الصحبي الوهايبي: العــصا الـتـي غـــيّــرت مـجــرى الـتّــاريــخ

 الصحبي الوهايبي: العــصا الـتـي غـــيّــرت مـجــرى الـتّــاريــخ

لا أدري لمــــاذا غفلتْ كُتب التّاريخ عن أمر العصا ومآلها بعد واقعة موسى وفرعون، فلم يَرِدْ لها بعدها ذِكرٌ أبدا؛ وهي التي لولاها ما انفلـــق بحـــرٌ، وهـي التي لولاها لأدرك فرعونُ موسى، ولكان التّاريخ غيرَ التّاريخ…والعصيّ أنواع شتّى، بدءا بعصا الرّاعي ويسمّيها الرّعاة «دبّوس»، ويُصنع أجوده من عود العتم أو البوت أو القِرط، وهو عود عنيد ينمو في باطن الأرض، يُنزع لحاؤه ويُسوّى ويُدهن بالشّحمّ ثمّ يُكوى بالنّار ويُسقى بالسّمن حتّى يستويَ شكلُه.

والدّبّوس لا يُسمّى دبّوسا إلاّ إذا انتهى بجذر أشبه بالرّأس الصّمّاء، لهــا صــوت النّحــاس إذا قــرع النّحاس؛ وكانت المليشيــات الحزبيّة، في ما مضى، تستعمل مثلها في غاراتها وصولاتها وجولاتها، ثمّ خلَفتها فـــرقُ مكافحــة الشّغب ورابطات حماية الثّورة.

وهناك العصا الصّولجان، مرصّعة بالدّرّ والياقوت، تحيي وتميت، وهناك عصا الضّرير أو العصا البيضاء. ومن أشهر العصيّ، على مرّ العصور، عصا موسى وعصا سلفادور دالي وعصا موبوتو سيسيكــو وعصـــا الأمبراطور هيلاسي لاسي والأمبراطور بوكاسّا وعصا أنور السّادات التي تأبّطها في حادث المنصّة، وعصا جدّي؛ وهناك عصا الخطيب، وهناك الخطيب بـــلا عصا، وهناك من ليس له من الخطيب إلاّ العصا، وهناك عصا التّرحال، وعصا المكنسة؛ وهناك عصا السّاحر، وهي التي تلوّح بها السّلطة، بين حملة وحملة، عساها تُخرج من كبّوسها أو مِخلتها أو طربوش برنسها حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخــلا وحــدائق غلبا وفاكهة وأبّا، فإذا هي فــارغة، خالية الوفاض. وهناك العصا التي تتوكّأ عليها والعصا التي تتوكّأ عليك، ويُخيّل للكثيرين أنّهم يتوكّؤون على السّلطة، وهي التي تتوكّــأ عليهم، وفي أحسن الحالات، يتوكّؤون عليها وتتوكّأ عليهم، وهناك من يشقّ عصا الطّاعة، والعصا لمن عصى، وهذه حكمة أحياها الوزير المفدّى، راعـــي الشّبــاب والشّبيبة، وهناك العصا في العجلة؛ وهناك العجلات الأماميّة والعجلات الخلفيّة والعجلة الخامسة، ولو أنّها مفشوشة في أغلب الحالات. وهناك عصا المؤدّب، من عود الزّيتون، دقيقة، رقيقـــة، نحيفة، طويلة، تذهب إلى الصّفوف الخلفيّة وتغفل عن الصّفوف الأماميّة، كعصا أولي الأمر لا تصيب إلاّ المارقين عن الصّفّ، كأنّ النّاس خُلقوا ليشدّوا الصفّ، طوعا أو كرها، وهناك صفّ النّظام وصفّ المعمعة... كان الفتى يتسكّع في الصّباح الباكـــر في شوارع المدينة فرأى رجالا ونساء كثيرين يقفون في صفّ طويل لا يبصر منه إلاّ ذيله ولا يعلم أين رأسه، فوقف مع الواقفين، فلمّا طال انتظاره والصفّ لا يتزحــزح، سـأل بكلّ اللّطف والأدب السّيّـــدةَ التي تقـــف أمامه «عفوا سيّدتي، لِمَ نحــن واقفـون في الصّفّ؟ فأجابته: «والله لا أدري، كنت ذاهبة إلى السّوق فرأيت النّاس يصطفّون فاصطففت.

فقال الفتى: «ألاَ سألتِ الرّجل الذي أمامك؟» فاستجابت وسألت الرّجل الذي يقف أمامها: «يا أخي، هل تعرف لماذا نشدّ الصّفّ؟» فقال: «والله لا أعلم ولكنّي سأسأل الذي أمامي»، فإذا هو أيضا لا يعلم، وإذا الذي أمامه لا يعلم، وما زال كلّ واحد يسأل الذي قدّامه وهو لا يعلم حتّى بلغ السّؤال رأس الصّفّ فقال: «أنا أيضا لا أعرف، انحنيتُ أربط خيط حذائي فلمّا وقفتُ وجدتُ أحدهم واقفا ورائي، وخلفَه وقفَ آخرون، فقلتُ بيني وبين نفسي: هذه ضربة حظّ لا تتكرّر في العمر مرّتين، وافرحتاه! أنا في رأس الصّفّ، سأبقى إذن وليس قدّامي أو ورائي شـــاغل يشغلني». الحكومة في رأس الصّفّ، وليس وراءها أو قدّامها شاغل يشغلها.

الصحبي الوهايبي

 

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.