أخبار - 2017.10.31

كتاب حكّام إفريقيّة وتونس أو التاريخ مجــالا للإحصاء

كتاب حكّام إفريقيّة وتونس أو التاريخ مجــالا للإحصاء

حينما أقرّ عبد الوهاب الجمل العزم على تأليف كتاب عن حكّام إفريقيّة وتونس من الفتح العربي الإسلامي إلى عصرنا الحاضر كان يعلم علم اليقين أنّه مقبل لا محالة على مغامرة مثيرة، محفوفة بالمشاق والصعاب ومليئة بتحديات جسام ، لعلّ من أبرزها النجاح في المسعى العلمي ونيل رضا القراء وأهل الاختصاص، على حدّ سواء. كانت مغامرة لأنّ إنجاز هذا العمل يفترض، في المقام الأوّل، تقديم إضافة ذات بال تتجاوز المتعارف عليه من أخبار ومعلومات عن تاريخ البلاد التونسية، فاضت بها تآليف القدامى والمحدثين، وذلك من خلال تفادي اتّباع المسالك المطروقة والبحث عن زوايا  جديدة في تناول التاريخ، فضلا عن الإلمام بقواعد البحث العلمي والقدرة على قراءة المراجع وتوخّي الدقة والصرامة في العرض والتحليل.

فإلى أيّ مدى استجاب كتاب «حكّام  إفريقيّة وتونس، من الفتح الإسلامي إلى العهد الجمهوري» الصادر مؤخّرا عن دار «SIMPACT» للنشر للمعايير العلمية المطلوبة؟ وأيّ قيمة لهذا المؤلَّف الذي يقول واضعه في حفل تقديمه، إنّه «تطفّل» على التاريخ واقتحم مجال الكتابة فيه هاويا؟

الانطباع الأوّل الذي يحصل للقارئ منذ الشروع في مطالعة الكتاب الذي يقع في 650 صفحة من الحجم المتوسّط أنّه إزاء عمل ضخم تطلّب من صاحبه بحوثا مضنية، استنادا إلى مراجع عديدة متناثرة لكتّاب ومؤرخين تونسيين وعرب وأجانب، كما استوجب منه جهدا استثنائيا لرسم هندسة المؤلّٓف وضبط تخطيطه وإيقاعه وصياغة مادّة  مكثّفة تسمح باستعراض الأحداث والوقائع التاريخية، دون إسهاب مملّ أو اقتضاب مخلّ، انطلاقا من فيض من المصادر والنصوص. ويتحوَّل هذا الانطباع ، كلّما تقدّم المرء في قراءة الكتاب إلى أن يدرك نهايته، إلى شعور بالتقدير لما أنفقه عبد الوهاب الجمل من جهود سخية استمرّت على مدى خمس عشرة سنة في سبيل إعداد هذا البحث الذي يغطّي حقبا زمنية مختلفة من تاريخ تونس تمتدّ على مدى 1369 عاما، أي من سنة 645 - 646 م / 25 هجري،  تاريخ قدوم عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى إفريقية البربرية لاستكشاف المنطقة قبل الفتح العربي الإسلامي، إلى 31 ديسمبر 2014، تاريخ تولّي الباجي قايد السبسي مقاليد رئاسة الجمهورية رسميا.

دقّة في نقل الأحداث وصرامة في المنهج

على الرغم من أنّ الكاتب ليس مؤرّخا أو باحثا جامعيّا- فهو حاصل على الإجازة في العلوم الاقتصاديّة وخرّيج المرحلة الثالثة للمدرسة القومية للإدارة - فإنّه أولى الجوانب المنهجية قدرا كبيرا من الاهتمام، بحكم تكوينه الأكاديمي. لذلك حرص في التوطئة على أن يبيّن أنّ « هذا المؤلّٓف بحث تأريخي عملي طبقا لمواصفات الأعمال الموثقة وانطلاقا ممّا كتبه مؤرخون وباحثون ودارسون من أزمنة وأماكن مختلفة ومدارس علمية متعددة ... فهو يشبه إلى حدّ ما «التراجم» و«السير»، إذ هو تدوين  دقيق وشامل للوقائع والأحداث التي حفّت بصعود أولئك الحكام إلى سدّة السلطة والنفوذ وتعريف بهم وبإنجازاتهم ومآثرهم من جهة وخيباتهم وانكساراتهم من جهة أخرى». 

كما لم يغب عنه تحديد مفهوم «الحاكم» - وهو ضرورة منهجيّة قصوى- حيث أوضح أنّ المعنيّ بـ«الحاكم» من منظور هذا البحث «هو كلّ من تولّى السلطة العليا والمسؤولية الأولى في هذه الرقعة من الأرض، سواء كان ذلك في إطار استقلال كامل عن أيّ نفوذ أجنبي أو سلطان خارجي أو في إطار تبعية نسبية معينة.... الاستقلال التام لهؤلاء الحكام، بما يعني ذلك من تمتّع مطلق بالسيادة أو انفراد كامل بإدارة الشؤون الداخلية أو الخارجية للبلاد وعدم الخضوع لأي مراقبة أو تبعية أو إشراف خارجي مهما كان شكله ومأتاه ، لم يكن حقيقة ثابتة ولا واقعا متأكدا في إفريقية وتونس على امتداد الحقبة الزمنية المحددة في هذا الكتاب، سوى خلال بعض الفترات، منها الخلافة الفاطمية (من سنة 910 م إلى سنة 972م)  وفترة السلطة الحفصية (من 1207 إلى 1574) وفترة العهد الجمهوري (من 1957 إلى اليوم)...

لم يحد المؤلَّف عموما عن الضوابط المنهجية والعلمية التي أكّد الالتزام بها منذ البداية، فتوخّى الدقّة والصرامة في نقل الأحداث التاريخية وتوصيفها باختزال لافت لم يعق فهم الأحداث وتسلسلها الزمني وإدراك أبعادها وتأثيراتها، ذاكرا مختلف المراجع التي جعلت من ثراء البيبلوغرافيا إحدى سمات الكتاب البارزة، إذ لا يقلّ عدد المراجع بالعربية عن 150 مرجعا، في حين بلغ عددها بالفرنسية 67 مرجعا. غير أنّ ما يمكن أن يعاب على المؤلَّف عدم مقارنة المصادر ونقدها، فضلا عن عدم ذكر تاريخ صدور المرجع والدار أو المؤسسة التي تولَّت نشره، ورقم الصفحة أو الصفحات التي وردت بها البيانات المنقولة في النصوص. كما غاب عن التراجم والسير التحليل النفسي للحكّام  وتوصيف نظام الحكم وأسلوبه من زاوية العلوم السياسية الحديثة، وهما أمران ندرك بجلاء صعوبتهما.

مقاربة إحصائية للتاريخ

لا شكّ أنّ ما يميّز الكتاب عن بقية المؤلفات المخصّصة لتاريخ البلاد التونسية اعتماد صاحبه مقاربة طريفة ومتفرّدة إذ أخضع الفترة الزمنية التي تناولها بالدرس والتمحيص لقراءة إحصائية، فقد قام - وهو المختصّ في مجال الإحصاء - بتعداد كلّ الحكّام الذين تداولوا على السلطة منذ بداية الفتح العربي الإسلامي إلى يومنا هذا، فرتّبهم  حسب التسلسل الزمني وحسب الانتساب إلى نفس السلالة. وفي الخاتمة العامّة، ذكر معدّل فترة حكم كلّ واحد منهم ووزّعهم حسب المدّة المقضّاة في السلطة، وبوّبهم حسب ما حملوه من ألقاب وصفات في المناصب التي تقلّدوها  وأحصى الحكّام الذين غادروا مناصبهم في نهاية فترة حكمهم في ظروف عادية وكذلك الذين عرفوا نهاية مأسوية، ضحايا عمليات اغتيال أو إعدام أو ضحايا انقلاب، علاوة على الحكّام الذين غادروا الحكم في ظروف استثنائيّة للغاية،  تاركا للقارئ حريّة التحليل والتقييم.

وخصّ الكاتب بخاتمة كلّ حقبة تاريخية ورد في إطارها استعراض الحكام الذين تداولوا خلالها على السلطة وأحكم تبويب المواد. كما أدرج شجرات السلالات ذات الحكم الوراثي وجدولا تلخيصيا يتضمّن اسماء الحكام  والفترة التي قضّاها كل واحد منهم  في السلطة وظروف نهاية حكمه، فأضفى ذلك على المؤلَّف طابعا عمليّا وجعل منه دليلا يسهل الرجوع إليه في كلّ آن وحين للاطلاع على سيرة أيّ حاكم من الحكام أو على ما استجدّ من وقائع في حقبة زمنيّة ما. 

وممّا يزيد القارئ تعلّقا بالكتاب سلاسة الأسلوب وجزالة اللفظ والتعبير عن المعنى المقصود بأوجز طريق وأقربه، دون لغو أو حشو.

ولعلّنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ الكتاب يعدّ مرجعا مهمّا يثري المكتبة التاريخية، باعتباره محاولة جادّة من رجل ذي ثقافة واسعة وتجربة سياسية ثريّة لقراءة تاريخ تونس من زاوية مختلفة تساعد على فهم أعمق للماضي ولأدوار الفاعلين في أحداثه، في ارتباط وثيق بالحاضر وبحقائقه.

عبد الحفيظ الهرڤام

قراءة المزيد:

مقتطف من كتاب «حكّام إفريقية وتونس»

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.