أدب وفنون - 2017.08.20

الــبحــر مُــلْهِـــمًــا للــشّعــراء: صَــبَــوَاتٌ في هـيكــل الــبحـر

الــبحــر مُــلْهِـــمًــا للــشّعــراء: صَــبَــوَاتٌ في هـيكــل الــبحـر

تنعقد بين الشّعراء وبين الطّبيعة وعناصرها والكون وعوالمه وشائج لا تخلو من إثارة وتعجيب، فقد تغنّوا باللّيل وسكونه وشكوا إليه مواجدهم وأحزانهم كما سهروا مع السّماء وأقمارها وناجوا كواكبها ونجومها، ووصفوا الصّحراء وامتدادها وأعجبوا برمالها الذّهبيّة وسرابها يتراءى أودية وأنهارا. غير أنّ لهم مع البحر شأنا وأيَّ شأن!

فقد اقترن عندهم أحيانا بالسّهرات اللّيليّة وأجــواء الأنــس والاحتفال لأنّ للبحر كرنفالا في أكثر من مرفإ ومدينة، وارتبط عند آخرين بذكريات الصّبا والشّباب ولقاءات العشّاق والمحبّين، واتّخذه بعضهم سببا للتّأمّل والتّفكير والغوص على ما ينطوي عليه جلال البحر من غموض وأسرار. ورأى البعض الآخر أنّ في البحر عرائس بشريّة من الحور العين فوصفهنّ سابحات تلاعبن الموج والزّبد.

البحر فضاء الاحتفاء والمؤانسة

إذا التقت فتنة البحر مع سحر المدائن التّاريخيّة وألق الاحتفالات الكرنفاليّة فلن يكون ذلك إلّا ملهما لقرائح الشّعراء مُذكيا لخوالج الحسّ والشّعور، وقد صادفت زيارة الشّاعر المصريّ علي محمود طه لمدينة «فينيسيا» الإيطاليّة صيف عام 1938 ليالي الكرنفال المشهورة، إذ يحتفل الفينيسيّون بها أروع احتفال فينطلقون جماعات كلّ منها في جُندول (قارب طويل ورقيق) مزدان بالمصابيح الملوّنة وضفائر الورد، ويمرّون في قنوات المدينة بين قصورها التّاريخيّة وجسورها الرّائعة وهم يمرحون ويغنّون في أزيائهم التّنكّريّة البهجة فأوحى هذا الجوّ الفاتن إلى الشّاعر بقصيدة «أغنية الجندول» التّي نظمها تخليدا لهذه الزّيارة ثمّ أصبحت بدورها أغنية خالدة من أغاني الموسيقار محمّد عبد الوهاب:

أَيْــنَ مـــِنْ عَيْنَــيَّ هَــــاتِيـــكَ المَجــَــــالِي    يَا عَـــــرُوسَ البَـحْـــرِ يَا حُلْــــمَ الخَيَـــــالِ

أَيْـــــنَ عُـــشَّاقُـــــكِ سُمَّــــــارُ اللَّيــــــالِي    أَيْـــنَ مِــنْ وَادِيــكِ يَا مَــهْـــدَ الجَـــمَـــالِ

مــــَوْكِبُ الغِيـــدِ وعِيـــدُ الكَـــرْنَــفَــــــالِ    وَسُــــرَى الجُنْــــدُولِ فِي عــــَرْضِ القَنَـــــالِ

أَيْــــنَ مِنِّــــي الآنَ أَحــــْلَامُ البُحَيْرَهْ

وَسَمَـــــاءٌ كَسَتِ الشُّطْــــآنَ نَضْــرَهْ

مَنْــــزِلِي مِنْـــهَا عَلَى قِمَّـــةِ صَخْــرَهْ

ذَاتِ عَيــــْنٍ مِـــنْ مَعِيــــنِ المَاءِ ثَرَّه

أَيْـــنَ مِـــنْ فـــَارْسُوفِيَــــا تِلْـــكَ المَـــجَالِي    يَا عَـــرُوسَ البَحـْــــرِ يَا حُلْـــمَ الخَيـَــــــالِ

قُلْــــتُ والنَّشْوـــَةُ تَسْـــــرِي فِي لســَانِــي:    هَــــاجَتِ الذِّكْـــرَى فَأَيْـــنَ الهَــــرَمَــــانِ؟

أَيْـــنَ وَادِي السِّحْــرِ صَــــــدَّاحُ المَغـــــَانِي؟    أَيْـــنَ مــــاءُ النِّيـــلِ؟ أَيْـــنَ الضِّفَّــتَــــانِ؟

آه لَـــوْ كُنْــــتَ مَعِـي نَخْتَـــالُ عَبْرَهْ

بِشِـــــرَاعٍ تَسْبَـــحُ الأَنْــــجـُمُ إثْـــرَهْ

حَيْـــثُ يَـــرْوِي المَــوْجُ فِي أَرْخَمِ نَبْرَهْ

حُـــلْــمَ لَيْلٍ مِنْ لَيــَالِي كلِيُوبَـــتْــرَهْ

وما إن نُشرت قصيدة «أغنية الجندول» حتّى كتبت إحدى المعجبات إلى الشّاعر تقول: «قرأتُ لك عن ليلة النّيل والموج وهو يروي حلم ليلة من ليالي كليوبترة فهلّا وصفتَ لنا ليلة من تلك اللّيالي؟ وهل لنا بصورة حلم من أحلامها؟» ، فكتب علي محمود طه قصيدة «ليالي كليوبترة» وأهداها إلى صاحبة تلك الإثارة الرّائعة وحوّل السّهر والمؤانسة والاحتفال من سواحل «فينيسيا» عروس الأدرياتيك إلى ضفاف النّيل:

كلِـــيُوبَــــــتْرَا ! أَيُّ حُلْمٍ مِنْ لَيَـــالِيكِ الحِـــسَانِ

طَافَ بِالــمَـوْجِ فَـغَـــنَّى وتَـغَــنَّى الشَّــاطِـــئَانِ

وَهَــفَــا كُـــــلُّ فُـــــؤَادٍ وشَــــدَا كُــــلُّ لِسَــانِ

هَـــذِهِ فَــــاتِــنَةُ الدُّنْــــيَـــا وَحَسْــــنَاءُ الزَّمَـانِ

بُعِثَـــتْ فِي زَوْرَقٍ مُسْتَلْهَمٍ مِــنْ كــُــلِّ فَـنِّ

مَرِحِ المِجْــــدَافِ يَخْتَالُ بِحَـــوْرَاءَ تُــغَـــنِّي

يَا حَبِيبِـــي هَــذِهِ لَيْلَـــةُ حُـــبِّـــي

آه لَـــوْ شـــَارَكْتَنِي أَفْـــرَاحَ قَلْـبــِي

اصْدَحِي أَيَّتُـــهَا الأًرْوَاحُ بِالـــلَّحْــنِ البَـــدِيــــــعِ

امْــرَحِي يَا رَاقِصَاتِ الضَّـوْءِ بالمَــــوْجِ الخَلـــِيـــعِ

قَبِّلِــــي تَحْـــتَ شِـــرَاعِي حُلُـــمَ الفَــنِّ الرَّفِيـعِ

زَوْرَقًــــا بَيْــــنَ ضِـــفَـــافِ النِّيلِ فِي لَيــْلِ الرَّبِيعِ

رَنَّــحَتْهُ مَوْجَةٌ تَلْعَبُ فِي ضَــوْءِ النُّجُــومِ

وَتُنَادِي بِشُعَاعٍ رَاقِــصٍ فَــوْقَ الغُيُـــومِ

يَــا حَــبِـيبِـــي هــَذِهِ لَيْلَةُ حُــــبِّي

آه لَـــوْ شَارَكْتَــــنِي أَفْـــرَاحَ قَلْبِــي

البحر ذاكرة العشّاق

قد يرتبط البحر عند بعض الشّعراء بالذّكرى، فهو يستثير ما مضى من عهود الشّباب النّضرة ويُحيي ما انقضى من أيّام المباهج والمسرّات الرّائقة ولا سيّما قصص الغرام القديم، من ذلك قصيدة «الشّاطئ المهجور» لعلي محمود طه، إذ يعود فيها إلى شاطئ شهد لقاءات له بحبيبته فيسترجع عهودا مضت ويذكر الصّخرة التّي كانا يرقبان منها مغرب الشّمس واللّيلة القمراء التّي كانا يتناجيان في ضوئها وصفحة الماء تنعكس عليها النّجوم الزُّهر والزّورق الذّي استقلّاه في نزهة بحريّة فيقول:

وَتَبَــيَّنْـــــتُ فِي الشَّـــوَاطــــِئِ حَـــوْلِــي       أَثَـــــرًا مِــــــنْ غَــرَامِــنَـا الـمَـــــأْثُــــــورِ

صَــخْـــــرَةً كَانَــتِ المَــــلَاذَ لِقَلْـــبَـــيْـــنِ         حَبِــــيبَــــيْــنِ فِي الشَّــبَـــــابِ النَّضِـــيـــرِ

كَـــــمْ وَقَفْــنـــَا العَــــشِيَّ نَـــــرْقُبُ مِنْــهَا    مَــغْـــــرِبَ الشَّـمْـــسِ وانْبِثَــاقَ البـــُـدُورِ

وَجَــلَسـْـنَـــــــا فِي ظِـــــلِّهَــا نَتــَمــَلَّـــــى     صَفْحـــَةَ المَـــاءِ فِي الضُّحـــَى والبُــــكــــُورِ

فَإِذَا مَـــــا تَهَّـــــلَلَتْ لَــيْلَـــــةٌ قَـــــمْــرَاءُ         هَــزَّتْ بِــنَـــــا خَــفِـــــيَّ الــشُّــــعـُــــورِ

وَسَـــرَيْــــنَا فِي ضَـــــوْئِهَا نَتَــــنَــــــاجَـــى    بِهَـــــــوًى فَــــاضَ عــَنْ حَنَـــايَا الـصّــُدُورِ

وَانْتَحَيـــْنَـــا مِـــنْ جَـــانِبِ البَحــْرِ مَجْـرَى     مُــطْــمَـــــئِنَّ الأَمــــْــواهِ شــــَاجِي الخَرِيرِ

نَزَلَـــتْ فِيــــهِ تَسْتَــــحــِمُّ الــــــنُّــجُـــوم     الــــزُّهْــــــرُ فِي جَلْـــــــوَةِ المَــــاءِ المُنِــــيرِ

رَاقِــــصَــــاتٍ بِـــهِ عَلَى هَـــزَجِ الـــمَـــوْجِ       عَــــــرَايَـــا مُــــهَــــــدَّلَاتِ الــشُّـــــعُــورِ

وَعَلَى صـــَدْرِهِ الخَــــفُـــوقِ طَـــــــوَيــْنَـــا    اللَّـــيْـــــــلَ فِي زَوْرَقٍ رَخِـــــيِّ المَـســِيــــرِ

أمّا نور الدّين صمّود فيتحدّث في قصيدة له عنوانها «ذكريات السّاحل اللّازوردي» من مجموعته «رحلة في العبير» عن ذكرى لقاء له بغادة حسناء على شاطئ البحر فيقول:

وَسِـــــــرْنَا عَــلَى الرَّمـْـــلِ فِي نَـــشْـــــــوَةٍ    كَــأَنَّــــا صـــَدِيقَــــانِ مُــنْــذُ الصِّــغـَـــــرْ

أَصَـــابِــعـــُنَـــــا فِي اشْتِــــــبَـــاكٍ رَفِيــــقٍ    وَكَــفِّــيَ تَنْسُـــــجُ  فَــجْــــرَ الشِّــــــعَــــرْ

وَكَــــــادَتْ شُــــمـــُوعُ الــيَـــدَيْنِ تَــذُوبُ    وَكَـــــادَتْ نُـــــهُـــورُ الضِّـــــيَا تَنْــــهَمِــرْ

وَلَاحــــَتْ عَلَى الرَّمْـــلِ تِمــْثـــَالَ حُـــســْنٍ    جَــمِيــــــلًا جَمِــــيــلًا يَبُــــــثُّ الخَــــدَرْ

فَتَــغْـــــمُـــــرُنِي نَـــشْــــــوَةٌ لَا تُــحَـــــدّ    كَسِحــْرِ الشَّـــــــذَى فِي مَطَـــاوِي الــــزَّهَرْ

البحر فردوس عرائس الموج

من المواضيع الأثيرة عند شعراء البحر تصوير المرأة سابحة بين أمواجه، وتتميّز هذه الصّور بما يعمد إليه الشّعراء من إجراء تناغم وتجاوب بين الجسد الأنثويّ وبديع مفاتنه ومتّسق حركاته وبين الأمواه تطاوع الجسد وتُساوقه وتوافــقــه وبين الأضواء والألوان تُداخل المشهد وتُضفي عليه أبعادها الفنيّة التّشكيليّة فيصير القارئ إزاء لوحة من صميم الفنّ يمتزج فيها الشّعر والرّسم والرّقص ويستحيل البحر فردوسا لحوريّات الموج وعرائسه.

ولعلّ أروع القصائد في هذا الباب قصيدة مصطفى خريّف «حوريّة الموج» التّي يصوّر فيها على نحو مبهر عجيب اندغام جسد سابحة حسناء في أمواج البحر والتحامهما واتّحادهما حتّى صار الجسد قطعة من لجّ البحر ذُوّبت فيه وصار الموج جزءا من الجسد صُهر في معدنه فكأنّ الواحد منهما سُكب في الآخر وأُفرغ فيه فباتا كُلّا لا يَنْفَصِمُ:

شَـــفَّ صـــَدْرُ البَحْـــرُ عَــــنْ سِــرِّ الجَلَالِ    وَطَـــفَــــــــتْ فِـــــيــــــهِ الـــــــــــلّآلِي

فَــــوْقَ مـــَوْجٍ فـــــَاضَ مِـنْ سِحْرِ الجَـمَالِ   فَـــــــــــاقَ تَـــصـــْوِيــــــرَ الخَـــيَــــــالِ

جَـــــــــالَ فِي حُـــــسْنٍ وإِشْـــــــــــرَاقِ

مُـــسْتَـــــجِــــــيشًا مِــثْــلَ أَشــــْوَاقِــي

حِيــــنَ أَكْسُـــوهَا بــــَدِيـــعًا مـــِنْ بَيَانِي

هَلْ عَــلَى صَـــدْرِكِ فــَاضـــَتْ مـــَوْجَتَـــانِ    بِالـــهَــــــــــوَى   تَــــــــرْتَـــعِـــشَــــــانِ

تِـــلْـــــكَ أَمْ أَزْهَـــــــارُ آسٍ تَــتَــــــفَتَّـــقْ       فِـــــــــــــــي أَدِيــــــــــــمٍ لَاحَ أَزْرَقْ

أَمْ نُجُــــــــــومٌ فِي سَــمَــــاءٍ تَــتَــــأَلّــَـــقْ    وَتُـــــغَــــــنِّــي   وُتَـــــــــصَـــــــفّــــــقْ

مَــــحْـــفـــــَـلٌ  جَـــاءَ يُــــــحَيِّيـــــــكِ

وَيُـــــنَــــــاجِيــــــكِ وَيَـــــفْـــدِ يــــــكِ

يَا عَـــــــذَارَى البَحْــــرِ أَنْتـــُنَّ لَـــــدَيْـهَا

فَتَـــسَــــابَـــــــقْنَ إِذَنْ بَيْـــــنَ يَــدَيْـــهَـا    وَتَــــــهـــــاَفَــتْـــــنَ  عــــَلــــَيْـــــهَــــــا

والمحصّل أنّ الشّعراء العـرب قد اختلفت زوايا نظرهــم إلى «تيمة» Thème البحــر وتنوّعت طرائق تناولهم لها، فمنهم من اتّخذ البحر موضوعا وصفيّا ومنهم من اتّخذه موضوعا عاطفيّا ومنهم من جعله موضوعا فلسفيّا تأمّليّا، ورغم ذلك فإنّ الثّابت هو أنّ البحر قد أَصْباهم وشاقهم واستهواهم فكان القاسم المشترك لأشعارهم فيه صبوات في هيكل البحر.

الحبيب الدريدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.