مـاذا بقـي فـيَّ مـن المـدرسة؟

مـاذا بقـي فـيَّ  مـن المـدرسة؟

سنة 1978 كانت آخرَ عهدي بمقاعد الدّراسة، وإنْ كنت مازلت جالســا إلى مـــدرسة الحيــاة والمــوت! وسنة 1958، أوّلَ عهدي بالمدرسة، في السّبيخة، قريةٍ من قرى القيروان، ومعلّمنا سي سالم بوسنينة، طيّب الله ثراه، يقف علينا في الفصل وفي المطعم المدرسيّ، كلّ التّلاميذ يتناولون أكلة دافئة، فقراؤنا وأغنياؤنا! ولم يكن بيننا فقراء أو أغنياء! ولم نكن نفهم ما معنى أن تكون فقيرا وما معنى أن تكون غنيّا! ومازلت، وأنا على هذا العمر، أعمل بالحكمة التي تقول: «أنا غنيّ بالأشياء الكثيرة التي أستطيع أن أستغنيَ عنها»، ليت حكومتنا تعمل بتلك الحكمة!

1959 كان معلّمنا سي المنصف الوحيشي شفـــاه الله ومتّعــه بالصّحّة والعافية يقتطع من راحته كلّ عشيّة جمعة، وكنتُ وأقراني ننتظر تلك العشيّة بفارغ صبر؛ حيث تتحوّل قاعة الدّرس البسيطة صالةَ سينما، تعرض صورا شفّافة متلاحقة، تروي قصّة من القصص التي تملأ قلوبنا الصّغيرة، أحيانا حزنا، وأحيانا فرحا؛ ويرافق صوتُ المعلّم كلَّ صورة بالشّرح والتّفصيل.

سنة 1960، أدركت أنّ فمي يشبه مغارة الثّعلب، ومعلّمي سي عبد الله عيّاد يقول لي وأنا أتثاءب: «أغلقْ مغارة الثّعلب يا ولد!»، ولم أتثاءب بعدها أبدا!

1961، في بداية كلّ حصّة محفوظات ينادي معلّمي سي الحبيب القلاّل: «صحبي، إلى السّبّورة»، وأنا أستعرض مهارتي في الإلقاء؛ خذلني قدري، كان مقدّرا أنْ أكون ممثّلا موهوبا، ولم أكُ!

1962، مرّت أشهر تسعة، ولم أرَ معلّم العربيّة واقفا على رجليه، ندخل القاعة وهو جالس ونغادرها وهو جالس؛ وأمّا معلّم الفرنسيّة، فقد بالغ في الحزم، حتّى باتت حصّته كابوسا!

1963، كان يكفي أن أختلــق موضــوعـــا حتّى يغفل سي عثمان فيّالة معلّـــم العربيّـــة ويشرد عن الدّرس؛ وكانتْ حصّته تمرينا على الحكايات العجيبة الغريبة، وأزعم أنّ مَلَكة الكتابة بدأت تسكنني أيّامها.

1964، ســي حمّادي المسروقي طيّب الله ثراه، كان مدير المدرسة وحارسَها ومعلّمها، وكان يخصّص ساعةً كلّ صباح من السّابعة إلى الثّامنة لدروس مجّانيّة وإجباريّة.

1965، كانت بدايتي مع المرحلة الثّانويّة، مسيو بْليسّـون أستاذ الفرنسيّة لم يختلف مع أمّ كلثوم وهي تغنّي: «فمـــا أطال النّـــوم عمرا ولا قصّر في الأعمار طول السّهر»، وحبّب إلينا المطالعـــة والسّهر، «ذلك وقتٌ نقتطعه من الموت لفائدة الحياة!»؛ وسي محمّد الحليوي، لروحه السّلام، وهو الذي درّس أخي منصف من قبل، أشبعَ غروري: «أنتم أبناء الوهايبي متفوّقون في العربيّة»؛ والسّيد غيغان أستاذ الجغرافيا سـرّب الشّكّ إلى قناعــاتي: «ليس صحيحا أنّ واحـــدا مع واحد يسـاوي دائما اثنــين!»؛ وأمّا أستاذ الرّياضيات سي الحبيـــب غُمـام، طيّب الله ثراه، فقد كان يقول لي: «إجابتك صحيحة، ولكنّك سلكتَ إليها مسلكا لا يستقيم! دلّني كيف سلكتَ هذا المسلك! النّتيجة لا تكفي، لا بدّ من مسلك سويّ!»؛ وسي يوسف عبد العفو أستاذ التّربية الإسلاميّة، زيتونيّ سَمحُ الرّوح والمُحَيّا، لا يستنكف ولا يجد حرجا في أنْ نجادله ويأخذ رعونتنا بكثير من اللّطف واللّين! جنسٌ من المدرّسين انقـــرض! ومسيـو فيـــروج، أستــــاذ الفيزياء، بلجيكيّ لطيف ودود، لا يستقرّ على نتيجة حتّى يمحُوَها من السّبّورة: «ما هذا الذي كتبتُ؟ نعيد التّجربة! لا بدّ أنّ هناك نتيجةً أخرى!».

1971، بدأت رحلتي مع المرحلة الجامعيّة، ودَرَسْنا على تونسيين وأمريكان وفرنسيين وبلجيكيين وسويسريين، كوكتال من المعارف بلذّة لا تضاهيها لذّة! هذا ما بقي فيَّ من المدرسة، نسيجٌ من ألف خيط، وألوانٌ لا تَبْلى! هل مازالت مدرسة اليوم كما كانت تلك؟.

الصحبي الوهايبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.