أخبار - 2017.12.02

الوزير جوزيف رافو (1795 - 1862): رائد الدّيبلـوماسيّة التّونسيّة

الوزير جوزيف رافو (1795 - 1862): رائد الدّيبلـوماسيّة التّونسيّة

احتفلت بلادنا خلال السّنة الماضية بالذّكرى السّتين لإحداث وزارة الخارجيّة، وقد كانت هذه العشريّات السّتّ غنيّة بالأحداث والأعلام بما يجيز لنا الحديث عن مدرسة ديبلوماسيّة تونسيّة لعلّ من أبرز أعلامها الحبيب بورقيبة والمنجي سليم ومحمّد المصمودي والصّادق المقدّم والحبيب الشّطّي والباجي قايد السّبسي والشّاذلي القليبي وبورقيبة الابن وغيرهم.

غير أنّ العودة إلى تاريخ تونس تبيّن أنّ العمل الدّيبلوماسيّ بالمعنى الحديث للكلمة يعود إلى بداية القرن 19 عندما اضطلع تونسيّ من أصل إيطالي لأوّل مرّة بمهامّ «وزير للأمور الخارجيّة» وهو الوزير جوزيف رافو Joseph Raffo.

فمن هو جوزيف رافو؟ وماهي أبرز خصاله ومآثره؟

ولد رافو بتونس سنة 1795 لأب إيطالي اخطتفه قراصنة أتراك وباعوه في تونس سنة 1770، وما إن تمّ تحريره حتّى امتهن نشاطا حرفيّا تقليديّا وعمل بالتّوازي مترجما للبايات.

خلف جوزيف رافو أباه مترجما لدى البايات وتزوّجت شقيقته «إيلينا رافو» أحد أشقّاء مصطفى باي ثمّ اعتنقت الإسلام وأصبحت تدعى «للّا عائشة». وعاصر رافو خمسة بايات إذ عمل مع حسين باي ومصطفى باي وأحمد باي ومحمّد باي ومحمّد الصّادق باي، توفيّ بباريس سنة 1862 ونُقل رُفاته إلى تونس سنة 1863 ليدفن بالمقبرة المسيحيّة بتونس.

ويمكن الحديث عن خصال الرّجل من خلال ثلاثة أبعاد أساسيّة هي: إدارة الأزمات الدّيبلوماسيّة ومـراعاة أصول العلاقات الدّوليّة وتقديم المصلحة العليا للدّولة la raison d’État.

إدارة الأزمات الدّيبلوماسيّة 

أوتي «جوزيف رافو» من الخصال والمناقب ما جعله يضطلع بدور كبير في رعاية مصالح تونس الخارجيّة وتدارك هفوات البايات وأخطائهم وإصلاح ما تُفسده رعونة بعض مواقفهم واختياراتهم. وفضلا عن إتقانه اللّغات الفرنسيّة والإيطاليّة والإنقليزيّة فقد كان له من الحنكة السّياسيّة ورجاحة العقل والبراعة الاتّصاليّة ما مكّنه من التّدخّل بنجاح كلّما تعلّق الأمر بخلاف مع طرف أجنبيّ.

من ذلك تدخّله لفضّ أزمة ديبلوماسيّة جدّت بين تونس ودولة نابولي (قبل توحيد إيطاليا على يد غاريبلدي)، فقد نقل ابن أبي الضّياف في «إتحافه» أنّ خلافا نشب بين حسين باي ودولة نابولي سنة 1833 بسبب أنفار من نابولي كانوا مستخدمين في القصر لتنظيفه ومناولة سكّانه ما يلزم لضروريّاتهم فحدث أن غلبهم النّوم في ليلة من ليالي رمضان فلم يسمعوا علامة السّحور وأيقظتهم علامة الإمساك فلم يهيّئوا الموائد للمماليك حتّى حان وقت الفجر فأمسك الجميع بلا سحور فغضب رئيس المماليك وأمر بضربهم و«عاثت في أرجلهم أيدي الضّرب المبرّح» فشكوا ذلك إلى قنصل نابولي بتونس فقدم إلى الباي يحتجّ ويطلب إنصاف مواطنيه، وأشار عليه جوزيف رافو بأنّ معالجة هذه القضيّة تكون بعقوبة رئيس المماليك وإرضاء الشّاكين. غير أنّ تعنّت الباي وتمسّكه بالحقّ في تأديب الخدم وإن كان ذلك بالعنف الشّديد تسبّب في تعقيد الأمور إذ أرسلت دولة نابولي أسطولا حربيّا طلب عقاب المعتدي ورفع راية نابولي وإظهار احترامها بإطلاق المدافع والاعتذار عن هذا الخطإ كتابيّا ودفع مصاريف خروج الأسطول إلى تونس. ولم يجد الباي إزاء هذا المأزق إلّا الاستنجاد بجوزيف رافو الذّي تكفّل باسترضاء المعتدَى عليهم وإصلاح ذات البين بين البلدين.

ومن المهامّ الدّقيقة التّي باشرها جوزيف رافو تدخّله لدى ملك فرنسا لويس فيليب سنة 1839 إثر خلاف جدّ مع قنصل فرنسا في تونسDe Lagau الذّي كان يسعى إلى تأليب الباي على الخلافة العثمانيّة ويغريه بالانفصال عن الدّولة العليّة والاستقواء في ذلك بالدّول الأوروبيّة ، وإذا كان هذا المسعى يُلاقي هوى في نفس المشير أحمد باي فإنّه كان يجد معارضة من قبل جوزيف رافو.

وقد نجح رافو خلال هذه الزّيارة في تحقيق أكثر من هدف: فقد ضغط على القنصل الفرنسيّ بما أجبره على الكفّ عن تزيين الانفصال للباي، ولفت إليه أنظار لويس فيليب بلباقته وحنكته، ونسج علاقات ستتوطّد مع رجال الحكم في فرنسا وهو ما سيساعده لاحقا على الإعداد لزيارة أحمد باي إلى باريس  سنة 1846.

وعندما طرأ ما يُعرف بقضيّة محمود بن عيّاد كان جوزيف رافو مبعوث الدّولة التّونسيّة إلى السّلطات الفرنسيّة بشـأن هــذه االقضيّة سنة 1853 قبل أن ينضمّ إليه خير الدّين باشا سنة 1855، وقد انتهت باسترداد حقوق الدّولة التّونسيّة وإيقاف ما كان قد مضى فيه بن عيّاد من ابتزاز للدّولة بعد اختلاس أموالها والحصول على رسوم ماليّة وأوامر في سراح الزّيت.

مراعاة أصول العلاقات الدّوليّة

من النّجاحات الدّيبلوماسيّة التّي تحسب لجوزيف رافو توفّقه في إقناع أحمد باي بمراجعة سياساته تجاه الدّولة العثمانيّة، فقد فتح القناصل الأجانب أبواب المطامع أمام الباي وأوهموه بأنّ دولهم تحميه بعساكرها وقوّتها وأسطولها عندما تريده الدّولة العثمانيّة بسوء ووصفوه بأنّه مستقلّ في مملكته. وكان الباي ذا نزعة إلى الاستقلال تجنّبا لـ«التّنظيمات الخيريّة» التّي كانت إسطمبول تريد فرضها على كلّ الأقطار التّابعة لها وخوفا ممّا راج من عزم الدّولة العثمانيّة إلحاق تونـس بطرابلـس. وقد كان لرافو النّظر الثّاقب والرّأي الحصيف في هذه القضيّة إذ استـطاع أن يحلّل في كلمات قليلة بعض قواعد العلاقات الدّوليّة آنذاك فقال للباي: «ــيا سيّدي لا تطمع أنّ الفرنسيس يعينونكك بإطلاق مدفع واحد لأنّ العقلاء لا يتجشّمون الحروب إلّا لدفع مضرّة أو جلب منفعة. وأيّ نفع للفرنسيس في حرب مع الدّولة العثمانيّة لتبقى أنت في ولايتك على حالتك؟ لا سيّما والجزائر في غاية الهناء، ويمكن أنّ سلطان الفرنسيس يعينك بجاهه أو بسياسة منه أمّا الحرب فلا نُطمع أنفسنا بها.»

وبقدر ما كان جوزيف رافو يميل إلى إبقاء تونس تحت لواء الدّولة العثمانيّة لأنّه يقدّر محدوديّة إمكاناتها العسكريّة ويدرك حاجتها إلى قوّة إقليميّة تحميها من الأطماع الأوروبيّة خاصّة بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 كان في الوقت ذاته يعتبر أنّ مشاريع الإصلاح والتّحديث لا يمكن أن تكون مجدية إلّا بالانفتاح على أوروبّا والتّلاقح الحضاريّ والاستفادة من منجزات الأمم المتقدّمة في السّياسة والثّقافة والاقتصاد بما يمكّن من تطوير أنظمة الحكم وتعصير أساليب إدارة الدّولة وإرساء مؤسّسات تقلّص من إطلاق الحكم الفرديّ، وعلى هذا النّحو كان رافو مهندس الزّيارة التّاريخيّة التّي أدّاها المشير أحمد باي إلى فرنسا شهري نوفمبر وديسمبر 1846، وهي أوّل زيارة يقوم بها حاكم بلد عربيّ إلى أوروبّا. ولا خفاء أنّ تلك الزّيارة ألهمت أحمد باي وشحذت عزمه على المضيّ في ما كان قد شرع فيه من تعصير لمختلف أوجه الحياة في تونس.

تقديم المصلحة العليا للدّولة

من خصال جوزيف رافو ومناقبه ما كان يتمتّع به من مَلَكَة في تقدير المصلحة العليا للدّولة وما أبداه من آراء سديدة في هذا الشّأن، وظهر ذلك في المسألة التّي أثيرت سنة 1853 حول تسريح جانب من العسكر لتزايد كلفته وإثقاله كاهل الدّولة. فقد كان أحمد باي شغوفا بالإكثــار مــن عدد العسكر النّظاميّ أوّلا لسياسة انفرد بها إذ كان في ولاية أبيه مصطفى باي مكلّفا بشؤون العسكر، وثانيا لخشيته من أن تغصبه الدّولة العثمانيّة على قبول «التّنظيمات الخيريّة» بالقوّة. وهكذا تزايدت مصاريف العسكر ولوازمه حتّى أفنت مالا كثيرا واضطرّت البلاد إلى التّداين وإجحاف الضّريبة على أصحاب الصّنائع والتّجّار، وقد احتدم النّقاش في هذه القضيّة داخل حاشية الباي بين مؤيّد لتسريح العسكر ورافض فكان رأي جوزيف رافو حاسما في هذا الباب إذ قدّم المصلحة العليا للدّولة فقال للباي «إنّ الدّول بأوروبّا لا يُبقون تحت السّلاح إلّا القدر المُحتاج إليه ويسرّحون الزّائد اعتبارا للمصروف وراحة المتسرّحين مع غناهم الذّريع».

ولعلّ آخر المهامّ التّي أُنيطت بجوزيف رافو هي إشرافه على تفسير نصّ عهد الأمان وإيضاح قواعده سنة 1857 فكان أن اضطلع بدور هامّ في وضع هذا القانون موضع التّطبيق والإجراء، ذلك أنّ محمّد باي هو أوّل من خرق عهد الأمان في حادثة مشهورة: فقد اعتدى رجل مغربيّ من خدمة بستان الباي على زميل له فقتله، فجيئ به إلى الباي فأمر بقتله في الحين قبل أن يسمع منه جوابا ولا حضر أحد من ورثة القتيل يطلب القصاص، بل إنّ أبناء عمومته ورثة دمه عفوا عن القصاص ورضوا بالدّيّة. وكان من شأن هذه الحادثة أن أثارت غضب القناصل الأجانب ورأوا فيها تراجعا عن عهد الأمان ونكوصا، فما كان من الباي إلّا أن أنشأ مجلسا من الفقهاء والعلماء والوزراء للتّفاوض في شرح الفصول المسطّرة في عهد الأمان ورتّب مجلسا ثانيا يضمّ جوزيف رافو ومحمّد بيرم ومصطفى صاحب الطّابع يقبل فيه ما يعرضه المجلس الأوّل لمراجعته والتّصديق عليه.

وليس أدلّ على المنزلة الرّفيعة التّي كان يحظى بها جوزيف رافو ممّا قاله له أحمد باي عندما أراد الاستعفاء من منصب «وزير الأمور الخارجيّة» ليتحوّل إلى فرنسا لمقاضاة قنصلها De Lagau: «إذا فقَدْتُكَ لا بدّ من سنين يحصل فيها مثلك» فكان جواب رافو على درجة كبرى من اللّباقة والدّيبلوماسيّة: «إنّ مثلك لا يستعفي العاقلُ من خدمتِه وأتحمّل لأجلك ما عظُم عليّ احتماله ولو نزعتَ منّي خطّتك ما فارقتُ خدمتَكَ».

إنّ سيرة الوزير جوزيف رافو تختزل جملة من القيم الأساسيّة لا يتحلّى بها إلّا المحنّكون من رجال السّياسة، وهي سيرة تقيم الدّليل على عراقة مفهوم الدّولة في تونس وتجذّره بما يحمّل النّخب السّياسيّة الحاليّة جسيم المسؤوليّات في الحفاظ على أركان الدّولة وتعزيزها عسى أن يصحّ فينا قول الشّاعر:

وَرِثْنَا المَجْدَ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ نُطَاعِنُ دُونَهُ حَتَّى يَلِينَا.

الحبيب الدريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.