عبد الحفيظ الهرقام: في بيداغوجيا الخطاب الــسياسي

عبد الحفيظ الهرقام: في بيداغوجيا الخطاب الــسياسي

تنذر سنة  2018  بأن تكون سنة كلّ المخاطر، لا سيّما اقتصاديا واجتماعيا، إذ لا يُستبعد أن تستغلّ أطراف معروفة بنزعتها الديماغوجية الظرفيّةَ الراهنة، وكذلك الإجراءات الموجعة التي ستشرع الحكومة في تطبيقها مكرهةً، لمحاولة تأجيج نار الاحتجاجات الاجتماعية واستثارة الغاضبين بسبب أحوالهم المعيشية، خدمةً لأهداف سياسية لم تعد خافية على أحد.

وقد رأينا في المدّة الأخيرة كيف حاول البعض تجييش الشارع وتحريضه على السلطة القائمة، بترويج شعارات شعبوية يُراد من خلالها خلق مناخ ثوري جديد في البلاد.

يحملنا استحضار هذه الفرضيّة على أن نتساءل: هل إنّ تونس بمنأى عن هزّات اجتماعية لن تزيد- إن هي حدثت -إِلَّا في تعقيد الأوضاع وتأزيمها؟ وهل بإمكان البلاد أن تتجنّب خاصّة سيناريو مخيفا كذلك الذي شهدته في 26 جانفي 1978 و3 جانفي 1984؟ وهل للحكومة خطّة استباقية تجعلها في كلّ الحالات ممسكةً بزمام الأمور، متحكّمةً في مجريات الأحداث عند وقوعها؟

إنّ ما نلحظه اليوم في تونس هو هذه القطيعة على صعيد التواصل بين الحاكم والمواطن وانحلال عقد الثقة بينهما.

فغــالبا ما لا يبدي الحــاكم حـرصا كبيرا على تقـــديـــم كشــــف دقيق وصريح عن حصيلة أعماله في إطار المهمّة الموكولة إليه أو على انتهاج مسلك قائد رأي، مــطالب بإنارة الناس وإرشادهم نحو السبل الكفيلة بتحقيق المصلحة العامّة، بل تراه ينزع، من خلال الظهور الإعلامي، إلى البحث عن تلميع صورته وإعلاء شأنه في نظر الآخرين، وذلك على حساب بُعْدٍ هامّ ينبغي أن يكون حضوره قويّا في الخطاب، ألا وهو البعد البيداغوجي الذي يمثّل بلا ريب أسّ العمل السياسي. وهكذا يأتي الخطاب السياسي اليوم، باهتا، غائما في العديد من جوانبه، خاليا من المصداقية المطلوبة، وبالتالي فاقدا لعناصر جذب المتلقّي وإقناعه، وهو ما يمكن أن يفسّر حالة الضّيق والضّجر التي تطبع المشهد العامّ في البلاد.

لقد أتى حين من الدهر كان فيه دور الحاكم أيسر ممّا هو في وقتنا الحاضر. فقد كان كثيرا ما يستند - لتبليغ سياساته ومواقفه - إلى  حزب له قاعدة شعبية عريضة ووسائل إعلام مطيعة يسهل التحكّم فيها وتوجيهها، ممّا يسمح للخطاب بالنفاذ إلى جمهور يصغي إليه بانتباه.

ولنا في الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أحسن مثال على ذلك، إذ استطاع - بفضل ما تتميّز به شخصيته من جاذبية وما يتمتّع به من بُعد نظر وحصافة رأي وقدرة على الإقناع - أن يصوغ خطابا سياسيّا ذا طابع بيداغوجي لافت، إذ لم يكن يعتبر نفسه مجرّد حاكم ممسك بالسلطة، وإنّما كان يتوخّى إزاء شعبه أسلوب القائد الملهِم والمرشد المربّي، إذا ما تكلّم استمع إليه الناس وأخذوا بقوله.

أمّا الآن فإنّ الأوضاع انقلبت رأسا على عقب، ولم يعد الحاكم الممتلك الوحيد للحقيقة، القادر - في سبيل تعزيز نفوذه وترويج خطابه - على استمالة الإعلام الذي نعلم جيّدا أنّ وسائطه قد تعدّدت اليوم  وأنّ سطوته قد ازدادت حتّى أضحى سلطة قائمة بذاتها، لذلك  صار لزاما على أيّ حاكم اعتماد منوال مغاير للتأثير في الرأي العام والتواصل معه.

إزاء مــا تتطلّبه التحديات الماثلة أمام المجموعة الوطنية من تعبئة لكلّ الجهود والطاقات من أجل مجابهتها، لا مناص من أن نقرّ بأنّ الحكومة أمست، أكثر من أيّ وقت مضى، في أوكد الحاجة إلى خطاب سياسي يعلو صوتُه - من خلال الإصداع بالحقّ والحقيقة- على أصواتٍ مهيمنة على الساحة العامّة على الرغم من أنّها لا تمثّل إلاّ أقليّة.. أصوات وجدت لها منابر في جانب من وسائل الإعلام التي احترفت الإثارة، ديدنها الوحيد جلب اهتمام المتلقّي بكلّ الطرق. وكم من وزير وكم من سياسي وقع في شراك قنوات إذاعية وتلفزية نفخت في أحداث تافهة فحوّلتها إلى قضايا رأي عام!

ينبغـــي أن تستبق مفردات هذا الخطاب ردود الفعــل المتـــوقّعــة تجاه أيّ قرار أو إصلاح - والحكومة مقبلة في قادم الأيام على قرارات وإصلاحات مؤلمة لا غنى عنها- فيشرح منطلقاتها وأبعادها. كما لا بدّ أن يفتح  الخطاب البصائر ويصارح الشعب بحقائق الأمور ولو كانت مُرّةً ففيه تنتفي كلّ نزعة إلى مسايرة أهواء الشارع واسترضائه على حساب الخيارات الصائبة التي تستوجبها الواقعية السياسية. والأهمّ من كلّ ذلك هو أن يكون هذا الخطاب، في نهاية المطاف، حصيلة استقراء دقيق لخلجات الرأي العام وتطلّعاته وإنصاتٍ لكلّ الأصوات الخافتة التي منعها صخب تلك الأصوات المهيمنة من أن تبلّغ رسائل المحتاجين والمهمّشين والضعفاء.

فهل تقدر الحكومة على أن تستنبط من وحي التجربة السياسية التونسية الثريّة التي كان فيها للكلمة دور محوري ومن مستلزمات الواقع اليوم - بما كلّ ما يبطنه من مخاطر تفاقم القطيعة بين الحاكم والمواطن- بيداغوجيا لخطاب سياسي جديد، قوامها الإصغاء والشّرح والإقناع؟

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.