ثقافة - 2018.06.19

الدراما التّلفزية في رمضان, شُحّ في الإنتاج وضمور في الخيال

الدراما التّلفزية في رمضان, شُحّ في الإنتاج وضمور في الخيال

اعتادت القنوات التلفزية التونسية أنّ تتسابق في شهر رمضان لتقديم أعمال درامية من شأنها إشباع انتظارات المتفرّج المتعطّش إلى إنتاج درامي وطني، راق أصيل. وبانقضاء الشهر المبارك، حريّ بنا أن نسلّط الضوء على أبرز الأعمال التي شغلت الناس وشكّلت موضوع الساعة في وسائل الاتّصال السّمعي البصري ومواقع التواصل الاجتماعي على مدى الأيّام الماضية. ومن اللافت للنظر، غياب الإنتاج الدرامي عن التلفزة التونسية في سابقة هي الأولى في تاريخ المرفق العمومي نتيجة غياب الاعتمادات المالية وضبابية الرؤية، مقابل حضوره بصورة حصرية في القنوات التلفزية الخاصّة..

مع خروج الشّهر الكريم، يسدل الستار على الموسم الدرامي الرمضاني لهذه السنة، والذي عرف شحّا على مستوى الإنتاج وإخفاقا لبعض الأعمال التي كانت خارج السياق الفني للعمل الإبداعي، وذلك نتيجة غياب الخيال وافتقاد بعض النصوص الدرامية إلى الحبكة المتقنة، بالإضافة إلى ضعف الأداء الفني لبعض الممثّلين. فبعض الأعمال ولد مشروعا ميّتا حيث لم يتبنّاه المشاهدون ولم يتحمّسوا له، وبعضها الآخر لاقى الاستحسان منذ عرض الحلقات الأولى وحظي بمتابعة جماهيرية كبيرة.

كما راهنت جميع القنوات التلفزية التونسية، بنوعيها العمومي والخاصّ، على «كوميديا الموقف» أو بما يعرف بـ « السيت كوم» (Sitcom) وهي عبارة عن سلسلة تلفزيونية فكاهية، لا تتطلب إمكانيات مادية وتقنية ضخمة، وتهدف بالأساس إلى الإمتاع وتسلية الجمهور عبر تضخيم الحدث وتقديم شخصيات ومواقف هزلية. غير أنّ هذه الأعمال كانت في مجملها باهتة وبلا روح وفارغة من أيّ مضمون أو رسالة، وصلت إلى حدّ التهريج والسطحية المبتذلة في الكوميديا نتيجة اجترار القوالب القديمة والصوّر النمطيّة.وعلى الرّغم من أنّ الساحة الفنية تزخر بفنانين موهوبين وبتقنيين على مستوى عال من الحرفية، فإنّ بعض الأعمال الرمضانية كانت ضعيفة ولم تخل من كثرة الأخطاء الإخراجية والتّصويرية الفادحة وذلك نتيجة تأخّر موعد انطلاق مرحلة التّصوير وما رافقه من تداعيات على عمليات ما بعد الإنتاج (المونتاج والميكساج).

منافسة بين دراما القصور ودراما الأحياء الشعبية

من أبرز الأعمـال الـدرامية التي نجحـت في شـدّ انتبــاه التونسيين خـــلال هذا العام، مسلسل «شورّب” الذي بثّ على قناة التاسعة ومسلسل»تاج الحاضرة» الذي شكّل الطبق الرئيسي في البرمجة الرمضانية على قناة الحوار التونسي. كلا المسلسلين نجحا في القطع مع الدراما التقليدية،ليقوم الأوّل باستدعاء الذاكرة الشعبية من خلال شخصية «علي شورّب»، فيما حاول الثّاني طرق أبواب التاريخ لاستطلاع حقبة زمنية من تاريخ حكم بايات تونس.

مسلسل «شورّب» يأتي في سياق الصعود المتزايد الثقافة الشعبية في تونس على حساب الثقافة النخبوية «المتعالية» التي لا تستهوي عامة الجماهير وتعتبر حكرا على المثقّفين دون غيرهم، ذلك أنّ الثقافة الشعبية تقطع مع القوالب الجمالية التقليدية والمعايير الفنية الثابتة التي لا تلبّي انتظارت عامّة الناس ولا تلتزم بإمتاع الطبقات الشعبية بالأساس. وهذا ما أكّدته نتائج سبر الآراء ونسب المشاهدة العالية لهذا العمل الذي انقسمت بشأنه الآراء بين مؤيد ورافض، نتيجة تسليطه الضوء على شخصية شعبية غامضة ومثيرة للجدل. فهناك من يصنّف «علي بن البشیر الصغیر»، الذي اشتھر بكنیة «علي شورّب» والمنتمي إلى عالم «الصعلكة الشريفة» بطلا شعبيا مناصرا للفقراء والمساكين وهناك من يعتبره صعلوكا ماجنا ومنحرفا خطيرا، روّع أهالي العاصمة في الخمسينات والستينات من القرن من القرن الماضي. وفي كلتا الحالتين، نجح هذا العمل في إثارة الإعجاب والفضول لدى عامّة المشاهدين المتعطّشين إلى إماطة اللثام عن هذه الشخصية.

شخصية نحتتها الذاكرة الشعبية في أذهان التونسيين من الفئة العمرية الأكبر سنّا وتوارثت أخبارها الأجيال عبر السنين، ليقع تجسيدها لأوّل مرّة في عمل درامي غير مألوف وغير مسبوق لدى المشاهد التونسي. العمل في مجمله كان متوسّطا ولم يرتق إلى مستوى عمل فنّي متميّز، وذلك نتيجة عديد الإخفاقات خاصّة على مستوى توزيع الأدوار وإدارة الممثّلين، باستثناء البعض منهم حيث لم ينجح الممثّل لطفي العبدلي في تجسيد شخصية علي شورّب الذي كان معروفا بصلابة بنيته الجسدية وشدّة عضلاته وعنف قبضته وصوته الأجشّ، كما أنّه لم يتمكّن من الحفاظ على نفس المردود والأداء التمثيلي طيلة حلقات المسلسل ممّا أفقد الشخصية جزءا أساسيا من مقوّماتها ودفع بها إلى خلفية العمل لحساب شخصيات أخرى قام مؤدّوها برسم ملامحها بحرفية كبيرة، على غرار دليلة مفتاحي (أم علي شورّب) ومعزالقديري (عمّار).

ورغم أنّ السياق الدرامي للمسلسل فرض الحضور المكثّف لمشاهد العنف الجسدي، فإنّ توضيب المعارك والاشتباكات اتّسم بالارتجالية وعدم الحرفية في ظلّ غياب خبير معارك وغياب المؤثّرات البصريّة والصوتية التي من شأنها أن تضفي أكثر إثارة وتشويقا على هذه المشاهد.

في الجهة المقابلة حاول مخرج عمل «تاج الحاضرة»، سامي الفهري،أن يأخذنا في رحلة عبر الزمن، لنستطلع معا حقبة تاريخية مهمّة من تاريخ تونس، لم تطرح فنيّا ودراميا، وهي فترة حكم البايات في أواخر النصف الأوّل من القرن التاسع عشر. المسلسل استمدّ أحداثه من وقائع تاريخية وشخصيات حقيقية وواقعية، حيث تمّ تطويع هذه المادّة التاريخية خدمة لبعض المتطلّبات الدرامية والضرورات الفنية. فمن الثابت أنّ قواعد السّرد الروائي في الدراما التاريخية تختلف عن عملية كتابة التاريخ التي لها ضوابطها وأطرها المرجعية الدقيقة، إلا أنّ مسلسل «تاج الحاضرة» اتّخذ من التاريخ سياقا ومتّكئًا لبناء أحداث درامية تحاكي في مضمونها حكايات المسلسل التركي «حريم السلطان» القائم بالأساس على حكايات العشق المستحيلة والجوّ المشحون بالفتن ودسائس القصور والمؤامرات التي تحاك بداخلها، ليكون ذلك على حساب الصراعات السياسية والتحوّلات الاجتماعية الكبرى التي تميّزت بها تلك الفترة. نتفهم بالطبع استبعاد الأحداث والتفاصيل التي لا تسهم في صياغة حبكة فنية مثيرة ومشوّقة، ولكن ما لا يمكن قبوله هوالحضور الباهت، الذي يشبه العدم، لشخصيات ورموز تاريخية كبيرة كان لها تأثير مهمّ في تلك الفترة، على غرار خيرالدين باشا وأحمد ابن أبي ضياف ومصطفى خزندار إلخ، مقابل التركيز على العوالم الخفية لنساء الباي وصراعات الحياة اليومية في القصور.تقنيا، المسلسل قدّم صورة عالية الجودة من حيث الإضاءة والتصوير الفوتوغرافي، امتزجت بموسيقى تصويرية رائعة ومتناغمة مع السياق الدرامي للعمل، الذي اعتمد على قصور مدينة تونس وبعض الأبراج التاريخية التي استخدمت كديكور طبيعي لاستقبال الأحداث، بالإضافة إلى تصميم الملابس والأزياء ومكملاتها من حليّ وماكياج وأغطية رأس، حيث جاء تشكيلها والتصاقها بارعا في توصيف الشخصيات ورسم ملامحها التاريخية والإنسانية. غير أنّ الرؤية الإخراجية للعمل كانت متواضعة ولم تحمل معها الجديد خاصّة  من الناحية الجمالية والحركية، حيث أطنب المخرج في التلاعب بالزمن عن طريق زيادة وتيرة التصوير (ralenti) في بعض المشاهد وفسح المجال إلى مساحات كبيرة من الصمت الدرامي المطوّل لحساب الموسيقى التصويرية، بالاعتماد على طريقـة توليف (montage) تشبه الأسلوب الإخراجي للفيديو كليبات.

على الرغم من النّجاح النّسبي للمسلسلين في كسب رهان الجمهور، فإنّي اعتبر أنّ هذا النّوع من الدراما ليس مجالا لانتهاك حرمة التاريخ أو تزوير الذاكرة الشعبية من خلال تحويل عملية الاستلهام من التاريخ إلى مجرّد إسقاط فني. وبقطع النّظر عن مدى انعكاس هذه المنافسة على نسب المشاهدة وقدرتهاعلى تثبيت المشاهد أمام القنوات العارضة لها، سواء على الشاشة الصغيرة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يبقى الواقع الفني والإبداعي للأعمال الدرامية الرمضانية دون المستوى المطلوب، رغم عديد الاجتهادات، ويعود ذلك بالأساس إلى غياب أهل السّرد عن كتابة نصوص درامية متميّزة ومتقنة ترتقي بهذه الأعمال إلى مستوى مثيلاتها في العالم العربي، بالإضافة إلى غياب عملية تقييم ونقد موضوعي يوجّهها ويكشف مواطن الضّعف فيها، خاصّة بعد أن فقدت الكثير من بريقها ومكانتها.

محمّد ناظم الوسلاتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.