أخبار - 2018.04.29

ألـــفـة يــوســف: بستيمولوجيا جديدة لقراءة النّصّ الدّينيّ

ألـــفـة يــوســف: بستيمولوجيا جديدة لقراءة النّصّ الدّينيّ
مقتطف من كتاب «وليس الذّكر كالأنثى»
«فلا تعجبوا إذن إذا رأيتم رجال بلادي «عامّتَهم» و«خاصّتَهم»، محافظَهم وتقدّميَّهم، يصرخون ويتصارعون ويُحاولون فرض آرائهم، ويعُدّ الواحد منهم نفسه المالك الأوحد لأسرار الكون، ويتهكّمون على من منهم تشبّه بالنّساء أو خضع للنّساء، ويسعون إلى فرض أنفسهم بالمال أو بالسّلطة أو بقوّة العضلات أو بجمع النّساء فعلا أو خيالا، ويُطنبون في الحديث عن أنفسهم ونجاحهم وتفوّقهم في المجال الجنسيّ وغيره من المجالات.

ولا تعجبوا إذا رأيتموهم يُقزّم الواحد منهم الآخرين ولا سيّما النّساء، أو يُعنّف بعضهم بعضا ويُنظّر بعضهم الآخر للعنف ويُبرّره في سياقات مّا. ولا تعجبوا إذا رأيتم البعض منهم يُسقط فشله، هذا إذا اعترف به، على الآخر أشخاصا وظروفا وحظّا وسياقا. لا تعجبوا إذا رأيتم هذا كلّه فللهويّة الذّكوريّة وسائلها لمراوغة القلق والخوف والأسئلة الجوهريّة التّي لا يجد لها الذّكر جوابا.

لا تعجبوا ولا تنزعجوا ولا تغضبوا، فوراء كلّ رجل «قويّ» طفل صغير هشّ يُخفي دموعه لأنّ الرّجل لا يبكي، ووراء كلّ رجل « قويّ» طفل يُكابر حتّى لا يرمي نفسه بين أحضان أمّه لأنّ حضن الأمّهات خطير ومخيف. ووراء كلّ رجل «قويّ» طفل يخاف أن يفقد ما به اكتسب حظوة اجتماعيّة ثقافيّة رغم أنّه يعرف في أعماق نفسه أنّ هذه الحظوة ليست إلّا جزءا من «المسخرة» mascarade التّي تجعله مطالبا بأن يكون دوما الأفضل والأحسن والأقوى والأثرى... «الأرجل» (أي الأكثر رجولة).. هـذه «المسخرة» هـــي التّي تجعـــله مطالــبا بأن يجــري وراء ســراب اسمه:» أن تكون رجلا» بل «أن تكون الرّجل»، ولكنّ الرّجولة كسراب بقيعة يحسبـــه الظّمــــآن مـــاء فإذا اقتــرب منـــه وجــده سرابا. وتستمـــرّ الحكاية ...»
إذا نزّلنا كتابات ألفة يوسف في الفكر الدّينيّ في أفق منهجيّ ومعرفيّ عامّ أمكن لنا أن نعتبرها كتابات تقترح إبستيمولوجيا جديدة لقراءة النّصّ الدّينيّ وتفسيره. ولعلّ من أبرز رهاناتها في هذا الصّدد فرض مراجعات كثيرة في مستوى مفهوم القراءة ذاته، وفي مستوى شروط القراءة ومقتضياتها، وفي مستوى حدود القراءة.
وتكشف مقاربتها للنّصّ القرآنيّ أنّها تعتبر كلّ قراءة مجرّد إمكان وليست بلوغا إلى حقيقة، فعمليّة القراءة كما جاء في خاتمة كتابها «حيرة مسلمة»: «مغامرة دائمة شوقا إلى المعنى الحقيقيّ الذّي لا يعلمه إلّا اللّه تعالى». وعلى هذا الأساس فالقراءة ليست امتلاكا للمعنى وسيطرة عليه وإنّما هي سعي إلى استجلاء بعض ملامحه وآثاره، ومن ثمّ فإنّها تعتبر معنى القرآن الأصليّ موجود افتراضا وفهم اللّوح المحفوظ وأمّ الكتاب هو إمكان لأنّ القراءة تُقدّ من لفظ ولغة، واللّفظ عاجز عن تمثيل المعنى الأوّل قبله فضلا عن تمثيل المعنى الأصليّ. ويترتّب عن هذا المفهوم أن تصير للقرآن إمكانات تفسيريّة وتأويليّة منفتحة ومتعدّدة.
ويتبيّن من مراس ألفة يوسف للنّصّ القرآنيّ أنّ فعل القراءة يشترط، فضلا عن الوعي بأنّ التّأويل إمكان وافتراض، استخدام آليّات متطوّرة تذلّل مُعوصات النّصّ وتفكّ مستغلقاته، ذلك أنّ مناهج القراءة تعدّدت وتقدّمت وموادّ التحليل تعقّدت ودقّت والمداخل إلى هذا النّصّ تنوّعت وتكاثرت.
وعلى هذا النّحو فإنّ التّفسير والتّأويل يتطلّبان اليوم بالضّرورة الإفادة من العلوم اللّسانيّة بشعبها وتفريعاتها ولاسيّما العلوم الدّلاليّة ، والإفادة من مبادئ تحليل الخطاب ومفاهيمه ومقولاته ، والاسترفاد بحقول معرفيّة تخصب فعل القراءة وتغنيه كالفلسفة والأنثروبولوجيا وعلوم النّفس والاجتماع. وهي جميعا أدوات تغيب عن أعمال المفسّرين والفقهاء الأصوليّين التّي تكتفي بما يُسمّى قديما «التّفسير بالمأثور».
إنّ مقاربة ألفة يوسف للقرآن تكشف إعاقات المقاربة الأصوليّة وضمورها ومحدوديّتها وتنبّه على عدم كفاية علوم القرآن بمجالها القديم (أسباب النّزول – النّاسخ والمنسوخ – المحكم والمتشابه – علم القراءات) في الوصول إلى فهم أكثر ما يكون ملاءمة لجوهر القرآن.
ولعلّنا لا نبالغ إن قلنا إنّها تساهم مع قراءات مماثلة في المغرب والمشرق في إحداث «ثورة كوبرنيكيّة» في فهم النّصّ الدّينيّ وتأويله إذ تُخرج هذا الفهم من مجال «العِرفان» إلى مجال «البُرهان» ومن حقل المعارف النّقليّة إلى حقل المعارف العقليّة . أمّا حدود القراءة فهي بالنّسبة إليها النّسبيّة البشريّة، إذ القرّاء والمفسّرون لا يمتلكون قراءة مثاليّة نهائيّة للقرآن وإنّما هم يُمثّلون ذواتهم المحدودة النّسبيّة شأنهم في ذلك شأن سائر القرّاء على اختلاف مناهجهم في القراءة وتباين وسائلهم إلى مقاربة النّصّ.
وقد أُتيح لها في أفق هذه القطيعة الابستيمولوجيّة أن تُجري قراءات جديدة على منطوق النّصّ القرآنيّ في الميراث والزّواج والعلاقات الجنسيّة وأن تنتهي إلى إمكانات في الفهم والتّأويل مختلفة عن السّائد المستقرّ من قراءات الفقهاء والمشايخ، وهي ترمي من خلال ذلك إلى إثبات تعدّد المعنى في القرآن وانفتاح إمكاناته التّفسيريّة وإبطال ما يُعتقد من أحديّة الحقيقة وانغلاقها.
الحبيب الدّريدي
 
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.