أخبار - 2017.10.07

سيرة مصطفي بن إسماعيل: عندمـا آلـت الـدّولــة التّــونـسيّـة إلى ملـك عضوض

«سيرة مصطفي بن إسماعيل» عندمـا آلـت الـدّولــة التّــونـسيّـة إلى ملـك عضوض

حالما فرغتُ من قراءة كتاب «سيرة مصطفى بن إسماعيل» حضرتني أبيات مأثورة لشاعر لبنان الكبير بشارة الخوري المعروف بالأخطل الصّغير (1890 – 1968) تُلخّص على نحو صادق ووفيّ حال البلاد التّونسيّة في تلك المرحلة العصيبة أواخر القرن 19 حيث يقول:

يَا أُمّـــــَةً غَـــدَتِ الـــذِّئَابُ تَسُـــوسُــــــهَا غَـــرِقَتْ سَفِينَـــتُـــهَا فَأَيــــْنَ رَئِيســُهــــَا؟

غـَرِقَــــتْ فَلَيْــــسَ هُنَــــاكَ غَيْرُ حَــــطَائِمٍ يَبْــــكِي مُــــؤَبِّنُهَا وَيَضْــحَـــكُ سُـــوسُــــهَا

تَتَمــــَرَّغُ الشَّهَـــوَاتُ فِي حُـــرُمَـــاتِــــــــهَا وَتَعِيـــــثُ فِي عَظـَمَــــاتِـــهَا وَتَــــدُوســُهَا 

تَعْسًـــا لَهَـــا مِــــنْ أُمَّةٍ، أَزَعِيـــمُــــــــــهَا جَــــــــلَّادُهَا وَأَمِينــــــُهَا جَــــاسُـوسُـــها؟

والحقّ أنّ المطّلع على سيرة ذلك الرّجل يدهش لسقوط أخلاقه وبشاعة شروره وفظاعة خياناته ولا يملك إلّا أن يشعر بأنّ اللّقب الذّي كان يجدر أن يحمله بدلا من لقب «الوزير الأكبر» هو «الشّيطان الأكبر»، فهو كما قال عنه مؤلّف الكتاب «أَشَرُّ مِنَ الوسواس الخنّاسِ».

أمّا الكتاب فهو وثيقة نادرة اهتمّ بتحقيقها الدّكتور رشاد الإمام (1932-2007)، وهو مؤرّخ وجامعي درّس بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بتونس وعمل بعدد من مراكز الدّراسات والبحث الوطنيّة والعربيّة، وتولّت وزارة الشّؤون الثّقافيّة نشر هذا الكتاب سنة 1981. وقد عزّزه المُحقّق وأثراه بعدد هامّ من الملاحق والوثائق والفهارس.

ولا يتضمّن المخطوط اسم المؤلّف الذّي ظلّ مجهولا، إلّا أنّ المحقّق يُرجّح أن يكون للكتاب مؤلّفان إثنان: الجزء الأوّل منه ينسبه إلى محمّد السّنوسي صاحب «الرّحلة الحجازيّة» (1851-1900)، أمّا الجزء الثّاني فيميل إلى اعتباره من تأليف علّالة بن الزّاي وهو كبير أعضاد مصطفى بن اسماعيل وأنصاره. فماهي أهمّ ملامح سيرة مصطفى بن إسماعيل؟ وماهي جناياته على البلاد التّونسيّة قبيل انتصاب الحماية الفرنسيّة؟

«كلّ إناء بما فيه يرشَح»

إذا عُدنا إلى نشأة مصطفى بن إسماعيل وجدنا أنّه عاش طفولة هامشيّة قادته إلى الانحراف والشّذوذ، فقد وُلد سنة 1850 من أب مسلم وأمّ يهوديّة اعتنقت الإسلام في بيت زوجها، وتوفّي والداه وهو ما يزال طفلا فتسكّع في شوارع مدينة تونس ممزَّق الثّياب رثّ الهيئة، ثمّ عمل نادلا بخمّارة لأحد المالطيين، ولم يدم ذلك طويلا فاشتغل معاونا لأحد الحلّاقين بسوق البلاط، ثمّ انتهى في كفالة أحد موظّفي قصر الحكومة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المؤلّف يصف هذا الانتقال الأخير بقوله «ثمّ ألقته يد الفساد»، والمقصود بذلك أنّ الصّبيّ بن إسماعيل انساق إلى سيرة الشّواذّ والمُجّان وأنّ ذاك الموظّف الحكوميّ اتّخذه غلاما من غلمانه.

والغريب أنّ صفة الغلام هي التّي ستدخله قصور البايات وتدفع به بعد ذلك إلى الارتقاء في المناصب، فلمّا اعتلى محمّد الصّادق باي العرش طلب أميرُ لواء حراسته غلمانًا يخدمونه فكان مصطفى بن إسماعيل أحد أولئك الغلمان. وهكذا ولج حياة القصر وارتقى في الخطط وتولّى عديد الوظائف فأسندت إليه مهامّ وكيل مشتريات القصر وأمير لواء حرس الباي ووزارة الحربيّة ووزارة الشّورى ثمّ الوزارة الكبرى من 1878 إلى 1881 وتحوّل بسرعة مذهلة من غلام للخدمة إلى «رجل دولة»! ، ولم يكن ذلك طبعا لكفاءة أبداها أو نجابة أظهرها وإنّما لمكانته في قلب الباي الذّي كان مغرما بغلامه غراما شديدا، ولما كان يتقنه من نسج للمكائد والدّسائس والمؤامرات.

«الطّيور على أشكالها تَقَع»

لمّا كان بن إسماعيل قد نشأ في بيئة اجتماعيّة متدهورة قيما وأخلاقا وتقلّب في مستنقع آسنٍ من الرّذالة والفساد فقد أحاط نفسه بمجموعة من الأعوان الذّين لا يقلّون عنه فسوقا وخُبثًا وهم: علّالة بن الزّاي نديم مصطفى بن إسماعيل وأوّل مساعديه، وإلياس مصلّي وزوجته لوجيا مصلّي، أمّا الزّوج فهو من أصل سوريّ التحق بخدمة البايات منذ 1847، عُيّن مترجما بالقصر ثمّ مستشارا بوزارة الخارجيّة، ولكنّه عُزل لأسباب تتعلّق باحتيالات وسرقات ولم يعد إلى وظيفته إلّا سنة 1879 بعد وساطة قام بها قنصل فرنسا «روسطان»، وأمّا الزّوجة فهي من أصل إيطاليّ، ويذكر أنّها كانت فائقة الجمال، وقد اعتمد زوجها على جمالها ليتمكّن من الارتقاء في وظائف هامّة بالحكومة التّونسيّة.

ومن القصص التّي تُروى عنها أنّها لمّا زارت باريس سنة 1853 أبهرت بجمالها الفائق معظم رجالات الحكم هناك حتّى أنّ أحد موظّفي وزارة الخارجيّة الفرنسيّة طعن نفسه بالسّيف الذّي اجتاز صدره إلى ظهره فداءً لجمالها السّاحر.

وسيكون هذا الثّالوث أعضادا لمصطفى بن إسماعيل في المكــــر والاحتيال والارتشاء وخيانة الوطن وبيع الذّمّة إلى قناصل الدّول الأجنبيّة.

إن يسرق بن إسماعيل فقد سرق بن عيّاد من قبلُ

لم تكد الماليّة التّونسيّة تستردّ بعض أنفاسها مع وزارة خير الدّين باشا بعد الخسائر الهائلة التّي تكبّدتها بسبب سرقات محمود بن عيّاد ومصطفى خزندار حتّى ابتُليت البلاد في شخص مصطفى بن إسماعيل بلصّ لا يقلّ عنهما نهمًا وشراهة إلى المال. فقد انتهز فرصة عزل الوزير الأكبر مصطفى خزندار ومصادرة أملاكه ليسارع إلى الاستيلاء على كلّ ما في بيته من أثاث ومتاع وأموال ومصوغ. كما استغلّ انتقال الباي من قصر باردو إلى القصر السّعيد ليستولي كذلك على معظم مصوغ القصر وملبوسه وأثاثه. ويذكر الكتاب أنّه اختزن أموالا كثيرة منهوبة ومُغتصبة من أملاك الدّولة والبايات والأمراء والأهالي وأموالا قبضها من رشاوٍ من مسؤوليين تونسيّين وأجانب، وقد هرّب مقادير كبيرة من تلك الأموال والمجوهرات خارج البلاد التّونسيّة مستندا إلى حصوله على الجنسيّة الفرنسيّة.

«الفتنة أشدّ من القتل»

لعلّ أشنع ما برع فيه مصطفى بن إسماعيل هو التّآمر على الدّولة ورجالها وحياكة الدّسائس والفتن وترويج الأكاذيب والأراجيف وبثّ الضّغائن والشّحناء لإبعاد رؤسائه ومنافسيه حتّى يخلو له وجه الباي ويستأثر بأخذ القرار في القصر، وهكذا تسلّق بن إسماعيل سلّم الوظائف العليا والمناصب في الدّولة التّونسيّة عبر الإيقاع بين الباي ووزارئه وإلقاء العداوة بينه وبين أفراد عائلته وحاشيته والسّعاية بمعاونيه، من ذلك أنّه تآمر مع طبيب الباي «نيكولا فيانالي» لقتل شقيقه محمّد العادل باي مسموما وهو ما تمّ فعلا سنة 1870، كما أهدى خمرة مسمومة لشقيقه الثّاني الطّاهر باي فأودى ذلك بحياته.

كما زرع الفُرقة والتّباغض بين الباي ووزيره الأكبر المصلح خير الدّين باشا باختلاق الأكاذيب حتّى يُنابذ الباي خير الدّين، ذلك أنّه لمّا سافر وزير الحرب رستم إلى دار الخلافة العثمانيّة أوهم بن إسماعيل الصّادق باي بأنّ رستم حمل معه إلى الخلافة مكتوبا من خير الدّين بموافقة أهل المجلس الشّرعيّ لطلب الولاية على تونس وتنحية البايات، وفي هذا الصّدد أرشى بن إسماعيل عددا من الصّحف لمهاجمة خير الدّين وتعيّبه ثمّ أتى بها إلى الباي حجّة على ما يدّعيه، كما أرشى بعض أعوان الباي ورُسله إلى خير الدّين حتّى يتحدّثوا أمام الباي بما يوغر صدره على وزيره الأكبر، ومازال بن إسماعيل يلحّ في إرباك خير الدّين وبثّ الشّقاق بينه وبين الباي حتّى اضطرّه إلى الاستقالة من الوزارة الكبرى. وكذلك فعل مع خلف خير الدّين الوزير الأكبر محمّد خزندار حيث ادّعى أنّ القناصل يشكون سوء معاملته ثمّ استأجر طبيب الباي «ماسكوري» بخمسين ألف ريال ليُشير على الوزير الأكبر بالاستعفاء، وأغرى كلّ من يلتقي الباي أو وليّ عهده بأن يتحدّث إليهما بسوء معاملة الوزير الأكبر للنّاس حتّى دفع محمّد خزندار إلى طلب الاستقالة من الوزارة فتولّاها مصطفى بن إسماعيل في 25 أوت 1878.

ولم يكتف بالوزارة الكبرى بل طمح إلى ولاية العهد فسعى إلى التّفرقة بين الباي وأخويه علي باي والطّيب باي حتّى يتيسّر له قتلهما فتتمهّد له السّبيل إلى الاستئثار بولاية العهد، فكان يوهم الباي بأنّ أخاه الطّيّب باي يتآمر مع فرنسا لطلب الملك لنفسه مقابل منحها الحماية على تونس فانتهى الأمر بالباي إلى إيداع أخيه السّجن. وللتّخلّص من علي باي زعم بن إسماعيل أنّه يتآمر مع إيطاليا للإطاحة بالباي فعرّضه لغضب أخيه وعداوة فرنسا وقنصلها «روسطان».

«إنّ الغلمان لأنجَاسٌ مناكيدُ»

يُجمع كلّ المؤرّخين الذّين اهتمّوا بدراسة القرن 19 في تونس على الدّور المحوريّ الذّي اضطلع به مصطفى بن إسماعيل في انتصاب الحماية الفرنسيّة بتونس، وقد جاء في كتاب «سيرة مصطفى بن إسماعيل» من الأحداث والوقائع ما يؤكّد هذا الدّور. فقد وضع هذا الرّجل نفسه تحت إمرة القنصل الفرنسيّ «روسطان» من أجل تنفيذ خطّة فرنسا الاستعماريّة مقابل رشاو وأطماع في نيل مناصب عليا. من ذلك حادثة طلب فرنسا مدّ سكّة الحديد من دخلة جندوبة إلى الجزائر تسهيلا لدخولها البلاد التّونسيّة، وأمام امتناع الوزير الأكبر آنذاك محمّد خزندار لجأ «روسطان» إلى طلب مساعدة مصطفى بن إسماعيل مقابل وعود بالوزارة الكبرى فلم يزل مع الباي يراوده إلى أن استجاب لمطلبه.

ثمّ كانت الخيانة العظمى وهي اتّفاقه مع قنصل فرنسا على إقناع الباي بقبول إمضاء معاهدة الحماية الفرنسيّة على تونس مقابل 5 ملايين فرنك ومساعدة فرنسا له على نيل ولاية العهد. ولمّا امتنع الباي عن قبول الحماية مارس عليه بن إسماعيل كلّ أشكال الضّغط والتّخويف وأشار على «روسطان» بإدخال الجيش الفرنسي إلى تونس ومحاصرة قصر الباي لوضعه أمام الأمر الواقع وإرغامه على الإذعان لمشيئة فرنسا وإمضاء المعاهدة، بل إنّ   بن إسماعيل كاتب جميع الجهات التّي يريد العسكر الفرنسيّ أن يدخلها بأن لا يتعرّضوا له بأيّ وجه فكان للفرنسيّين ما أرادوا في 12 ماي 1881.

«تُقطّع أَعناقَ الرّجال المَطامع»

أمّا نهاية مصطفى بن إسماعيل فجاءت مصداقا لقول الشّاعر:

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِهْـــــلَاكَ نَمْلَة *** سَمَتْ بِجَنَاحَيْهَا إِلَى الجَوِّ تَصْعَدُ

فقد توفّي محمّد الصّادق باي سنة 1882 وعُزل «روسطان» فلم يجد بن إسماعيل سوى الهرب إلى فرنسا فأقام هناك مــدّة باع فيهـا معظم ما تبقّى له من ممتلكات ثمّ انتقل إلى اسطنبول حيث مات سنة 1887 فقيرا مشرّدا كما بدأ.

غير أنّ المتأمّل في هذه السّيرة يقف على ما أصاب الدّولة التّونسيّة عصرئذ من ضعف ووهن وما تردّت في أحوال البلاد السّياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة من تدهور وانحطاط، فقد أُبعدت نُخب التّنوير والإصلاح وقُبر دستور 1861 وأُطيح بالأكفاء من رجال الدّولة أمثال خير الدّين، وصعدت فئة ممّن عُرفوا بالنّقص في التّكوين والضّعف في الإرادة والخمول وعدم الاكتراث بشؤون البلاد لا همّ لهم إلّا الإثراء الفاحش وجمع الأموال فتفشّت في أوساط «الطّبقة السّياسيّة» سلوكات الارتشاء والفساد والخيانة والعمالة للأجنبيّ وائتمر الحكّام بأوامر قناصل الدّول الأوروبيّة حتّى وقعت البلاد فريسة للأطماع الأجنبيّة وآلت الدّولة التّونسيّة إلى ملك عضوضٍ في زمن كانت فيه الأقطار المتمدّنة تستحثّ الخطى نحو أفق الحداثة الرّحيب، ألم يقل ابن أبي الضّياف قبل ذلك بسنوات: «إنّ القوم سبقونا إلى الحضارة بأحقاب وللّه فينا علمُ غيب نحن سائرون إليه»؟.

الحبيب الدريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.