عبد الحفيظ الهرقام: تونـس والإمـلاءات الخـارجيــة

 عبد الحفيظ الهرقام: تونـس والإمـلاءات الخـارجيــة

كيف نستقرئ تصنيف تونس ضمن القائمة السوداء للبلدان الأكثر عرضة لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب وكذلك تصنيفها السابق من قبل وزراء المالية للاتحاد الأوروبي ضمن قائمة الملاذات الضريبية؟ وأيّ عِبر يمكن استخلاصها من هذه المحنة الجديدة التي لم تكن البلاد، الغارقة في مستنقع أزمتها المالية وأوحال سـاحتها السياسية، مهيّأة لمواجهتها؟

لا بدّ في تقديرنا من تنزيل هذه التصنيفات في سياق التحوّلات الجيواستراتيجيّة التي تعتمل في عالم تتغيّر ملامحه بنسق سريع.. عالم محكوم بمنطق المصالح دون سواه وخاضع لمعايير اقتصادية وقيمية وحضارية مخصوصة وقواعد حوكمة جديدة تفرضها الدول المتنفّذة والشركات المتعدّدة الجنسيّات على بقية دول العالم.. عالم يتجاذبه تيّاران متضادّان: عولمة جامحة مداها سائر نحو الاتّساع ونزعة حمائية وانعزالية من أبرز حاملي لوائها اليوم الولايات المتحدة زمن إدارة ترامب.

وغير خاف أنّ هذا العالم الجديد أصابته شروخ عدّة: شرخ في العلاقات الإنسانيّة، وشرخ داخل الأمم بسبب الفوارق الاجتماعية وانعدام التوزيع العادل للثروة، وشرخ في مستوى العلاقات الدولية جرّاء تضارب المصالح واختلاف الرؤى في مقاربة قضايا العصر كقضية التغيّرات المناخية، وأخيرا وليس آخرا شرخ بين إكراهات الحاضر ومقتضيات بناء المستقبل.

ولئن تسنّى لعالم اليوم تجاوز تداعيات الأزمة المالية لسنة 2008 إذ استرجع الاقتصاد العالمي عافيته فإنّه لم يقدر إلى الآن على الخروج من أزمة اجتماعية خانقة تعاني منها العديد من الدول. ومردّ ذلك انعدام الوعي الكافي بأنّ من شروط استدامة النمّو الاقتصادي إعادة بناء العلاقة بين قوى المال وقوى العمل وإحياء العقد الاجتماعي المنهار، فضلا عن إرساء منظومة تكون أكثر عدلا، تحترم التنوّع والمساواة الجندرية واتّخاذ القيم الإنسانية محور الثورة الصناعية الرابعة بدل التكنولوجيا.

ولعلّ ما يشكّل اليوم وحدة هذا العالم الجديد - على الرغم من كلّ مواطن الاختلاف القائمة فيه - الوعي  بالمخاطر التي تتهدّد السلم والأمن على الصعيدين الوطني والدولي، وضرورة السعي المشترك إلى التصدّي للجريمة المنظّمة ومحاربة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله، ومقاومة الفساد في القطاعين العمومي والخاصّ... ومن أجل ذلك وضعت التنظيمات الدولية ذات الصلة والتجمّعات الإقليمية، ومن بينها الاتحاد الأوروبي، شروطا وضوابط على الدول التقيّد بها، تشريعا وممارسة، وكلّ دولة تخالفها تكون عرضة للتشهير والردع.

ألم يكن حريّا بتونس أن تكون هي المبادِرة من تلقاء نفسها بالالتزام بهذه الشّروط والضّوابط  بما يحفظ مصداقيتها ويزيد في جاذبيّتها الاستثمارية؟ ألم يحن الوقت لتقيّم تونس مردوديّة قانون أفريل 1972، مقارنة بالحوافز والمزايا الجبائية الهامّة الممنوحة للصناعيين الأجانب الذين يستغلّون يدا عاملة رخيصة، محقّقين أرباحا طائلة؟ أليس من المهمّ أن تؤمن تونس، أكثر من أيّ وقت مضى، بقدراتها لخلق الثروة، معوّلة في ذلك على مهارات شبابها وذكائه؟

وبدل التباكي وجلد الذّات أو محاولة تحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك بعد أن وقع الفأس في الرأس، لا مناص من أن تعكف الحكومة بجديّة على معالجة كلّ الإخلالات التي أدّت إلى هذا الوضع، وذلك من خلال تطوير الحوكمة الاقتصادية وتسريع نسق الإصلاحات وتفكيك مواطن الوهن في المنظومات النقدية والجبائية والتشريعية  لإعادة صياغتها على أساس التّناسق والنّجاعة، بعيدا عن الحلول الترقيعية، عسى أن تستعيد البلاد مكانتها الفاعلة وصورتها النّاصعة على الصّعيد الخارجي وتعزّز مقوِّمات سيادتها.

وخلاصة القول إنّ خير سبيل لمواجهة الإملاءات الخارجية إصلاح الذّات وسدّ الثغرات في المنظومات الوطنية، فضلا عن اعتماد شبكة قراءة جديدة لواقع عالمي جديد تقوم على تحليل البواطن قبل الظّواهر والاستباق والاستشراف بما يعزّز قدرة صنّاع القرار على التّعامل الحكيم مع تحدّياته ورهاناته.

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.