إن هذا لشيء عجاب: ولا تميلوا كل الميل...

هذا لشيء عجاب: ولا تميلوا كل الميل...

في العادة، أتحاشى التعليق على البيانات التي تصدرها وزارة الشؤون الخارجية والمواقف التي تعبر عنها من بعض القضايا أو الأحداث التي تحدث في المنطقة أو في العالم، لأنّني أرى أنّ مواقف السياسة الخارجية التونسية لا ينبغي أن تكون محلّ جدل أو خلاف واختلاف بيننا، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى المسائل الداخلية.

غير أنني عندما اطّلعت على البيان الذي أصدرته الوزارة يوم الثلاثاء 07 /11 / 2017 وأعربت فيه عن إدانة تونس الشديدة لاستهداف مطار الملك خالد بالعاصمة الرياض بصاروخ باليستي، لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل عن دواعي الاهتمام بهذا "التفصيل" الذي أرى أنه، على أهميته وخطورته، يشبه الشجرة التي تحجب الغابة، لأنه ليس، في نهاية المطاف، سوى تطور من تطورات الحرب العبثية التي ما تزال متواصلة على اليمن منذ أكثر من سنتين ونصف السنة.

فمن المفارقات التي انطوى عليها البيان أنّه في الوقت الذي قال فيه إن تونس "تؤكّد رفضها وشجبها لاستهداف المناطق المدنية والآهلة بالسكان الذي يعدّ خرقا صارخا للقانون الدولي الإنساني"، كانت طائرات التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية تشنّ سلسلة من الغارات الانتقامية على بعض المناطق السكنية في اليمن سقط ضحيتها عشرات اليمنيين بين قتلى وجرحى ومنهم العديد من الأطفال والنساء...

وليس هذا فحسب، فالرياض أعلنت، بالموازاة مع ذلكـ، في إجراء عقابي جماعي آخر، إغلاق جميع المنافذ البرية والبحرية والجوية إلى اليمن ولفترة غير محدّدة... وذلك بالتحديد في الوقت الذي ما فتئت فيه منظمة الأمم المتحدة تدعو إلى فك الحصار عنه، وتحذّر من حدوث كارثة إنسانية (في الحقيقة غير إنسانية) فيه.

ولست أدري هل تابعت وزارة الشؤون الخارجية وقائع الجلسة المغلقة التي عقدها مجلس الأمن يوم الأربعاء 8/11/2017  (لا بطلب من إحدى الدول العربية أو الإسلامية كما كان يفترض أن يكون، وإنما بطلب من دولة السويد) للنظر في الوضع الإنساني (غير الإنساني) الكارثي في اليمن، وقد أطلق المسؤول الأممي عن العمليات الإنسانية في اليمن، بمناسبتها، صيحة فزع حين قال إنّ تشديد الحصار على اليمن برّا وبحرا وجوّا يهدّد بحدوث أسوا مجاعة يعرفها العالم منذ عدة عقود ويمكن أن تؤدي إلى موت الملايين.

ومن مفارقات البيان أيضا أنه جدّد "تأكيد تضامن تونس مع المملكة العربية السعودية الشقيقة، وحرصها على أمنها وأمن منطقة الخليج العربي عامّة، ورفضها لكلّ الممارسات المهدّدة للأمن والسلم الإقليمي والدوليّ"، مفسّرا هذا الموقف بأنه يأتي "انطلاقا من ثوابت سياسة الخارجية"، وهذا التفسير يدعو إلى الاستغراب لأن ما أعرفه عن ثوابت تونس المرعيّة هو أننا لا ننحاز في سياستنا الخارجية إلا إلى الحق، ولا نعمل بالقولة الشهيرة "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فلا نميل كل الميل لا إلى الظالم ولا إلى المظلوم حتى يظل لنا هامش للتحرك لإصلاح ذات البين، إن أردنا وقررنا أن نفعل يوما ما.

ولقد كان بإمكان وزارة الشؤون الخارجية أن تتبنّى نفس الموقف أو موقفا قريبا من الموقف الذي تمخّضت عنه جلسة مجلس الأمن المغلقة حيث أعربت الدول الخمسة عشر الأعضاء  في المجلس بما في ذلك الدول الحليفة للمملكة العربية السعودية عن "انتقادها بشدة لإطلاق الصاروخ على مطار الرياض"  ولكنها في المقابل وحرصا منها على حدّ أدنى من التوازن في موقفها "أدانت الحصار السعودي على اليمن" الذي جعل 21 مليون يمني في حاجة إلى المساعدة الغذائية العاجلة، منهم 7 ملايين يوشكون على الهلاك بسبب المجاعة، بينما يتهدّد الموت مليون يمني آخر مصاب بوباء الكوليرا.

وبعد، فقد أبدى البيان خوف تونس من أن يؤدي التصعيد الخطير الناجم عن إطلاقالصاروخ إلى "عرقلة الجهود الإقليمية والدولية الساعية إلى التوصّل إلى حلّ سياسي للأزمة اليمنية بما يمكّن من المحافظة على وحدة هذا البلد الشقيق ويضع حدّا لمعاناة شعبه ويساهم في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار بالمنطقة"، والسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا هو عن أية جهود إقليمية ودولية يتحدث البيان؟ ولو كانت هناك فعلا جهود إقليمية ودولية تبذل فهل كنا نرى الأوضاع في المنطقة كما نراها الآن تزداد كل يوم تعقيدا وتصعيدا ينذران بالويل والثبور... فمن حرب اليمن إلى مقاطعة قطر إلى تهديد لبنان إلى احتمال إيقاظ الفتنة السنية الشيعية النائمة... وقد يكون ما يخبئه الغيب أعظم...

محمد إبراهيم الحصايري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.