ثقافة - 2018.01.21

أيّـــام قـرطـاج المسرحيّة: عــود عــلـى بـــدء

أيّـــام قـرطـاج المسرحيّة: عــود عــلـى بـــدء

في عيد ميلاد مهرجان أيّام قرطاج المسرحية الرّابع والثّلاثين و في دورتــه التّاسعــة عشـرة (8 - 16 ديسمبر 2017) استبشر الكثير من رجال ونساء المسرح في تونس و في العالم العربي والبلدان الإفريقيّة عامّة بإعادة فتح المجال للتّسابق بين المشاركين في العروض المسرحيّة لهذه الدّورة، بعد أن ألغى محمّد إدريس المسابقة منذ أوائل التّسعينيّات، عندما كان يدير مؤسّسة المســرح الوطني ومهرجان الأيّام. و في المقابل، انقسمت ردود الفعل بين مؤيّد للبادرة ومعارض لها.

يرى المعارضون أنّها تستوجب ظروفا وإمكانات مادّيّة لانتقاء العروض المترشّحة وهي ظروف لا تزال غير متوفّرة للمهرجان.

أما المؤيّدون فيرون أنّ استـــرجاع فعاليّـــات المســـابقة الرّسميّة للمهرجان تمثّل فرصة للمبدعين العرب والأفارقة للتّنافس واحتكاك بين التّجارب المسرحيّة المشاركة، كما أنّها ترسّخ القيمة الاعتباريّة للمهرجان بوصفه مهرجانا مسرحيّا رائدا بالنّسبة إلى المهرجانات القطاعيّة العربيّة والإفريقيّة، إضافة إلى الامتدادات التي أسّس لها في تعامله مع الكفاءات المسرحيّة العالميّة، على مستوى النّشاط الفكري والتّنظيري، كما على مستوى بعض التّجارب المخبريّة.

ولئنّ تخصّ الأيّام، في أهدافها الأساسيّة، المسرح العربي والإفريقي بالذّات،فإنّها آلت  في برمجتها على استضافة عدد من التّجارب المسرحيّة من بلدان أورويبّة وآسيويّة وأمريكيّة وكذلك استقطاب رموز النّقد والتفكير والتّنظير غير العربيّة والإفريقيّة، إثراء للأيّام وتجسيدا للحوار بين دروب الإبداع المسرحيّ من مختلف بلدان العالم.

على أنّ هذه الخيارات شهدت شيئا من الارتباك في دورات عديدة في الفترة ما بين أواخر التّسعينيّات   وحتّى السّنوات الأخيرة قبل أحداث 14 جانفي 2011.

فقد بهت الإشعاع الذي كانت تحدثه في السّابق وضعفت ركــائز الجســـر الذي بنته  للتّواصل بين مختلف التّجارب المسرحيّة، لا فقط فيما يتعلّق بالتّجارب العالميّة التي كانت بمثابة القيمة المضافة للأيّام، ولكن أيضا فيمـــا يتعلّق بالمسرح الإفريقي الذي يمثّل إلى جانب المسرح العربي العمود الفقري للمهرجان ونسغه المغذّي.

ولعلّ من أسباب هذا التّداعي، أنّ الفترة المذكورة تصادف ارتباكــا في التّجـــارب المســـرحيّة، لا في البلدان العربيّة والإفريقيّة فحســـب، ولكــن أيضا في بلدان العالم، نتيجة لامتدادات النّظام العالمي الجديد وانتشار مفاهيم ثقافة االسّوق وتسليطها على الإبداع المسرحي وهو فنّ حيّ لا يحتمل المفاهيم التّواضعيّة(LES CONCEPTS CONVENTIONNELS).

وهي أيضا فترة تصادف تغوّل الأنظمة الدكتاتوريّة وتسلّطها على الإبداع المسرحي بشكل خاصّ، اعتبارا لنزوع المسرح إلى الخروج عن السّائد والتزامه بحلم التّغيير وإثارة السّواكن الاجتماعيّة والثّقافيّة والفكريّة وبالتّالي السّياسيّة.

وها هو المهرجان ينخرط في حركة مطلبيّة حدثت بعد 14 جانفي، تطالب بدوريّة سنويّة للأيّام تشمل أيضا أيّام قرطاج السّينمائيّة والموسيقيّة، بعد أن كانت ثلاثتها تقام مرّة كلّ سنتين.

استجابت سلطة الإشراف لهذا المطلب و أصبحت الأيّام تنتظم بدوريّة سنويّة. فهل أثّر ذلك في ترسيخ أهدافها وهل انعكس ودعّم حظوظها في وتيرة التّواصل و التّحاور بين المسارح الإفريقيّة والعربيّة والعالميّة، مقارنة بسنوات التّراجع السّابقة لحدث 14 جانفي والثّورات العربيّة؟

أضافت وتيرة تنظيم الأيّام إلى صعوباتها الظّرفيّة صعوبات مادّيّة، إذ تأثّرت بنتائج التّقليص في ميزانيّة وزارة الشّؤون الثّقافيّة الذي أذيع بالموازاة مع اللّمسات الأخيرة قبل انطلاق الدّورة.

وقد ساهم ذلك في تعميق الصّعوبات الهيكليّة التي كانت تعـــاني منها منـــذ إحداثها، باعتبارها لا تتوفّر على قــانون أساسي ولا على هيكل إداري قــارّ ولا على مقــرّ يحـفظ ذاكــرتها ويسمح بتنظيمها تنظيما يمكنه أن يثبّت حوكمتها وتسييـــرها بشكل يتجـــاوز الاعتـبـــارات الذّاتيّة والشّخصنة فيما يتعلّق بإدارتها.

وهي اليوم تعاني من الطّابع الاستعجالي في تسييرها، إذ أنّ تعيين مدير كلّ دورة يقع قبل انعقادها بستّة أشهر، في أحسن الأحوال. وهو أمد لا يسمح بإعداد برمجة تليق بطموحات الدّورة كما لا يمكّن منظّميها من توفير الظّروف الملائمة لانتقاء العروض المناسبة لقيمة الأيّام الاعتباريّة.

وهي معوقات تنسحب على مجمل فعاليّات الأيّام في أبعادها الاحتفاليّة والفكريّة.

رغبة التّحليق ووهن الأجنحة

لقد أبرزت الدّورة التّاسعة للمهرجان مظاهر هذه المعوقات وأكّدت ضرورة تأمّلها ومحاولة معالجتها بصفة جادّة لانتشال المهرجان من مخاطر التّهميش الذي يساهم في إرباكه من سنة إلى أخرى والذي يوشك أن يحصره في دائرة التّظاهرات القائمة على التّقليد والتّغنّي بأمجاد التّأسيس.

اتّسمت هذه الدّورة التّاسعة عشرة ببرمجة متسرّعة.افتقد فيها شرط التّميّز والإبداع في الأعمال المبرجة، سواء منها الأعمال المشاركة في المسابقة الرّسميّة للمهرجان أو في الأعمال التي صنّفت في ركن المسارات المسرحيّة والتي تمّ انتقاؤها وفقا للقيمة الاعتباريّة لمبدعيها.

وهو ما أدّى بلجنة التّحكيم الدّوليّة إلى إسناد كلّ الجوائز: التّمثيل النّسائي والتّمثيل الرّجالي والنّصّ والسّينوغرافيا والإخراج، مناصفة. أمّا جائزة العمل المتكامل، فقد حجبت، وفقا لما أشارت إليه لجنة التّحكيم في تقريرها من ضعف للأعمال المرشّحة للمسابقة وغياب النّفس الإبداعي المميّز في جملة هذه الأعمال. وهي سابقة تؤشّر على عمق الصّعوبات التي ذكرناها سابقا، والتي تعمّقت بفعل التّشويش الحاصل على الفعل الثّقافي عامّة، بعد أحداث 14 جانفي 2011.

ومن أبرز ما أظهرته الدّورة انتكاسة المسرح التّونسي المعروض في واجهة الأيّام فقد خرج من الدّورة بخفّي حنين، بعد أن عرف بحصاد وفير سواء في المهرجانات الوطنيّة أو الدّوليّة منها. وهو ما يعيد طرح مسألة انتقاء العروض المترشّحة و ضرورة معاينتها من طرف لجنة مختصّة عن طريق المشاهدة العينيّة وليس عن طريق التّسجيلات المرئيّة كما يحصل عادة في مختلف دورات المهرجان، ويتسبّب في خيبات الأمل لدى المحتكمين ولكن أيضا لدى الجمهور.

وفيما يتعلّق بالفعاليّات الفكريّة التي انتظمت على هامش الدّورة، فإنّ النّدوة التي نُظّمت حول موضوع النّقد المسرحيّ، طرحت إشكاليّة على قدر من الخطورة.

لقد اعتمدت الورقات المطروحة في النّدوة مسائل تتعلّق بالتّنظير حول المسرح في مختلف البلدان العربيّة وهو تنظير انطلق من النّظريّات الغربيّة القديمة في مجمله، كما أنّه التصق بالتّجارب المسرحيّة ضمنيّا وليس في علاقتها الجدليّة بالفعل النّقدي كقراءة للفعل المسرحي وإعادة صياغته معاينة وتأويلا.

وفي حين ارتبك تنظيم حفل الافتتاح بحدث قرار الرّئيس ترامب إعلان القدس عاصمة للكيان الصّهيوني، وألغيت مراسم الاحتفالات في السّاحة العامّة، فقد وقعت محاولة تدارك ذلك في حفل الاختتام. إلاّ أنّ استعمال «mapping» في واجهة المسرح البلدي كانت على درجة من السّطحيّة التي تنمّ عن العجلة في إعدادها والتّسرّع في برمجتها. فجاء حفل الاختتام باهتا يفتقر إلى الحيويّة المميّزة للحدث المسرحيّ.وقد أكّد ذلك ثقل الصّعوبات التي تلاحق المهرجان.

لقد حاول مدير الدّورة، حاتم دربال وهو قامة من قامات المسرح التّونسي كفاءة علميّة وركحيّة، أن يستدرك الصّعوبات المحيقة بالدّورة بل والتّحدّيات التي ذكرنا، لكنّ ثقلها أنهك قوى التّنظيم وموارده البشريّة المحدودة، علاوة على الإمكانات المادّيّة.

أسدل السّتار على الدّورة التّاسعة عشرة من أيّام قرطاج المسرحيّة ولكنّ على الرّكح صراعات ما تزال تعتمل وتنفعل في عرض لن ينقطع قبل الانتباه إلى مصير المهرجان، بل ومصير المسرح في تونس وفي العالم العربي والإفريقي.

فوزية بلحاج المزّي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.