أخبار - 2017.11.01

منذ ستّين عاما : طه حسين في تونس (1957 – 2017)

منذ ستّين عاما : طه حسين في تونس (1957 – 2017) دعـاء الــحـداثــة

« لا أتصوّر كيف وصلت تونس إلى هذه الأشياء الكثيرة في عام واحد ... وإنّي لا أغلو إذا قلتُ إنّ كلّ هذا يسحرني ويُوشك أن يُعجزني عن أن أتحدّث إليكم ...» بهذه الكلمات حيّا طه حسين الحداثة التّونسيّة النّاشئة، معجَبا منبَهرا بل مندهشا غابطا، في المحاضرة الشّهيرة التّي ألقاها بقاعة «البالماريوم» في 3 جويلية 1957 أمام الآلاف من الشّباب وطلبة العلم والنّخب والأساتذة والشّيوخ.

كانت تونس وقتئذ قد خرجت من «الجهاد الأصغر» إلى «الجهاد الأكبر» تخوض غمار معركة بناء الدّولة الحديثة وتشنّ حملتها التّاريخيّة على البُنى الفكريّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المتقادمة وتقتحم خضمّ الإصلاح والتّحديث والتّنوير. فما كادت البلاد تظفر باستقلالها التّام حتّى انتخبت مجلسا تأسيسيّا لوضع دستور لها وشكّلت حكومة وطنيّة واتّجهت بكلّ عزم وتصميم إلى بناء مؤسّساتها الجديدة فبادرت دون تهيّب ولا تردّد إلى إصدار مجلّة الأحوال الشّخصيّة وتوحيد القضاء وتعصير التّعليم وإلغاء الأحباس وإرساء إدارة جهويّة ومحليّة على نحو حوّل المجتمع من قبائل و»عروش» إلى نسيج متجانس متناغم.

وهكذا يمكن أن ننزّل زيارة طه حسين إلى تونس – بدعوة من رئيس الحكومة آنذاك الزّعيم الحبيب بورقيبة- في إطار هذه التّعبئة الشّاملة من أجل ترسيخ خيار التّحديث والتّجديد وتجذير فلسفة التّغيير والتّطوير، فهي ليست مجرّد دعوة عاديّة لعَلَم كبير من أعلام الثّقافة والفكر ليحاضر ويُشرف على الامتحانات في جامعة فتيّة ناشئة، وإنّما هي مبادرة دالّة ومعبّرة ومحمَّلة برسائل كثيرة. إنّها انتصار لنهج الحداثة والعقلانيّة والثّورة على القديم.

والحقّ أنّ تلك الزّيارة قد جسّدت التقاء تطلّعين متشابهين:

  • تطلّع التّجربة التّحديثيّة النّاشئة في تونس إلى أن يلتفّ حولها أقطاب الفكر والثّقافة والأدب في الدّاخل والخارج وأن ّتتحمّس لها رموز فكريّة واسعة الشّهرة بما يدعم تلك التّجربة ويزيد في إشعاعها.
  • تطلّع مفكّر عقلانيّ حداثيّ جريء وجد في بلده عَنَتًا كبيرا وصدّا ومعارضة إلى أنموذج ناصع يكون كالرّدّ على أنصار الانغلاق والتّقليد في مصر ويُقيم الدّليل على أنّ البلاد العربيّة الإسلاميّة يُمكن أن تُنتج تجارب حداثيّة ناجحة ومميّزة بما قـد يستنهض الهمـم في سـائر البــلاد الأخـرى على الاقتداء بها واحتذاء مــنوالها.

فمن وجهة نظـر سيميائيّة تُعدّ هذه الزّيارة علامة حداثيّة إضافيّة في مسار بناء الدّولة النّاشئة والمجتمع الجديد في تونس المستقلّة.

ولا شكّ في أنّ معاني تلك الزّيارة ودلالاتها ما تزال حاضرة فينا إلى اليوم بما يُؤكّد راهنيّتها، إذ ما انفكّت قيم الحداثة والعقلانيّة والفكر الحرّ تلاقي أشكالا مـــن الصـّدّ من بعـــض جيوب الماضويّة والجمود والانغلاق، فمـازال البعض ينظـر إلى التّحدّيث على أنّه مسخ وتنكّر للهويّة وخروج عـن الملّة إلى غير ذلك من الأوهــام والأباطيـل التّي لا تدلّ إلى على «جهل مؤسَّس» آخذ في التّفشّي والاستشراء.

وإذا عدنا إلى برنامج تلك الزّيارة ومحطّاتها وإلى مجرياتها وأحداثها بالقراءة والتّحليل وجدنا أنّها تثير قضّيتين كُبرَييْن: قضيّة التّعليم ومناهجه ومسالك تعصيره، وقضيّة المجتمع وسبل تحديثه وتطويره.

المسألة التّعليميّة

أشرف طه حسين خلال زيارته إلى تونس على امتحانات الطّلبة في قسم الآداب واللّغة العربيّة بدار المعلّمين العليا وكانت تتّخذ مقرّا لها بالمبنى الكائن في الزّاوية التّي تحدّ شارع فرنسا من ناحية ونهج روما من ناحية أخرى. ولشدّ ما أُعجب بما رشح عن أسئلة الامتحانات وتحارير الطّلبة من حصافة ونضج، فقد لاحظ طه حسين أنّ الجامعة التّي لم يمرّ على إحداثها سوى عام واحد تستند في مناهجها إلى إقدار الطّلبة على التّفكير المتأنّي والتّحليل العميق وتدريبهم على البحث والاستقصاء والنّقد واستئناف النّظر، فلا أثر للإملاء والتّلقين وحشو الأدمغة بالمعارف الجاهزة، ولا مكان للحفظ والاستظهار والاجترار، وإنّما دأب الأساتذة التّأطير والإرشاد والتّوجيه وإنهاج المسالك وتمهيد السّبل، ودأب الطلّاب البحث والتّنقيب والقراءة والنّظر والتّدبّر والتّفكّر.

وقد كتب طه حسين في جريدة الجمهوريّة المصريّة بتاريخ 3 / 8 / 1957: «ولقد شاركتُ في امتحان السّنة الأولى بدار المعلّمين العُليا، وفي امتحان اللّغة العربيّة وآدابها خاصّة، فلم أرَ أنّ الأساتذة قد أملوا على تلامذتهم شيئا، ولم أر الطلّاب قد أقبلوا على الامتحان وقد حفظوا ما ألقى الأساتذة عليهم فهم يكرّرون ما حفظوا منه تكرارًا، ويقفون حين تخونهم الذّاكرة، وإنّما رأيت الأساتذة يُرشدون طُلّابهم إلى مواطن العلم، ويعلّمونهم البحث عنه واستنباطه من مصادره. وانظر مثلا إلى هذين السّؤالين اللّذين أجاب الطلّاب عليهما كتابة. فأمّا أوّلهما فجُملة للخطيب البغدادي يقول فيها: «إنّ بغداد كانت حاضرة الإسلام، وإنّها كانت صيّادة تصيد الرّجال، وإنَّ من لَم يَرَهَا لَمْ يَرَ الدُّنيا». وكان على الطّالب أن يُفسّر هذا الكلام ويثبته أو ينفيه، ويأتي بالأدلّة على ما يقول. وأمّا السّؤال الثّاني فكان كتابا طويلا عسيرا للمأمون كتبه إلى عمّاله على الأقاليم يكلّفهم فيه أن يمتحنوا من في حضرتهم من القضاة في تلك المسألة الكلاميّة العسيرة التّي جُنّ المأمون بها فيما أعتقد وهي مسألة خلق القرآن (...) وكان المطلوب من هؤلاء الشّبّان أن يفسّروا نصّ الكتاب تفسير الفاهم له، وأن يتبيّنوا ما أحاط به من الظّروف، وأشهد لقد كانت إجابة الطّلّاب في جملتها جيّدة جدّا تحيي الأمل في النّفوس».

بين الأزهر والزّيتونة

لا خفاء أنّ علاقة طه حسين بالأزهر كانت في الأغلب الأعمّ علاقة متوتّرة، فقد خاب أمله فيه منذ الدّروس الأولى التّي شهدها في رحابه، وكان لاذعا في نقده لعلم الأزهر ومشائخه، ولمّا نشر كتابه «في الشّعر الجاهليّ» كانت هجمة أولئك المشائخ عليه عنيفة حادّة بلغت حدّ رميه بالكفر والمروق.

ولذلك سيُفاجأ طه حسين عندما يجد جامع الزّيتونة على صورة مغايرة لتلك التّي عرفها عن الجامع الأزهر، فقد حضر يوم 29 جوان 1957 الحفل السّنوي لاختتام السّنة المدرسيّة بالجامعة الزّيتونيّة داخل رحاب الجامع الأعظم فلم يجد شيخا من الشّيوخ الأزهريّين الجفاة وإنّما وجد عالِما سَمْحا متنوّرا هو الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور وأعجب بخطابه في الحفل وبما أبداه من تفتّح وتعلّق بالحداثة. 

كما استرعى انتباهه وجود طالبات فائزات بالجوائز والشّهادات الزّيتونيّة وهو أمر لم يكن قد حدث مثله بعد في الأزهر. وقد سمّى طه حسين ما لمسه في الجامعة الزّيتونيّة من مظاهر السّماحة والانفتاح «رُقِيًّا عظيما» أشاد به وأكبره عندما قال: «إنّي لسعيد جدّا بأن أجد نفسي بينكم جالسا هذه الجلسة مستمعا إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر وإلى ما قاله من هذه الأشياء التّي تبشّر بهذا الرّقيّ العظيم في هذه الجامعة». 

ولعلّ ما انبهر به طه حسين على وجه خاصّ هو توحيد التّعليم وما ترتّب عنه من تخلّي الزّيتونة عن التّعليم الابتدائي والثّانويّ واختصاصها بالتّعليم الدّيني العالي وذلك حتّى يُحال دون عدم التّكافئ بين خرّيجي تعليم تقليديّ لا يكفل لهم من الكفايات والاقتدارات إلّا القليل الذّي لا يُغني وخرّيجي تعليم عصريّ يتيح لهم تكوينا أساسيّا متينا ومتنوّعا يلمّ باللّغات والعلوم والفلسفة. وهو أمر طالما نادى به طه حسين في مصر ولم يُتح له أن يتحقّق، لذلك نجده ينوّه بهذه المزيّة في مقــاله المذكور: «...وأعترف بأنّي شكرت اللّه عزّ وجلّ على صنيعه ونعمته حين رأيت جامعة دينيّة شأنها في الغرب الإسلاميّ كشأن الأزهر في المشرق الإسلاميّ، تُحقّق ما يصبو إليه المثّقّفون في مصر منذ أعوام طوال فتتنازل لوزارة التّربية والتّعليم عن التّعليم الابتدائي والثّانويّ وتفرغ للتّعليم الدّينيّ العالي وتلائم بذلك بين حياة الدّنيا والدّين وتُلغي بذلك الفروق العقليّة الكثيرة بين الذّين يتخرّجون فيها والذّين يتخرّجون في المدارس...». 

المسألة الاجتماعيّة

لا تنفصل أبعاد الحداثة الثّقافيّة والعلميّة عن أبعادها الاجتماعيّة في تونس المستقلّة، فحيثما حلّ طه حسين لاحظ آثار الإصلاحات الاجتماعيّة الكبرى التّي أقدمت عليها حكومة الاستقلال، ولكنّ الأمر الذّي أثار استغرابه هو كيفيّة تلقّي المجتمع التّونسيّ لهذه الإصلاحات، فهي وإن كانت عميقة وجذريّة وسريعة متلاحقة ومفاجئة فإنّها أُسيغت وقُوبلت بالرّضى والتّأييد ولم تلق صدّا أو إنكارا: «وقد أردت أن أستقصي الأمر بعد ذلك فعرفت أنّ تونس لم تكد تستقلّ حتّى وحّدت قضاءها فجعلت شؤون الأحوال الشّخصـيّة كغيرها من الشّؤون إلى المحاكم المدنيّة...ولم تكتف تونس بهذا وإنّما مضت إلى أبعد منه فجعلت أمر الطّلاق إلى القاضي لا إلى الزّوج، وجعلت الطّلاق لا يصدر ولا يقع إلّا بحكم قضائيّ فعصمت الأسر بذلك من عبث كثير. ثمّ مضت إلى أبعد من ذلك أيضا فأصدرت قانونا يُحرّم تعدّد الزّوجات. وقد حدّثني رئيس الحكومة أنّه أعلن هذا القانون إلى مواطنيه في الرّاديو وإلى جانبه وقتذاك حضرة صاحب الفضيلة شيخ الجامعة الزّيتونيّة، ولم يكد رئيس الحكومة يفرغ من حديثه حتّى تكلّم فضيلة الأستاذ التّونسيّ الكبير فقال للتّونسيّين: إنّ ما قرّرته الحكومة ملائم كلّ الملائمة للديّن الإسلاميّ الحنيف...» .

ولاشكّ في أنّ مســـألة وضعيّــة المــرأة وتحريرها من ربقة القيود الاجتماعيّة قد لفتت انتباه طه حسين في هذه الزّيارة، ففضلا عمّا لاحظه مـــن تعلّم الفتيات وإقبالهنّ على مؤسّسات التّعليم بمختلف درجاتها ومستـــوياتها فإنّه توقّف عنــد قضيّة السّفور وسجّل بإعجاب دعوة رجال الدّولة إلى مشاركة المرأة في مختلف أوجه النّشاط المجتمعـــيّ وإلى الإقبـــال على معترك الحياة العامّة في مساواة كاملة مع الرّجال لا تشوبهــا شكليّات اللّباس ولا أعباء التّقاليــد الموروثة: «وكان من أغرب ما رأيت بالجــامعة الزّيتونيّة أنّ فتاة من طالبات هذه الجامعة– والفتيات يشاركن الفتيان في طلب علـوم الدّين دون تفريق بين أولئك وهؤلاء- أقبلت لتتلــقّى جائـزتها من رئيس الحكومة، وكانت نصف منقّبة، فقال لها الرئيس وهو يعطيها جائزتها: أرجو أن أراكِ في العام المقبل سافرة وقد تخفّفتِ من بقيّة هذا النّقاب. ورئيس الحكومة يدعو جاهدا إلى السّفور وإلى أن تشارك المرأة في الحياة الاجتماعيّة العامّة كما يشارك الرّجل. ويتلقّى أهل تونس نساء ورجالا دعوته في استجابة ورضًى».

من الاستذكار إلى الاعتبار

إنّنا لا نعود اليوم إلى زيارة طه حسين إلى تونس لمجرّد إحياء ذكرى بعيدة أو للحنين إلى ماضٍ مُدبر وإنّما لكي نعتبر ونتدبّر ونتعرّف السّبل التّي يجدر أن نمضي فيها، فليس من قبيل التّباهي والرّضى أن نقول إنّ تونس كانت على امتداد تاريخها الطّويل مهد تحديث وتجديد وموئل سبق وريادة وتأسيس، وحسبنا أن نذكر «تفسير» ابن سلّام و«مدوّنة» سحنون و«أحكام» يحيى بن عمر و«زاد» ابن الجزّار و«عمدة» ابن رشيق و«رسالة» القابسي و«لسان» ابن منظور و«منهاج» حازم القرطاجنّي و«مقدّمة» ابن خلدون و«مختصرات» ابن عرفة و«حُلل» الوزير السرّاج و«مسالك» خير الدّين و«إتحاف» ابن أبي الضّياف و»صفوة» بيرم و«تحرير» ابن عاشور و«امرأة» الحدّاد و«أغاني» الشّابي و«سدّ» المسعدي و«دقلة» خريّف و«فتنة» جعيّط و«عيال» الطّالبي و«شعريّات» بكّار وغير ذلك كثير. 

إنّه رصيد زاخر عظيم يشهد أنّ العقل التّونسيّ متعلّق دوما بالتّطوّر والحداثة. غير أنّ دعاة التّجديد والانفتاح مرصودون عادة بالتّشنيع والتّشويه، وأصحاب الفكـــر الحــرّ مردوعون بالتّرهيب والتّهديد، وهو ما يطرح أمام النّخب والمثقّفين وأمام المنظومة التّعليميّة والجامعيّة والفضاءات الثّقافيّة والمنابر السّياسيّة والفكريّة والدّينيّة تحدّيا جسيما وهو القطع– في خيار الحداثة - مع التّردّد والحيطة والارتباك، والتّصدّي لجميع مظاهر النّكوص والارتداد على نحو يحسم كلّ نزاع، فالاختيار بين الحياة والموت واليقظة والسّبات والضّياء والظّلمة لا يمكن أن يكون محلّ جدل أو حوار، فلنتجادل ونحن جميعا أحياء وأيقاظ ننعم بالنّور ونرنو إلى الشّمس.

الحبيب الدريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.