اصدارات - 2018.06.06

»الإسلام انفتاح وتجاوز« عبد الوهاب بوحديبة

»الإسلام انفتاح وتجاوز« عبد الوهاب بوحديبة

صدر مــؤخّـرا عــن دار الجنــوب للنّشر كتـاب جــديد للمفكـــّــر وعــالم الاجتـمــاع عبد الوهــاب بوحـديبة عــنوانه «الإســلام انفـتـاح وتجــاوز» l’Islam Ouverture et dépassement. وهو كتاب جدير بالاهتمام لأنّه اتّخذ وجهة مخالفة للموجة التّي سادت مجال الكتابة في الإسلاميّات خلال السّنوات الأخيرة. فلئن انصرفت جلّ الكتابات المهتمّة بالفكر الدّينيّ في أيّامنا هذه إلى مجادلات تتّصل بالجوانب الفقهيّة والشّرعيّة أو إلى معارك تدور على الخلافات المذهبيّة والنّزعات السّلفيّة وتمظهراتها التّكفيريّة العنيفة اختار عبد الوهاب بو حديبة أن يُعيدنا إلى تدبّر الإسلام باعتباره قيما إنسانيّة وحضاريّة وأن يكشف الأبعاد الكونيّة المشكّلة لعظمة رسالة الإسلام وخلودها على مرّ العصور. 

وقد أقام المؤلّف كتابه على مقدّمة وتمهيد وستّة فصول اهتمّ فيها ببيان ما كان للثّقافة الإسلاميّة من تأثير واسع على الصّعيد الإنسانيّ محلّلا الأسباب الكامنة وراء ذاك التّأثير ومبرزا مختلف أشكال التّرافد والتّلاقح بين تلك الثّقافة وسائر ثقافات العالم.  فقد تحصّل له من قراءة التّاريخ الإسلاميّ أنّ مسار الحضارة الإسلاميّة كان مسار مثاقفة وتفاعل فكريّ وأخذ وعطاء وتمازج واختلاط بين الأعراق والأجناس والثّقافات، وهو يُرجع ذلك إلى كونيّة الرّسالة القرآنيّة التّي صهرت الإنسانيّة كلّها على اختلافاتها الكثيرة في وحدة صمّاء وجعلت تنوّعها مصدر إغناء وثــراء لا سبب فُرقة وتباعد. لقد غذّى الإسلامُ المشتركَ بين الأمم وأحيا عناصر الالتقاء والتّفاهم وأرسى بين بني البشر أُخوّة تتضاءل فيها فروق العرق والجنس والدّين واللّغة واللّون أمام وحدة الجوهر الإنسانيّ.

وكانت فصول الكتاب بمثابة الشّواهد التّاريخيّة على كونيّة ثقافة الإسلام واتّسامها بسمات الانفتاح على الآخر وتجاوز الحدود الجغرافيّة والسّياقات المعرفيّة والفكريّة التّي أنتجتها. وعلى هذا النّحو حلّل المؤلّف هجرة كثير من النّصوص العربيّة الإسلاميّة في الأدب والفلسفة والعلوم إلى الحضارة الغربيّة وأبان عن مبلغ تأثيرها في الثّقافة الأوروبيّة الحديثة فعرض لإفادة شعراء أوروبّا ومفكّريها وفلاسفتها من مؤلّفات ابن المقفّع وابن طفيل وابن عربي وابن رشد وابن سينا والغزالي وغيرهم. ومن الفصول اللّافتة في الكتاب الفصل الذّي أفرده المؤلّف للتّطرّق إلى الحروب الصّليبيّة، فقد حاول أن يكشف جانبا خفيّا قلّما توقّف عنده المؤرّخون وهو أنّ تلك الحروب التّي امتدّت على مدى قرنين من الزّمن لم تكن حروبا دينيّة فحسب، وإنّما مثّلت فرصة لالتقاء الحضارتين الإسلاميّة والمسيحيّة وكانت في وجه من وجوهها عامل تبادل وتثاقف وتأثّر وتأثير على أصعدة كثيرة.

واهتمّ بوحديبة بمظهر آخر من مظاهر التّفاعل الحضاريّ بين الإسلام وسائر ثقافات العالم وهو فنّ المعمار، ودرس في هذا الصّدد مثالين بارزين هما «قصر الحمراء» الشّهير بغرناطة المجسّم لبدائع الفنّ الأندلسيّ و«تاج محلّ» الضّريح الأنيق الذّي أقامه في مدينة «أقرا» الهنديّة الملك شاه جهان لزوجته أرجمند سنة 1613م، فقد اعتبر المعْلَم الأوّل نتاج لقاء بين حضارة الإسلام وحضارة النّصرانيّة، أمّا المعلم الثّاني فقد رأى فيه لقاء عبقريّات ثلاث هي المنغوليّة والإسلاميّة والهندوسيّة.

واستأثرت ظاهرة الاستشراق بحيّز كبير من اهتمامات المؤّلف باعتبار الدّور الذّي اضطلعت به في تمكين أوروبّا من الالتقاء بالإسلام والتّعرّف إلى حضارته وفكره وثقافته. ولعلّ من مكامن طرافة الكتاب أنّ صاحبه أعرض عن دراسة المشهور المتداول في هذا الباب فلم يتحدّث عن أعمال كبار المستشرقين المعروفين وإنّما نظر في مثالين نادرين هما مثال الأديب الألماني «قوته» Goethe 1832 – 1742 الذّي ألّف ديوانا استلهم فيه الشّعر الصّوفي وآثار كبار أعلامه مثل الفردوسيّ والشّيرازيّ وجلال الدّين الرّوميّ وعمر الخيّام فتردّدت من «الدّيوان» أصدق أصداء قيم الإسلام ورشح عنه إعجاب «قوته» بما في الإسلام من أبعاد إنسانيّة عميقة.

أمّا المثال الثّاني فهو الشّاعر الفرنسيّ «أرتير رامبو» (1854 – 1891) الذّي كان المنطلق في اكتشافه حضارة الإسلام اطّلاعه على ترجمة للقرآن وإعجابه بشخصيّة الأمير عبد القادر الجزائريّ (1808 – 1883) الذّي حارب الفرنسيّين في الجزائر ثمّ صالحهم واستبسل في حماية المسييحيّن في دمشق. وفي الجملة فإنّ كتاب «الإسلام انفتاح وتجاوز» قراءة مجدّدة للمضامين الثّقافيّة والقيميّة في الحضـــارة العـــربيّة الإســـلاميّة واستقصاء لأبعادها الكونيّة الإنسانيّة اجتمعــت فيه رؤية الفيلسوف وخبرة عالم الاجتماع وتأمّـــلات المفكّر.

الحبيب الدريدي 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.