عبد الحميد الجلاصي : حذار ! لا أحد سيستفيد من التأزيم

عبد الحميد الجلاصي : حذار ! لا أحد سيستفيد من التأزيم

-1- للأسف لا يبدو أننا ندرك بما فيه الكفاية هشاشة الأوضاع في بلادنا. و يبدو أننا، نحن من نسمي أنفسنا النخبة، نستخف بالأصوات المتصاعدة من "التحت ". يبدو أننا لا نقرأ استطلاعات الرأي، أو أننا لا نحسن قراءتها، أو أننا لا نصدّق نتائجها، أو إننا لا نبني عليها إن صادف وصدّقناها.
وإحدى أهم نتائج هذه الاستطلاعات هو اهتراء الثقة في النخبة الحاكمة. والنخبة الحاكمة هنا لا تعني فقط الحكومة، ولا تعني فقط الممضين على وثيقة قرطاج. بالتاكيد هي تعنيهم أولا، و لكن تعني أيضا كل من يشارك في منظومة الحكم من موقع المعارضة، أو موقع الضغط انطلاقا من الإقرار بشرعية المؤسسات القائمة ومن اعتماد سبل التغيير المدني، و هم والحمد لله الأغلبية الساحقة في الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين اليوم.

التأزيم قد يكون استراتيجية سياسية مقبولة إذا وجدت قوة قادرة على استثمار نتائجها. ولكنها تكون كارثية إذا أفضت إلى الفوضى. عندها يجمع الواقفون وراءها الغباء إلى الخفّة و نقص المسؤولية وضعف الشعور الوطني.
لنتأمّل اللوحة، أسابيع قليلة قبل الذكرى السابعة لثورة الحرية والكرامة. و هي مدة كافية لتقديم جرد حساب لمن قاموا بالثورة:

-2- لأوّل مرة منذ الثورة يشك التونسيون، يسبقون عند المقارنة الاقتصادي على الديموقراطية لا لأنّهم يكرهون الديموقراطية بل لأنّهم يكرهونها خاوية من محتواها الاجتماعي.
والأسابيع القادمة ستكون صعبة لتمرير ميزانية لم تحظ بالمنهجية المناسبة في بنائها ولا بالجهد التواصلي الكافي لشرحها ولا بالبيداغوجيا المطلوبة لتبيان ما فيها من آفاق تتجاوز حالة المراوحة وربما حتى الانسداد.

-3- وها تفاجؤنا عديد التساؤلات حول مسارنا الديموقراطي، مبعث فخرنا الأساسي منذ الثورة. بالتاكيد عالم ما قبل الرابع عشر من جانفي انتهى إلى غير رجعة، ولكننا لم نبلغ بعد برّ الامان الديموقراطي؛
والمخاوف تغذيها مجموعة مؤشرات تتراكم ويرتفع نسقها. فهذا مسارنا الديموقراطي يجرجر رجليه، وكل يوم نكتشف تعلّة جديدة. فمطلوب منا في ظرف سنتين، أي أربع و عشرين شهرا فقط، إنجاز الانتخابات المحلية و تنصيب المجالس الجهوية وإنجاز الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية، كل ذلك دون أن نحقّق بعد الممهّدات الضرورية، و ظهرت عملية انتخاب رئيس الهيئة أعقد من انتخاب بابا الفاتيكان، ولا شك أنّ إقرار المجلة الجديدة للجماعات المحلية سياخذ وقتا وسيشد الأعصاب لأنّ رهانها لن يكون فنيا ولا حتى انتخابيا. سيكون بالأساس رهانا سياسيا مع رغبة معلنة لدى البعض لإفراغ الباب السابع من الدستور من محتواه والعودة لتقليد الدولة المركزية السائد.
قانون العفو الإداري الذي كان من المفروض أن يمثّل لبنة في مسار مصالحة وطنية شاملة ترك طعم المرور بقوة وتغذية الإحساس بالغبن لدى فئات ترى أنها لا تقل جدارة باهتمام الدولة من المشمولين بهذا العفو. الغبن يرسخ في بعض الاذهان مخاطر الاستعادة reconquesta وكأنّ أصحاب الدولة القديمة يسترجعون ملكيتهم .قد يكون هذا مجرد وهم ولكننا نحتاج أحيانا للتعامل مع أوهام الناس.
وهكذا نكتشف مرة أخرى إنه في السياسة قد تفوت إخلالات البيداغوجيا مقاصد السياسات.

-4- في هذه المناخات يسمح بَعضنا لنفسه أن يثير قضايا تتعلق برهانات ثقافية تتصرف في المشترك الوطني، تجاه اليمين أو تجاه الشمال.
مرة أخرى غياب البيداغوجيا وإغفال السياقات يضيع المقاصد ويقود إلى حروب في غير وقتها وفي غير ساحتها فتزيد من حالة الإرباك والتلبيس.
يمكن أن يعاب هذا على بعض الخطوات التي اتخذت خلال الصائفة الماضية باثارة ملفات تمس قضايا حساسة تمس المتعارف عليه من قواعد اجتماع التونسيين، كما يمكن أن يعاب على ما حدث آخر هذا الأسبوع في سليانة.
خلنا أنفسنا قد تجاوزنا المعارك الأيديولوجية ولا المناخات التي حفّت بمناقشة فصول الدستور بما في ذلك الفصل السادس الشهير ، حيث تحولت مشادة البداية بين نائبي التأسيسي إلى عناق عند المصادقة النهائية على الدستور.
شخصيا أعتبر، وأنا مسؤول في النهضة،  أننا نتحمّل جزءا من المسؤولية في اللبس الحاصل .لم نروّج لوائحنا كما ينبغي، ولم نضبط سياسة تواصلية مناسبة، و لا إزلنا اللبس أنه ليس لنا ذراع ولا جناح دعوي .انتهى التنظيم الشمولي بالنسبة لنا.
لم نستخلص، في الممارسة، الدروس كما ينبغي من تقصير وقعنا فيه سنوات 2011-2012 حينما لم نتمايز بشكل حاسم مع بعض مكوّنات الساحة الدينية . كان ذلك خطأ في التقدير لا تزال صورتنا تعاني منه لحد الآن. لا يمكن لهذا اللبس أن يستمر و إلا لن يصدّقنا أحد. الممارسة يجب أن تكون حاسمة قدر الحسم الذي كان موجودا في وثائق المؤتمر العاشر.

النهضة كحزب تهتم بالشأن الديني من خلال ما تساهم به من سياسات في فضاء الحكم ومن خلال ما تقترحه من إجراءات للموظفين والعاملين في هذا المجال و من خلال ترسيخ مناخ الحريات الذي يسمح بانتعاش المجتمع المدني الذي يقوم بوظائفه تحت سقف الدستور.
-5- ولا شك أنّ جمعيات المجتمع المدني المعنية بشأن التزكية والتثقيف الديني والوعظ والإرشاد (شخصيا أفضّل هذه الاستعمالات على لفظ الدعوة) معنيون ،هم أيضا، بمراعاة السياقات والمخاوف.لا أحد يناقش في حقهم الدستوري في النشاط .لا أحد، إلا وفقا للصيغ التي يتيحها الدستور نفسه أو النصوص المنبثقة منه . هذه مسلّمة. ولكن البضاعة الدينية في منطقتنا تثير التباسات كثيرة يجب تفهمها. كما انه قد تكون هناك فوارق نوعية بين العمل السياسي الذي من تقنياته التحشيد والعمل التثقيفي الذي قد تكون الصيغ الحوارية الهادئة هي الأنسب به حتى يترسخ عند الناس أن السياسة تنافسية صراعية قد تفرّق ولكن الدين مجمّع. الدين واسع، وهو كحقيقة موضوعية يؤثر في الجميع. هو عند المؤمنين به تفسير للوجود وموجه وقيم في الحياة، وهو عند غيرهم ثقافة راسخة ومعطى، موضوعيا، لا يمكن التفصي من التعامل معه على الأقل بصفته تلك.
-6- لكن ما لا يقبل إطلاقا أن تتحول الدولة الى إقطاعيات. لم تتحول تونس بعد إلى دولة فاشلة، و لن تتحول بإذن الله . للدولة مؤسساتها المنتخبة ولها هياكلها وإدارتها وما فوضت أحدا للتكلم باسمها.
والحداثة نفسها لعلّها تتضرّر كثيرا ممّن حوّلوها إلى دين، أرضي هذه المرة، ونصّبوا أنفسهم سدنة معبدها.
هؤلاء يستعذبون العودة لمربع الأيديولوجيا. إن لم يتداركوا أنفسهم و يخرجوا من الكهف فلن يدركوا صباحا وسيصبحون عبءا على المجموعة الوطنية.
-7- عندما نستجمع الصورة فنرى تنمية ضعيفة ومسارا ديموقراطيا فيه بعض الارتباكات ومسارا انتخابيا منفلتا وعقليات تحنّ إلى صراعات الهويات، و عندما نرى الفجوة بين الحياة الحقيقية وانشغالاتها وعوالم النخبة، وعندما نرى الانفلاتات في عالم القيم باتجاه ثقافة "تدبير الرأس " إو الانتحار بصوره المتعددة، عندما نرى كل ذلك لا تطاوعنا أنفسنا على التشاؤم ،لأننا ندرك أنّه توجد بين التونسيين كتلة تدعو إلى التهدئة، موجودة في كل الأحزاب والتيارات، وخارج الأحزاب والتيارات، كتلة البناء الديموقراطي الاجتماعي.
هذه الكتلة مطالبة بالتحرك بسرعة للتحكم في الانفلاتات جميعها .وسيحصل . فنحن أبناء عليسة التي كانت لها العبقرية لكي تصنع من جلد ثور إمبراطورية .هكذا نحن التونسيون!
التأزيم لن يفيد أحدا والمعركة الثقافية الوحيدة الحقيقية هي ثقافة الثورة بما هي بناء وتضحية وجهد وإتقان ونظافة وشفافية ومسؤولية.

عبد الحميد الجلاصي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.