أخبار - 2018.04.13

فيلـم بنزين: رؤيــة سينـمائية متـجدّدة لمـوضوع الهجـرة السريّـة

فيلـم  بنزين: رؤيــة سينـمائية متـجدّدة لمـوضوع الهجـرة السريّـة

بنزين هو عنوان الفيلم الذي اختارته المخرجة التونسية «سارة العبيدي» لأوّل أفلامها الروائية وهو إنتاج سينمائي متحصّل على دعم من وزارة الشؤون الثقافية التونسية ومن جهات دولية مانحة على غرار الصندوق العربي للفنون والثقافة «آفاق» والمنظمة الدولية للفرنكوفونية. الفيلم لا تتجاوز مدّة عرضه 90 دقيقة ويمكن تصنيفه في خانة الدراما الاجتماعية الواقعية التي تسعى إلى رسم صورة دقيقة للواقع الراهن ومواكبة التحولات الاجتماعية والاقتصادية. الفيلم صوّر في الجنوب التونسي وشاركت فيه ثلّة من أهمّ الفنانين في المنطقة من بينهم علي اليحياوي وجمال شندول ومكرم السنهوري، إضافة إلى الممثلة متعدّدة الاهتمامات والاتّجاهات الفنية سندس بلحسن والممثّلة القديرة فاطمة بن سعيدان. يذكر أنّ الفيلم هو إهداء إلى روح رفيق درب وزوج مخرجة العمل ومصوّر الفيلم، الفقيد الراحل «علي بن عبد الله» الذي يعتبر أحد أهمّ مديري التصوير في الساحة السينمائية التونسية.

عكس الكثير من الأفلام التي اختار مخرجوها تسليط الضّوء على المهاجرين غير الشرعيين وتبنّي وجهة نظرهم من خلال الفهم العميق والدقيق لدوافع ظاهرة الهجـــرة السريّة وأسبابها، اختـــارت مخــــرجة العمل «ســــارة العبيدي» توجـــيه عــــدسة الكاميرا إلى الطرف الآخر في هــــذه المأســــاة الإنسانية مـــن خلال التركيز على الأســــر المهجورة والملتظية بنار فراق وغيـــاب أبنـــائهم.

«بنزين» يصوّر واقعا مريرا ويناقش تداعيات ظاهرة الهجرة السرية على عائلات المفقودين في سياق أزمة اجتماعية واقتصادية تعصف بأحلام شباب سقط في اليأس والقنوط خاصّة في المناطق النائية والبعيدة عن المدن الكبرى. وقد اختارت مخرجة العمل أن تقودنا في رحلة إلى أعماق الجنوب التونسي من خلال قصّة تدور أحداثها في قرية صغيرة تدعى «المجني»، تقع في ولاية قابس، من خلال الكشف عن مأساة زوجين سالم (علي اليحياوي) وحليمة (سندس بلحسن) يفقدان ابنهما الوحيد في غفلة من الزمن دون أن يترك أثرا أو يبعث خبرا، لتجد العائلة نفسها عالقة في كابوس مستمرّ يــدخلها في دوّامة من الشكّ والحيرة، الشّيء الذي أثّر تأثيرا حـــاداً في نفسيـــة الأبوين وزجّ بـــهمــا قسراً في سبــــاق مــع الزّمن لمعـــرفة مصـــير ابنهم.

الفيلـــم يطـــرح بوضـــوح قضيّة الهجــرة السرية واستفحال ظاهرة ركوب قوارب الموت وما لها من انعكاسات سلبية على واقع أهالي المفقودين. بيد أنّ البناء الدرامي لسيناريو يطرح بذكاء إشكاليات أخرى أكثر عمقا في علاقة بالتهميش والإقصاء وانعدام المساواة بين الجهات وعدم قدرة الدولة على توفير فرص عمـــل لشباب هذه المناطق التي أصبحت مرتعا للفســـاد وللتّجــــارة المـــوازية وتهريب البشـــر. ولم تتردّد مخرجة العمل في التّنديد صراحة بأبـــاطرة التهريـــب في المناطق الحـــدودية بالجنـــوب الشرقي التونسي، وشجب تلك الحقيقة المؤلمة من خلال الإقرار بالعلاقة القائمة بين التهريب وتسفير الشباب خلسة إلى الضفة الأخرى لغاية الرّبح المادي الصّرف.

رؤية فنية إخراجية متجدّدة رغم عديد الفجوات

بعيدا عن الدراما العائلية التي تناقش القضايا والمشاكل الأسرية الكلاسيكية، سعت مخرجة فيلم بنزين إلى تناول واقع أسرة منكوبة نتيجة هجرة ابنها الوحيد بصفة مفاجئة وغير قانونية، وذلك من خلال التركيز التام على الشخصيتين الرئيسيتين، الأب والأم، والإبقاء عليهما في حالة من البؤس البالغ والعناء الشديد طيلة الفيلم بالاعتماد على لقطات مضخّمة ومقرّبة في أغلب المشاهد، لإبراز كلّ ملمح من ملامح الوجه ولتدوّن حجم التوتر والإحباط لكلا الشخصيتين في سياق بصري تتجاهل فيه الكاميرا بقيّة الممثلين وتضع المتفرج في حيّز تفاعلي مع الأحداث.

مخرجة العمل أعطت أهمية كبرى لصورة بصرية غير لفظية، لتخلو الكثير من المشاهد من الحوار ويحلّ محلّه صمت مطوّل في غياب شبه تامّ للموسيقى التصويرية بالاعتماد على لغة الجسد وتعابير الوجه التي شكّلت جزءاً أساسياً من البناء الدرامي. لابدّ أن نشير هنا إلى حرفيّة الممثلين ونثني بالأساس على الأداء المتميّز لكل من علي اليحياوي (سالم) وسندس بلحسن (حليمة) اللذين شكّلا معا مركز ثقل الأحداث في الفيلم، وإن كانت الشّخصيتان على النقيض تماما من بعضهما البعض بحيث ظهر الممثل علي اليحياوي في دور الأب الضعيف المستسلم للأمر الواقع في حين نجحت الممثّلة سندس بلحسن في تقمّص دور الأم المتماسكة والمتفائلة التي لم تفقد الأمل في عودة ابنها.

الفيلم يقدّم أيضا صورة سينمائية صادقة بالاعتماد على ديكور طبيعي وإضاءة خافتة امتزجت بألوان قاتمة في أغلب المشاهد، حيث كانت براميل البنزين المهرّب مكوّنا رئيسيا من الصورة التي رسمتها مخرجة العمل لتتوغّل بنا في أعماق الجنوب التونسي أين يتولّى المواطن البسيط أمر نفسه في بيئة مناخية قـــاسية تفتقر إلى الحدّ الأدنى مــن مقـــوّمات العيـــش الكريم.

كأيّ عمل فنّي من الصعب جدّا أن يحظى بتأييد واســع وبإجماع نقدي إيجابي، رغم التجربة المختلفة التي قدّمتها سارة العبيدي في طرح موضوع الهجرة السريّة، إلا أنّ الفيلم لم يخل من بعض النقائص ونقاط الضّعف خاصّة على مستوى الإيقاع السردي والحواري وبطء وتيرة الأحداث، إضافة إلى غياب الإثارة والتشويق، الشّيء الذي أضفى نوعا من الرتابة المملّة التي كانت سائدة في أغلب فترات الفيلم، مالم يكن هذا هو الأثر الذي بحثت عنه مخرجة العمل.

وما يمكن أن نعيبه أيضا هو توظيف بعض المشاهد المسقطة والنمطية التي بدت لنا أحيــانا مجانية ولا تخدم السيناريو وسياق الأحداث خاصّة المشهد المطوّل للقبلة العميقة بين البطلين أو لقطة دمج دعاية تسويقية في الفيلم لمنتج جعة محلية، لقطات أصبحت وكأنّها مكوّن رئيسي من مكوّنات سيناريو الأفلام التونسية، دون أن ننسى الظهور التقليدي للممثّلة القديرة فاطمة بن سعيدان في دور ثانوي ذي صبغة ترويجية صرفة للفيلم.

«بنزين» يطرح قضايا حارقة وآنية لا يمكن التغافل عنها، وعن أسبابها، قصد فهم مدى تداعياتها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، لتبقى الهجرة السرية رحلة مجهولة العواقب لأصحابها ومأساة بلا نهاية لعائلات وأقارب المفقودين.

د. محمّد ناظم الوسلاتي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.