أما فيما يتعلّق بأوروبا، فإنّ الرئيس دونالد ترامب يطالبها بإزالة الرسوم الجمركية التي تفرضها على المنتجات الأمريكية في مقابل إعفاء أعضاء الاتحاد الأوروبي من الرسوم المفروضة على الصّلب والألمونيوم، وقد هدّد بأنّه في حالة عدم تعاون الاتّحاد معه في هذا المجال، سيفرض رسوما جمركية جديدة على واردات السيّارات الأوروبية.كما أعلن أنّ الإدارة الأمريكية تنوي فرض رسوم إضافية على واردات الولايات المتحدة من مواد الصلب والألمنيوم من بلدان الاتحاد الأوربي تصل إلى 25 % من القيمة العامة للمشتريات، وذلك ردّا على الرسوم التي يعتبرها ضخمة والتي يفرضها الاتحاد الأوروبي على شركات أمريكية تعمل في دول الاتحاد. وأمّا بالنّسبة الى الصين فانّه يتّهمها بسرقة مئات المليارات من الدولارات من حقوق الملكية الفكرية العائدة للشركات الأميركية، وباعتماد ممارسات تجارية غير عادلة، وهو يطالبها بتخفيض العجز التجاري الأمريكي معها بمقدار 100 مليار دولار سنويا علما بأن الصين مسؤولة، حسب قوله، عن نصف العجز التجاري الإجمالي للولايات المتحدة، أي عن 400 مليار دولار كل سنة... وغنّي عن البيان أنّ مجمل هذه المواقف والقرارات والتحرّكات (وما قد يأتي من أمثالها مستقبلا)، تعني فيما تعنيه أنّ الرئيس دونالد ترامب بصدد العمل، بطريقة منهجية، على تهديم الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية والقواعد التي تأسّس عليها النظام العالمي الحالي، تمهيدا لإعادة تشكيل العالم على مقاس مصالح  وأهواء بلاده تطبيقا للشعارين اللذين رفعهما خلال حملته الانتخابية: «أمريكا أوّلا» و»إعادة أمريكا إلى عظمتها»، وتجسيما للأولويات الحيوية الأربع التي بنى عليها رؤيته للأمن القومي الأمريكي وهي، للتذكير، حماية الأراضي الأمريكيّة، وتشجيع الازدهار الأمريكي، والحفاظ على السلام بالقوّة، ونشر النفوذ الأمريكي في العالم.

ولطالما تبجّح الرئيس دونالد ترامب بأنّه بصدد إعداد العدة لتجسيم هذه الأولويات لا سيّما من خلال توقيعه، في 12 ديسمبر 2017، على أكبر ميزانية حربية في التاريخ الأمريكي حيث بلغت هذه الميزانية 700 مليار دولار، وقد قال بهذه المناسبة: «بتوقيعنا الميزانية الدفاعية نحن نسرّع عملية استعادة القوة العسكرية للولايات المتحدة بالكامل، وسيرفع القانون من مستوى استعدادنا القتالي، وسيعزّز الإجراءات لتحديث قوّاتنا المسلّحة وسيساعدنا في تقديم الموارد الضرورية لعسكريينا». وفي رأيي، فإنّ هذا «النّهج» الأناني النّرجسي الذي يتوخّاه الرئيس الأمريكي، بكثير من العجرفة والغطرسة، نهج طبيعي من رئيس ذي شخصية تتّسم، حسب الدراسات العلمية النفسية بـ«التسلّط والانغلاق والتمحور العِرقي، والتعصّب والنّزوع إلى السّيطرة، ودرجةٍ عاليةٍ من القلق النفسي، والحاجة إلى القوّة للتعويض عن الإحساس المنخفض بأهمية الذّات»، ومن دولة ذات طبيعة «امبراطورية» انفردت، طيلة أكثر من عقدين من الزمن، بعد انهيار جدار برلين، بقيادة العالم بل بالهيمنة عليه، إذ ليس من السّهل عليه ولا عليها أن يقبلا بالنظام التعدّدي أو متعدّد الأقطاب الذي هو اليوم بصدد «النّشوء والارتقاء» تدريجيا... غير أنّ الأمر غير الطبيعي هو أن يظلّ العالم يتفرّج على «اغتصابات» و«تحرّشات» الرئيس دونالد ترامب دون أن يحرّك ساكنا أو دون أن يتحرّك بما يكفي من الحزم والنّجاعة.

كما أنّه من غير الطبيعي أن تظلّ الرُدود على هذه «الاغتصابات» و»التحرّشات» ردودا فردية محتشمة ومحدودة المجال... إنّ المطلوب في هذه الآونة هو أن تعمل دول العالم مع بعضها البعض لتُفْهِمَ الرئيس دونالد ترامب أنّها غيرا راضية عن نهجه وغير موافقة عليه، وأنّ عليه وعلى واشنطن أن يقبلا بالعالم متعدّد الأقطاب الناشئ رغما عنهما، وأنّ شعار «أمريكا أولا» لا ينبغي أن يعني «أمريكا وحدها» مثلما قال هو نفسه في منتدى دافوس الأخير..

ولعلّه من المهمّ أن نذكّر في الختام، بأنّ الدعوة الى إقامة نظام عالمي جديد ليست بالأمر الجديد، وقد يكون آن الأوان لإحياء هذه الدعوة واستئناف العمل من أجل إقامة هذا النظام، لكن ليس على يد الرئيس دونالد ترامب والولايات المتحدة وحدهما، وانّما على يد مختلف بلدان العالم، كبيرها وصغيرها على حدّ سواء، بل وخاصّة على يد بلدانه الصغيرة التي يفترض أن تتكتّل وأن تشكّل جبهة قويّة موحَّدة لتسهم في رسم ملامح عالم الغد الذي ينبغي أن يعيد إليها بعض حقوقها المهضومة وأن يكون أقل توحّشا وأكثر أنْسَنَةً في معاملتها.

محمّد ابراهيم الحصايري

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.