منظمة الأمم المتحدة: هل ينجح دونالد ترامب في جــرّها إلى ما يريــد؟

منظمة الأمم المتحدة: هل ينجح دونالد ترامب في جــرّها إلى ما يريــد؟

يصدر هذا المقال ومنظمة الأمم المتحدة تستعدّ للاحتفال، في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر الجاري، بذكرى ميلادها الثانية والسبعين. واحتفالها هذا العام له طعم مختلف، فهو يأتي بعد أن جاءها الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب، يوم الأربعاء 19 سبتمبر 2017، متأبّطا خطابا فظا غليظا ليلقيه أمام جمعيتها العامة التي انعقدت، ويالها من مفارقة، تحت عنوان «التركيز على الناس الذين يسعون إلى السلام والحياة اللائقة للجميع على كوكب مستدام». على أنّ المفارقة الأكبر هي أنّ هذا الخطاب جاء متناقضا تمام التناقض مع المبادئ التي تأسّست عليها المنظمة والمقاصد التي قامت من أجلها.

لقد جاء في ديباجة ميثاقها أنّ شعوب الأمم المتحدة قد آلَوْا على أنفسهم أن ينقذوا الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد، جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن يدفعوا بالرقيّ الاجتماعي قدماً، وأن يرفعوا مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، وأنّهم في سبيل هذه الغايات اعتزموا أن يأخذوا أنفسهم بالتسامح، وأن يعيشوا معاً في سلام وحسن جوار، وأن يضمّوا قواهم كي يحتفظوا بالسلم والأمن الدولي...
وقد عدّدت المادة الأولى من الفصل الأول من الميثاق مقاصد الأمم المتحدة فأجملتها في حفظ السلم والأمن الدولي، وفي إنماء العلاقات الودّية بين الأمم على أساس احترام المبدإ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وفي اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام، وفي تحقيق التعاون الدولي على حلّ المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.
وقد أردف في مادته الثانية بصورة خاصة أنّ الهيئة تقوم على مبدإ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها، وعلى أنّ جميع أعضائها يفضّون منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر، ويمتنعون في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضدّ سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
فماذا جاء، من كل ما تقدّم، في خطاب الرئيس دونالد ترامب؟
لقد جاء فيه ما يلي:
1 ـ أنّه سينفق 700 مليار دولار على الجيش الأمريكي حتى يكون الأقوى في التاريخ.
2 ـ أنه، إن لم تنزع كوريا الشمالية سلاحها النووي، سيدمّرها تدميرا كاملا.
3 ـ أنّه لا يستطيع أن يدع النظام الإيراني يواصل أنشطته المزعزعة للاستقرار، كما لا يستطيع أن يحترم الاتفاق المُبْرَم حول البرنامج النووي الإيراني لأنه الأسوأ في التاريخ الأميركي.
4 ـ أنّه يعتبر أنّ أي مجتمع لن يكون بمأمن إذا تم السماح بانتشار الأسلحة الكيميائية، ولذلك قام بضرب قاعدة الشعيرات السورية التي قال إنّ الهجوم بالسلاح الكيميائي على قرية خان شيخون انطلق منها...
5 ـ أنّه مستعدّ لمعاقبة النظامين الكوبي والفنزويلي وأنّه سيقف إلى جانب شعبي كوبا وفنزويلا حتى يساعدهما على استعادة حريتهما وعلى إعادة إقرار الديمقراطية في بلديهما...
6 ـ أنّه يعتبر أنّ «آفة الكوكب الأرضي اليوم هي مجموعة من الأنظمة الخارجة على القانون»، وأنّه «إذا لم يجابه الخيّرون الأشرار فإنّ الشر سينتصر».
7 ـ أنّه سيوقف الإرهاب الإسلامي الراديكالي، لكن مصالح بلاده هي التي ستحدّد مناطق العمليات العسكرية ومداها.
8 ـ أنّه يدعو إلى إصلاح منظمة الأمم المتحدة حتّى تكون شريكا فاعلا في مواجهة التهديدات المحدقة بسيادة الدول الأعضاء وأمنها واستقرارها، ويستدعي ذلك، بصورة خاصة، أن تساهم الدول الأعضاء في ميزانية المنظمة بشكل عادل إذ ليس من العدل، كما أكد، أن تتحمل الولايات المتحدة وحدها 22 بالمئة من هذه الميزانية.
أنّه يعتبر ازدهار الولايات المتحدة، وتحسين مستوى عيش شعبها همّه الأول، وأنّه طالما بقي في منصبه سيدافع عن مصالحها، وعلى هذا الأساس فإنّ بلاده، مع الحفاظ على صداقتها مع دول العالم ومع حلفائها، لا يمكن أن تدخل في اتفاق مع طرف آخر لا تجني منه مغنما.
وبالرغم من أنّ العالم بدأ يتعوّد تدريجيا على «شطحات» المرشّح ثم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإنّ أحدا لم يكن يتوقّع أن تبلغ «شطحته» في أول خطاب يلقيه في الأمم المتحدة منذ تولّيه الرئاسة، هذ الشأو البعيد من الخروج على قاعدة «لكل مقام مقال»، ومن الاستخفاف بمنبر الأمم المتحدة الذي يعدّ أعلى منابر الدبلوماسية الدولية وأحرصها، على الأقل نظريا، على قيم التواصل والتحاور التفاوض والتوافق. 
ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تصيب التّهديدات التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب الحضور في قاعة منظمة الأمم المتحدة بالذهول والتململ، وأن تثير مخاوف دول العالم وأن توقع منظمة الأمم المتحدة في حرج كبير... لا سيما وأنّ الخطاب لم يكن مرتجلا وإنّما كان نصّا مكتوبا، على ما يبدو،  بكل عناية ودقة...
وبقطع النظر عن سيل الأوصاف والنعوت السلبية التي تهاطلت على خطاب الرئيس دونالد ترامب من كل صوب وحدب وحتى من بعض الأمريكيين أنفسهم، فإنّ ما تضمّنه من تهديدات عدوانية فجّة شكّل تحديا حقيقيا للأسرة الدولية التي استهجنت، بعضُها جهرا وبعضُها الآخر سرا، أن يهدّد رئيس القوة العسكرية العالمية الأولى بتدمير إحدى دول العالم تدميرا كاملا من أعلى منبر المنظمة التي تعتبر معالجة النزاعات وفضّها بالطرق السلمية علّةَ وجودها...
ثم إنّ هذا الخطاب خلا أو كاد من الاهتمام بكبريات المشاكل الملتهبة التي تعصف بالعالم، على غرار مشاكل المناخ والهجرة واللجوء وعلى غرار القضية الفلسطينية ومعضلة الشرق الأوسط التي لم يتطرق اليها من قريب او بعيد...
وهوما أثار بشكل خاص استياء الأوروبيين الذين يعيبون على الرئيس دونالد ترامب موقفه من الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني ويرون ضرورة الاستمرار في تنفيذه بعد أن بذلت مجموعة الدول الست جهودا مضنية من أجل التوصل اليه...
أما بالنسبة إلى منظمة الأمم المتحدة فإنّها كما يقول أحد مسؤوليها رفيعي المستوى، ترى أنّ الولايات المتحدة تثقل، بهذا الخطاب الذي يزيد من توتر الأوضاع في العالم، كاهلها، فهي تضاعف من صعوبة عملها، وتعيق جهودها الرامية إلى حلّ النزاعات والتقريب بين وجهات نظر الأطراف المتنازعة، ولا تسمح للدبلوماسية الدولية بالتحرك بشكل أفضل من أجل معالجة المشاكل القائمة... 
وبالفعل فإنّ خطاب الرئيس دونالد ترامب الذي وصفه وزير خارجية كوريا بـ»نباح كلب»، ووصفه المرشد الأعلى الإيراني بأنّه خطاب «رعاة بقر ورجال  عصابات» ضيّق على الأمم المتحدة هامش المناورة والتحرك الدبلوماسي، إذ أنّه صعّد من حدّة التوتر بين الولايات المتحدة وبين كل من كوريا الشمالية وإيران وهو في نهاية المطاف سيؤدي إلى نتيجة معاكسة لما تريده واشنطن، إذ من المستبعد أولا أن يحمل بكين وموسكو على ممارسة المزيد من الضغوط على الزعيم الكوري الشمالي، كما أنّه من المستبعد ثانيا أن يؤدي تملّص الولايات المتحدة من الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني الذي  تشهد وكالة الطاقة الدولية بأنّ تطبيقه يسير على ما يرام من جانب إيران، إلى تشجيع كوريا الشمالية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق مماثل أو شبيه...
ثم إنّ الرئيس دونالد ترامب الذي لا تربطه أصلاً علاقة ودية بمنظمة الأمم المتحدة، بل إنّ علاقته بها ملتبسة منذ زمن بعيد وقد تعدّدت انتقاداته لها ولعملها حتى أنّه قال في أحد تصريحاته عن مندوب أمريكا بالأمم المتحدة: «نحن نحتاج مندوبا يريد الفوز ويحب الفوز. شخص قادر على هزيمة الأمم المتحدة».
ومن هذا المنطلق، شدّد في خطابه على ما سماه إصلاح الأمم المتحدة، وهذه في رأيي كلمة حق أريد بها باطل... فمما لا شك فيه أنّ هذه المنظمة بحاجة ماسّة، ومنذ زمن بعيد، إلى الإصلاح ولكن أي إصلاح؟
إنّ ما يريده الرئيس دونالد ترامب هو أن يتم الإصلاح وفقا لمصالح وأهواء الولايات المتحدة أي أن تكرّس الإصلاحات «ولاء» المنظمة لها ولرؤيتها للعلاقات الدولية، لا سيما في هذا الزمن الذي بدأت فيه الأصوات تعلو منادية بإعمال مفهوم «الحوكمة العالمية»، وهو مفهوم يصيب بطل شعار «أمريكا أولا» بحساسية مفرطة لأنّه لا يرى فيه إلا قيدا سياسيا وعبئا اقتصاديا من شأنهما أن يمسّا بطموحات الولايات المتحدة الامريكية وأن يعرقلا تحقيقها...
ولأنّ مقاربة الرئيس دونالد ترامب للعلاقات الدولية تقوم على ركيزتين أساسيتين هما انتهاج سياسة العصا لمن عصى أوامر واشنطن، واتباع مسلك التجّار الذين لا يبرمون أي صفقة إلا اذا ضمنوا الربح منها... فإنّه لن يتوانى عن الضغط بكل الوسائل على منظمة الأمم المتحدة حتّى يجرّها إلى ما يريد...
وبالفعل فقد لوحظ عند الكشف عن أول ميزانية فيدرالية في عهده أنّ التقليص في مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية المنتظم الأممي أصبح حقيقة حيث تلقّت كتابة الدولة تعليمات بالقيام بالقطع بصفة ملموسة من هذه المساهمة.
فهل سينجح الرئيس دونالد ترامب في فرض مقاربته للعلاقات الدولية على منظمة الأمم المتحدة؟ إننا نخشى ذلك ولكننا نأمل أن تشكل مواقف روسيا العائدة، والصين الصاعدة، وبقية دول «بريكس» الواعدة بالحيلولة دون حدوث ذلك.
محمّد ابراهيم الحصايري
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.