أخبار - 2018.05.16

من تقـــاليـد الإنشــــاد الدّيني والحضرة الصّوفيّة في تونس

من تقـــاليـد الإنشــــاد الدّيني والحضرة الصّوفيّة في تونس

تتخّذ الموسيقى في علاقتها بالسّلوك الدّيني في تونس أشكالا مختلفة منها الأذكار والمدائح النبويّة والابتهالات، ومنها ما تمارسه الطّرق الصّوفيّة فيما اصطلح على تسميته بـ «السّماع» أي الإنشاد وما يصحبه في التّصوّف الشّعبيّ من تمجيد للأولياء والصّالحين والتّبرّك بهم، ولا يندر في بعضها الانجذاب والرّقص فيما يُسمّى بالحضرة؛ وقد ظهر السّماع في سياق تطوّر المذاهب الصّوفيّة وانتشارها في عموم بلاد الإسلام منذ القرن الحادي عشر ميلادي. وسوف نعرض هنا باختصار لِموسيقى السّماع كما ظهرت وتطوّرت في المشرق الإسلامي ثمّ في البلاد التّونسيّة من خلال تقاليد الإنشاد الدّيني من جهة، والممارسات الصّوفيّة الطُّرُقيّة من جهة أخرى، مع ذكر أثرها الثّقافي والاجتماعي وما تختصّ به من سمات فنيّة تربطها بالمنظومة الموسيقيّة السّائدة.

في البداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعـض التّقاليـد الموسيقيّة وإن كانت تعبّر في عمــوم من البلاد الإسلاميّة عن حــالات خاصّة من التّديّن فهي لا تتّســـم، مع ذلك، بـ «القدسيّة» بمعنى الاندراج عضويّا ضمن طقوس العبادة كما هو شأنها في ديانات أخرى كالمسيحيّة؛ لذلك لا يصحّ نعت الموسيقى ذات المواضيع الدّينيّة بالـ «مقدّسة» (musique sacrée) إذ  ليس لها في الإسلام وظيفة شعـــائريّة (fonction liturgique) بالمعنـى الدّقيق للكلمة ولا تعدو أن تكون مظهرا خاصّا من مظاهر تفاعل الأفراد والجماعات مع قيم العقيدة ووسيلة للاندماج في المناخ الرّوحيّ الجماعي.

الأذان وترتيل القرآن الكريم

إنّ الأحاديث النّبويّة الشّريفة التي تحضّ على تحسين تلاوة القرآن  مع ضرورة الالتزام بقواعد التّرتيل والتّجويد، هي أهمّ ما يحدّد وظيفة الموسيقى في علاقتها بالعبادة؛ والرّأي السّائد لدى الفقهاء أنّ الصّوت الحسن مستحـبٌّ في التّلاوة القـــرآنية ورفـــع الأذان للصّلاة على أن لا يخــالطه مــن التّرنّم والتّطريب المبالغ فيه ما يحيد به عن المعنى. وتتميّز التّقاليد التّونسيّة في ترتيل القرآن ورفع الأذان ببساطة الأداء والابتعاد عن البهـــرج اللّحنــي انسجاما مع المذهب المالكي خلافا لتجويد الجمل اللّحنيّة وتنميقها في التّقاليد الشّرقيّة خاصّة منها ما ينتسب إلى المذهب الحنفي؛ ولا تعني تلك البســـاطة بالضّرورة فقــر المادّة النّغميّة بل لعلّها تكتسب بفضلها جزالةً وقوّة تأثير تحرّك الوجدان مع التّركيز على المعــاني مثلما نلاحظه في أسلوب التّلاوة عند المرحـوم الشّيخ علي البرّاق (1899ـــ1981)ومن سار على خطاه من المقرئين. كما يقدّم أذان الشّيــخ المعــروف في طبع رصد الذّيــل، النّمـــوذجَ الأكثر أصــالة والأعمق تأثيرا في نفــوس التّونسيين.

الإنشاد الديني وأشكاله

ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ استعمالنا لعبارة «الإنشاد الدّيني» لا يشير، كما أسلفنا،  إلى صلة وجوبيّة بأسس العقيدة في ذاتها، إذ هو مجرّد ممارسة فنيّة تخبر من أحوال المسلم الرّوحيّة كما تعبّر عن صدى العقيدة في وجدان الأفراد والجماعات؛ ويشترط الفقهاء في الإنشاد عدم استعمال الآلات الموسيقيّة من نوع المعازف وقد يُسمح فيه باصطحاب الدّفّ. وتندرج تحت مسمّى الإنشاد تقاليد الأذكار متمثّلة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرّع إليه بالاستغفار وطلب الرّحمة والشّوق إلى بلاد الحرمين وما إلى ذلك من المواضيع؛ كما يشمل المدائح التي تروي سيرة النبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم وتتغنّى بشمائله وأقواله وأفعاله. وتعتمد تلك التّقاليد قوالــب شعريّة مختلفـــة منها القصيد والموشّح والزّجل والنّظم باللّسان الدّارج.

وقد أصبح القصيد من الشّعــر الفصيح تقليدا قائما بتونس في شتّى المناسبـات الدّينيّة وخاصّة منها المولد النبوي الشّريــف حيــث تُقْرَأُ القصائد بصِيَغ لحنيّة معروفة، ومنها «البردة» و»الهمزيّة» لشرف الدّين محمـد البوصيري (المتوفّى سنة 1296 م) و»السّريدة» ذات الأسلوب القصصي في مولد النبيّ الكريم وسيرته، من نظم جعفر البَرْزَنْجي (1690ـــ1766 م) وغيرها؛ وقد برز من المنشدين في هذا المجال أعلام فيما بين نهاية القرن التّاسع عشر والنّصف الأوّل من القرن العشرين، من أمثال عمر بن أبي بكر التّونسي والشّيخ أحمد المكّي ومحمد بن حسين ومحمد سلامة الدّوفاني ومحمد الصّادق بن عرفة وغيرهم. ويمثّل المديح في تونس امتدادا لتقاليد إنشاديّة قديمة منها منظومة الصّوفي التّونسي الشّهير سيدي محمد الظّريف (1288ـــ1385) في مدح النبّي وقد عدّد فيها الطّبوع الموسيقيّة التّونسيّة حسب تسلسلها المعروف؛ وانتشرت تلك القصائد واسع الانتشار في ربوع تونس مع أذكار «دلائل الخيرات ومشارق الأنوار في الصّلاة على النبيّ المختار» لمحمد بن سليمان الحسني الجزولي (المتوفّى سنة 1466 م) وبات إنشادها من التّقاليد الرّاسخة ضمن احتفالات المولد النّبويّ الشّريف.

نبذة عن تاريخ التّصوّف بإفريقيّة

وجد السّماع بيئة صوفيّة ثريّة في تونس تعود أصولها إلى الأزمنة الأولى للفتح الإسلامي ممثّلة في اتّجاهات الزّهد بالقيروان التي كان من رجاله إسماعيل بن عُبيد (المتوفّى سنة 717 م) وأبو يزيد بن رباح والبهلول بن راشد وعلي شقران بن علي (المتوفّى سنة 802 م) وهــو الرّائد الأوّل للمسلك الصّوفيّ بإفريقيّة، وعبد الخالق القَطّاط المعاصر لإبراهيم بن الأغلب مؤسّس الدّولة الأغلبيّة. وقد شهدت إفريقيّة نشاطا صوفيّا مكثّفا في القرن الثّاني عشر ميلادي، حيث أصبحت ملتقى للتّيّارات الصّوفيّة القادمة من المشرق والمغرب والأندلس، بل باتت قطب جذب للأفكار والرّجال ومنهم أبو مدين شعيب أصيل إشبيلية (1126ـــ1197 م) وهو أستاذ متصوفة تونس أمثال عبد العزيز المهدوي (المتوفّى سنة 1224م) وأبي سعيد خلف الباجي (المتوفّى سنة 1231م) وغيرهما.

وقد أقام العديد من كبار المتصّوفة فترات تطول أو تقصر بإفريقية، نذكر منهم الشّيخ محيي الدّين ابن عربي أصيل مرسية بالأندلس (1165ـــ1240) الذي تتلمذ في تونس على عبد العزيز المهدوي، والشّيخ المغربي أبو الحسن الشّاذلي (1165ـــ1240) تلميذ الصّوفي الشّهير عبد السّلام بن مشيش العَلَمي (1165ـــ1228).

الموسيقى والتّصوّف

يعود ظهور السّماع كتقليد موسيقيّ عند لمتصوّفة وما يصاحبـه من حالات الانجذاب والانخطاف إلى مرحلة مبكّرة مـــن التّاريخ الإسلامي حيث يذكر أنّ بعض حلقات الذّكر في القرن الثّامن الميلادي كان يصحبها نوع من الرّقص التّلقائيّ. ويُنْسَبُ إلى «ذو النّون المصري» من القرن التّاسع تنظيم أوّل «سماع» بمعنى الكلمة، كما يذكر أنّ أحد تلامذة السّريّ السّقطي (762ـــ867م) قد أقام في الفترة ذاتها سماعا في بغداد. وقد عاصرهما في القيروان «القوّالون» وهم منشدون للقصائد الصّوفيّة ضمن مجالس كان يحضرها الكثيرون. وقد كثرت تلك المجالس في القرن الثّالث عشر بالقيروان وتونس، بل أنّ الحاضرة قد شهدت في تلك المرحلة لقاءات صوفيّة كان ترفق الذّكر بالغناء مصحوبا بالعزف على العود.

السّماع في التّقاليد الصّوفيّة بتونس

تتعدّد الطّرق الصّوفيّة في تونس ويختلف ترتيب نظام حلقات السّماع فيها من طريقة إلى أخرى. فمنها ما يكتفي بالذّكر والتّسبيح وتلاوة أحزاب الشّيوخ المؤسسّين دون اللّجوء إلى استعمال الآلات الموسيقيّة، مثل الطّريقة الشّاذليّة المنتسبة إلى بي الحسن الشّاذلي ولها انتــشــار واســع في تــونس والمـــدنيّة (نسبة إلى الشّيخ أبي مدين شعيب) والرّحمانيّة (نسبة إلى الشّيخ محمد بن عبد الرّحمن من الجزائر) والطّيّبية (مولاي الطيّب بن محمد الوزّاني من المغرب الأقصى)، والتّيجانيّة ذات الانتشار الواسع وتنتسب إلى الشيخ أبي العبّاس  أحمد التّيجاني دفين فاس (1737ـــ1815). ومنها ما يتّخذ نظامَ سماعٍ أكثر تعقيدا يُسمّى «الحضرة» ويعتمد في الغالب الغناءَ والرّقص والضّرب على الدّفوف بل واستعمال الرّقّ (الطّار) وأحيانا آلات النّفخ مثل الزّكرة أو القصبة. وقد اشتهر من تلك الطّرق السُّلاميّة والعيساويّة والقادريّة والعوامريّة والعلويّة وطريقة سيدي سعد الشّوشان المعروفة بحضرة الصّطمبالي وأكثر أتباعها من السّود ذوي الأصول الإفريقيّة. ويلاحظ هنا أنّ الانتماء إلى تلك الطّرق يعكس إلى حدّ ما التّمايز الاجتماعي وتراتب الفئات والخصوصيات العرقيّة في المجتمع، فترى النّخبة المثقّفة أو الأعيان أكثر ميلا إلى الطّريقة الشّاذليّة بينما تميل الطّبقة الشّعبيّة أكثر إلى الطّريقة العيساويّة والحشّانية وغيرهما، وينتمي السّود ذوو الأصول الإفريقيّة إلى طريقة سيدي سعد الشّوشان.

الحضرة في التّصوّف التونسي 

الحضرة هي أحد مظاهر نشاط الطّريقة الصّوفيّة وأهمّ ما يميّزها عن غيرها من الطّرق الأخرى. وقد جرت العادة أن يلتقي المريدون بشيخهم في الزّاوية دوريّا لممارسة تقاليد الطّريقة؛ وينقسم ذلك اللّقاء في شكله الأكثر تنظيما إلى قسمين: قسم أوّل يخصّص للذّكر وتلاوة الأوراد أو الأحزاب أو البحور من تأليف الولي المؤسّس أو الذي تُنسب إليه الطّريقة، وقسم ثان، وهو الحضرة، ويتألّف من أناشيد وأغان تُخصّص عند بعض الطّرق، لتمجيد الولّي. وتختلف الحضرة من طريقة إلى أخرى؛ فبينما يكتفي أتباع الشّاذليّة بذكر اسم الجلالة مصحوبا بحركات بسيطة جسديّة متّزنة، ينخرط أتباع طرق أخرى مثل العيساويّة في رقصات معقّدة ومقنّنة وتتحوّل الحضرة إلى حفل موسيقيّ توقّعه الدّفوف والرّق (الطّار) حسب طقوس مضبوطة. ونظرا لضيق المجال، سوف نكتفي بالحديث عن الحضرة العيساويّة حسب نظامها في زاوية سيدي الحاري بالحاضرة نظرا لهيكلها الأكثر تعقيدا وبرنامجها الموسيقي الأكثر ثراء ضمن التّقاليد الصّوفيّة التّونسيّة.

الحضرة العيساويّة

تنتسب الطّريقة العيساويّة إلى الشّيخ محمد بن عيسى دفين مكناس بالمغرب الأقصى (1467ـــ1526) وقد ظهرت بتونس في بداية القرن الثّامن عشر ميلادي ولم تلبث أن انتشرت انتشارا واسعا في عموم البلاد وشكّل برنامجها الموسيقيّ نموذجا للكثير من الطّرق الصّوفيّة الأخرى. وتوجد الزّاوية الأمّ (سيدي الحاري) في حيّ القلاّلين بربض باب سويقة ولشيخها إشراف معنويّ على فروعها في الجهات والمدن الدّاخليّة. وتتبّع العيساويّة نظاما دقيقا في اجتماعاتها حيث يفتتح شيخُها الجلسة ويختتمها بالدّعاء ويشرف على حسن تتابع فقراتها أمّا «شيخ العمل» فيوكل إليه الغناء الانفرادي والإشراف على حلقة المنشدين (الهلاّلة) موقّعا على آلة الطّار (الرّقّ) سواء كان ذلك داخل الزّاوية أو بمناسبة الخرجات لزيارة أضرحة الأولياء. وعندما تحين الحضرة ينهض شيخ العمل ويقف جمع من المريدين منتظمين في صفّ وينخرطون في الرّقص على إيقاعات أغاني المنشدين المتدرّج من البطيء إلى السّريع وأسرعها إيقاع «الخمّاري» الذي يدفع بالمريدين إلى الإتيان بحركات مضطربة فيقلّد بعضهم بالإيماء بعض الحيوانات مثل الأسد والنّعامة والجمل والقطّ وقد يدخل أحدهم وهو «العكاشة» في حالة هيجان فيخبط الأرض بسلسلة غليظة وقد يهمّ بمهاجمة  الحاضرين فيكبح «الشُّوّاش» جماحه. كما يعمد بعضهم الآخر إلى أفعال عنيفة مثل أكل قطع الزّجاج و»ظلف» التّين الشّوكي أو يلعقون الحديد المحمّى وغيرها من الأفعال الغريبة.

أمّا البرنامج الموسيقيّ الذي ينفّذه شيخ العمل مع الهلاّلة فيشتمل على «العادة» وهي إنشاد يغنّى بينما تكون الجماعة في طريقها إلى الزّاوية. وعند الوصول تبدأ الجلسة بـ «وِرْد القْدُوم» ثمّ تأتي الفقرة الغنائيّة الأساسيّة وتشتمل على ثلاث نوبات متتالية: «المجرّد» ويصاحبه التّوقيع ضربا بالأكفّ، ثمّ «الشِّشْتْرِي» ويصاحبه نقر على الطّار و»النّغرات» ثمّ «البراول» التي تنتهي في أقصى سرعتها بالـ«الخمّاري» حيث تبلغ الحضرة نهايتها ويصل الرّقص إلى أقصى درجات الانجذاب والانخطاف. تلك بعض ملامح تقاليد السّماع والحضرة في التّصوّف التّونسي أوردناها باختصار من خلال نموذج العيساويّة وقد تسنح الفرصة مستقبلا للحديث عن تراث الطّرق الأخرى الذي يتميّز بالثّراء والتّنوع. وهو تراث آخذ في التّلاشي في الزّمن الحاضر وقد كان له أثر كبير، لا في حفظ التّقاليد الصّوفيّة فحسب وإنّما في بقاء الموسيقى التّونسيّة الأصيلة عامّة حيث أنّ الزّوايا كانت بمثابة المدارس لتلقين الموروث الموسيقي الدّينيّ والدّنيويّ على السّواء.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.