أخبار - 2018.03.25

رشيد خشانة: »هيئة الحقيقة والكرامة«...دقّت ســـــاعة الحقيقــــة

»هيئة الحقيقة والكرامة«...دقّت ســـــاعة الحقيقــــة

نميل إذا ما وضعنا تجربة «هيئة الحقيقة والكرامة» في إطار مسارات العدالة الانتقالية المماثلة في العالم، تبدو التّجربة التونسية خافتة وباهتة، إن لم نقُل مشوّهة، بسبب ما رافقها منذ انطلاقها، من صراعات داخلية وقرارات تعسّفية، وأسلوب فردي في الإدارة. وشكّلت استقالة قامات كبيرة من الهيئة، من أمثال الحقوقي البارز خميس الشماري والإعلاميّة الراحلة نورة بورصالي والقاضي محمد العيادي، إفراغا للهيكل من أصحاب الخبرة بملفّات القمع، على الرغم من تعويضهم لاحقا بأشخاص آخرين. ويجدر التذكير هنا بأن اللجنة التي كُلّفت بفرز الترشُحات لعضوية الهيأة عيب عليها اعتماد مقاييس حزبية. كما أنّ استقالة ستّة أعضاء من أصل خمسة عشر عضوا (قبل التعويض) جعلت تحقيق النصاب وهو ثلث الأعضاء مُتعذّرا، قبل لجوء رئيسة الهيأة لتعديل القانون بمساعدة أنصارها ليُصبح النصاب مُقتصرا على ثلثي الحاضرين، ممّا يعني بطلان القرارت التي اتّخذتها الهيأة بعد الاستقالات

تجربتان بارزتان

في العالم هناك ما لا يقلّ عن 28 تجربة للعدالة الانتقالية، بعضها أخفق وبعضها الآخر أعطى ثمارا ردّت الاعتبار للضحايا وحقّقت لهم قدرا كبيرا من الإنصاف. وفي جميع تلك التجارب شكّل مسار العدالة الانتقالية إحدى الثمار الكبرى للثورات الديمقراطية التي عرفتها عدّة بلدان في العالم خلال العقدين الأخيرين، وخاصّة في أوروبا الوسطى والشرقية وأمريكا اللاتينية. ومن المهمّ هُنا التوقف عند تجربتين بارزتين هما أفريقيا الجنوبية والمغرب الأقصى. ففي الأولى وافق البرلمان في 1995 على «قـــانون دعـــم الوحدة الوطنية والمصالحة»، الذي تشكّلـــت بنـــاء عليه «لجنة الحقيقة والمصالحة».

ولم يُنتخب أعضاؤها من البرلمان مثل تونس، وإنّما سمّاهم الرّئيس الرّاحل نلسون مانديلا، وعددهم 17 عضوا برئاسة القس ديسموند توتو. واللاّفتُ أنّ اللجنة باشرت مهامها في أفريل 1996 وأنهتها بتقديم تقريرها في أكتوبر 1998، بالرغم من تشعّب القضايا وكثرة عددها قياسا على تونس. وما من شكّ في أنّ رئاسة القس ديسموند توتو للجنة منحتها زخما قويّا جعل كافّة أبناء شعب أفريقيا الجنوبية، بل وكثيرا من المراقبين عبر العالم يُتابعون جلسات الاستماع للضحايا.

بهذا المعنى شكّلت تجربة أفريقيا الجنوبية المُنتقلة من نظام الميز العنصري إلى نظام المساواة بين البيض والسود، أهمّ تجربة لم يشُبها سوى قليل من التشوُّهات. وقد بات هذا المسار جزءا من التاريخ منذ اللحظة التي سلّم فيها رئيس «لجنة الحقيقة والمصالحة» تقرير الهيأة المؤلّف من مجلّدين، إلى الرئيس الجنوب أفريقي. وبذلك طُويت ملفّات العدالة والإنصاف في أفريقيا الجنوبية. وقد اتّخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات تنفيذا للتوصيات التّي تضمّنها تقرير الهيأة.

قطيعة بين عهدين

أتت التّجربة المغربية مختلفة عن الجنوب أفريقية، إذ أعقبت رحيل الملك الحسن الثاني  الذي اتّسم حكمه (1961 - 1999) بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ومحاكمات رأي وتصفيات سياسية. وحاول نجله محمد السادس طي صفحة الماضي بتشكيل الهيأة الوطنية للإنصاف والمصالحة، التي انطلقت في العمل في 2003 برئاسة النّاشط السّابق والسّجين السياسي الرّاحل ادريس بن زكري، لتُغطّي الفترة من 1956 (استقلال المغرب) إلى 1999 (رحيل الحسن الثاني). قبل ذلك تمّ الإفراج في أواخر عهد الحسن الثاني عن المساجين السياسيين من السجون السرية وإقفال عدد من تلك المعتقلات. ومن ثمّ تمّ تشكيل «هيأة التحكيم المستقلة» في أوت 1999، أي بعد شهرين من رحيل الحسن الثاني، والتي أكملت عملها في أواخر 2003، مُتّخذة عددا من التوصيات التي تقضي بالتعويض لعدد من ضحايا القمع والانتهاكات وأسرهم. وبعد أشهـــر قليلة تمّ تشكيـــل هيـــأة الإنصاف والمصالحـــة المؤلّفة من 16 عضوا جميعهم من النشطاء السياسيين والحقوقيين المعروفين بدفاعهم عن حقوق الإنســـان. واتّســمت التجربة المغربيـــة بأنّ سقفها ظلّ دون تجــــربة أفــريقـــيا الجـــنوبية لأنّ النظــام لم يتغيّر وإنّما رحـــل ملك وجاء ملك ثان في إطار المنظــومة نفســـها.

أين الحياد؟

على عكس ما يُثيره في تونس اليوم الدّعم الذي تلقاه رئيسة هيأة الحقيقة والكرامة من مكونات «الترويكا» السابقة، من انقسام حزبي فاقع، سواء داخـــل البرلمان أو خـــارجه، استطاع الــراحل بن زكري في المغرب منع أصابع الهيأة من الغوص في شبكة التجاذبات السياسية، خاصّة في ظلّ الروايات المتناقضة بين الغريمين التاريخيين حزب الاستقلال والاتّحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، الذي انشقّ عنه في 1958. وكان بن زكري يُذكر دوما بأسلوبه الناعم، بأنّ الحسم في تلك الصّراعات ليس من دور هيأة الإنصاف والمصالحة، وإنّما هو مهمّة منـــوطة بالمؤرّخين، مُشــيرا إلى أنّ الهيــأة ليست سلطة قضائية ولا هي هيـــأة تحكيــم تاريخية.

في المقابل نُلاحظ أنّ الوقت المُخصّص للشهادات العلنية كان موزّعا بالقسطاس في التجربة المغربية (20 دقيقة لكلّ شاهد) على عكس الوقت المتاح للضحايا في تونس، الذي تفاوت من شخص إلى آخر من دون الاعتماد على معـــايير واضحــة. كما أنّ بعـــض الشهادات كان مُوجّها من رئيسة الهيــــأة، التي كانت تتـــولّى إلقاء الأسئلة على الشهود بنفسها، بينما كان عليها أن تبقى محايدة.

تتّســـم كلّ مســـارات العـــدالة الانتقـــالية، مثلما أسلفنــا، بكونها تأتي في أعقاب قطيعة بين عهدين وتشكيل آلية للاعتراف بالجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت في العهد السابق، ومن ثمّ إفساح المجال أمام الضحايا للكشف عمَّ نالهم من عذاب جسدي أو معنوي، ومن امتهان لكرامتهــم، ثم ردّ الاعتبار لهم باسم المجتمع بأسره. إلاّ أنّ مســـار العـــدالة الانتقـــالية عنـــدنا بات ســـاحة لتصفية الحسابات ومركبا للمتعطشين للسلطة لكي يتشبّثوا بأهــداب الكراسي والامتيازات، ويستمرّوا في رفض تطبيق القوانين، وتحدّي السّلطة القضائية والتّعاطي مع مجلس نواب الشعـــب بمنطـــق الـفـــرض والإمــــلاء، ما ولّد امتعـــاضا لدى الجميـــع تقريبا.

استهزاء بالأرشيف الوطني

أكثر من ذلك، تسعى رئيسة الهيأة إلى حجب وثائقها وهي تمتنع عن تسليمها إلى الأرشيف الوطني، مع أنّه يشكّل الجامع الشرعي الوحيد للذاكرة الوطنية، والمؤهّل تقنيا وبشريا للنهوض بهذه المهمّة الدّقيقة. وتبدو رئيسة الهيأة وكأنّها تدفعنا إلى وضع شبيه بوضع العدالة الانتقالية في بولونيا، التي تمرُّ بوضع صعب وحرج، لأنّ لدى كل حزب تصوُّرا خاصّا لمهمّتها، ولأنّ إجـــراء تحـــرّيات دقيقة لم يعد ممكـــنا في ظلّ الجدل المتصـــاعد حـــول حـــرية النّفــاذ إلى الوثــــائق التـــاريخية، خاصّة أنّ بعـــض الوثائق صُنّفـــت في خـــانة السرية، وأنّ بعض السياسيين هناك لا يُخفون رغبتهم في حـــرق الوثائق، حتّى أنّ أحـــدهم توعّد علنا بإنهاء الهيأة نفسها.

هذه ليست الرئاسة الوحيدة التي تتشبث بها رئيسة «هيأة الحقيقة والكرامة»، فمنذ تولّيهــا منصب الناطق الرسمي باسم «المجلس الوطني للحـــريات» (تأسّس في 1998) تجمّــدت في الكرسي، بالرّغم مـــن أنّ جميع المسؤولين الذين تداولوا على هذا المنصب قبلها تركـــوه بمجرّد أن حلت ساعة التّداول، لكن يبدو أنّ هذه العبارة لا توجد في قاموس رئيسة الهيأة. وعلى مجلــس النواب أن يستخلص المغزى من هــــذه العقلية، التي تقـــود الهيـــأة مثلما تُدارُ مزرعة خاصّة، ويتحمّل مسؤولياته في ذلك، كُلّ مسؤولياته.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.