أخبار - 2017.07.26

ودادية قدماء البرلمانيين التونسيين: مخرجات القراءة النقدية لسياسات فترة الحكم بتونس من 1955 إلى 2010

ودادية قدماء البرلمانيين التونسيين: مخرجات القراءة النقدية لسياسات فترة الحكم بتونس من 1955 إلى 2010

مبادرة شجاعة ومتفرّدة بعد قيام ما أصطلح على تسميته بثورة الحريّة والكرامة تلك التي أقدمت عليها ودادية قدماء البرلمانيين بإجراء قراءة نقديّة لفترة الحكم منذ الاستقلال والتأسيس لدستور 1959 إلى سنة 2010، تاريخ انهيار منظومة سياسية لحكم دام 55 سنة بقيادة الحزب الدستوري، "قاطرة الحركة الوطنية لتحرير البلاد من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية، تحقّقت فيها مكاسب تاريخية دون أن تخلو من هنات متفاوتة".

والجدير بالذكر أنّ الودادية تكوّنت يوم 8 جوان 2015 بمبادرة من 73 برلمانيا سابقا وتحصّلت على التأشيرة القانونية التي نشرت في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ 26 مارس 2016.
ومن الأهداف التي حدّدتها الودادية لنفسها "توفير فرص التواصل بين البرلمانيين والقيام بأنشطة ثقافية واجتماعية وتنظيم ندوات فكرية وملتقيات ومنابر حوار تتعلّق بالشأن العام وتستجيب لمشاغل وتطلّعات المنخرطين وتثري العمل البرلماني".

وتزامنا مع الذكرى الستين لإعلان الجمهورية، قُدّمت خلاصة هذه القراءة النقدية خلال ندوة صحفية عُقدت يوم  الإثنين 24 جويلية 2017 بالعاصمة حضرها رئيس الودادية الأستاذ العادل كعنيش وكاتبها العام السيد لزهر الضيفي، وأعضاء اللجنة
المشرفة على القراءة النقدية منهم السفير السابق السيد أمحمد جنيفان رئيس اللجنة السياسية والدكتور رضا كشريد وزير الصحّة والسفير السابق رئيس لجنة السياسات الاجتماعية  وأعضاء لجنة السياسات الاقتصادية ولجنة السياسات التربوية والثقافية وجمع من المشاركين في أعمال الودادية ومن المهتمين بالشأن العام.

وتضمّنت الوثيقة التي وزّعت بالمناسبة على مدخل للقراءة النقدية لسياسات فترة الحكم من 1955 إلى 2010 وتركيبة الهيئة المشرفة على القراءة النقدية ورزنامة أشغال لجان القراءة النقدية والبيان السياسي لهذه القراءة.

المنهجية

أشهر قليلة بعد الحصول على التأشيرة انطلقت الودادية في هذه القراءة النقدية بمشاركة نخبة من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين من مختلف الاتجاهات ومن المجتمع المدني وخبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.
وفي مرحلة تحضيرية امتدّت من 30 سبتمبر 2016 إلى 15 مارس 2017 تشكّلت لجان عقدت 67 اجتماعا بلغ فيها عدد المشاركين 415 مشاركا تولّت جمع المعلومات من مخلف المصادر بما فيها الاستماع إلى تجارب في الحكم ووضع وتنفيذ السياسات وتحليلها وإلى شهادات من مختلف الفاعلين في تلك الفترة وطرحها لنقاش مستفيض شملت الميادين التالية:

  • نمط الحكم ومساراته
  • السياسات الاقتصادية
  • السياسات التربوية والثقافية.

وفي مرحلة ثانية، طُرحت استنتاجات القراءة النقدية لهذه اللجان بما تضمنته فترة الحكم من 1955 إلى 2010 من مكاسب ومن هنات وأخطاء، وذلك في ندوة وطنية مفتوحة للإعلام وللفاعلين السياسيين والمهتمين بالشأن العام وللمؤرخين قصد "مصارحة الرأي العام الوطني والدولي بها وفتح آفاق جديدة للحوار تيسّر مسار مصالحة وطنية متعدّدة الجوانب وتؤسّس لوئام وطني للإصلاح ومواصلة البناء".

منطلقات القراءة النقدية

كان من أهمّ منطلقات هذه القراءة النقدية استقراء ما آلت إليه الأوضاع في البلاد بعد "الهزّة العنيفة" التي عاشها التونسيون في نهاية 2010 وبداية 2011 والتي أكّدت رغبتهم الشديدة في البحث عن آفاق جديدة تتحقّق فيها الآمال . "وواكبت تلك الهبّة الشعبية أحداث سلبية ومظاهر عنف وانتهازية، وهو أمر موضوعي، فمسار تلك التحركات والهزات لا يخلو من الانزلاقات ولكن من المؤسف أن تطغى تلك الأبعاد السلبية على الحدث وتحرمه من إشعاعه الطبيعي... وانتكست الأوضاع وضاعت الآمال وتشتّتت الأحلام وسط تجاذبات وتوظيفات عديدة".

وكان من الضروري في نظر المتعهدين بالقراءة النقدية طرح جملة من الأسئلة هي :"من هو أحقّ بالمساءلة عمّا آلت إليه الأوضاع؟ وهل هي المنظومة الأخلاقية والحضارية؟ أم هي السياقات التاريخية العامة وما أنتجته من عجز وقصور مزمن؟ أم 
هي الدولة الوطنية بنظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي ونخبها التي اختارت الطريق الخطأ وارتكبت الأخطاء الفادحة لتصل إلى المأزق الأخير؟"

ومع الإقرار بأنّه من الممكن أن يكون لكل هذه العوامل أثر، فقد اعتبر المتعهدون بالقراءة النقدية أنّ "الدولة الوطنية طرف أساسي يتعيّن نقده ومساءلته بجرأة حول حقبة من تاريخ البلاد لم تكن خالية من البناء والخير وذلك للبحث عن الحقيقة وإجلاء للتعميم وتجنّبا لتصفية الحسابات بين الفرقاء والفاعلين الذي لا يكون بالدفاع عن الذات ومواجهة المنتقدين بجملة من التبريرات وردود الفعل بخلفية التبرئة والتفصّي ممّا عسى أن يظهر من مسؤولية، بل بالتماهي مع طبيعة الحدث وعمقه وتأثيراته على المستقبل."

مخرجات القراءة النقدية

احتوى البيان السياسي الذي أعدّته الودادية على مخرجات القراءة النقدية ومن أهمّ ما جاء فيه ما يلي:

  • ربما يكون من المناسب لتأطير هذه الحقبة، سياسيا، اعتبارها حقبة الحزب الحر الدستوري، سواء من حيث المراحل التي سبقتها، كمقدمات، في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، أو من حيث مباشرة الحكم، فعليا، بعد الاستقلال. ولا منازعة في الدور الريادي الذي قام به الحزب الحر الدستوري منذ تأسيسه سنة 1920 من قبل نخبة من الوطنيين كان أبرزهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي، ثم من الذين خلفوهم في (اللجنة التنفيذية) وفي (الديوان السياسي) لهذا الحزب سنة 1934 ثم في الديوان (السياسي) وأبرزهم الزعيم الحبيب بورقيبة وفي (الأمانة العامة) لهذا الحزب أيضا سنة 1955 بقيادة الزعيم صالح بن يوسف.
  • ثم تأتي المراحل التي كان فيها هذا الحزب، مستأثرا بقيادته للحياة السياسية، طيلة فترتي الحكم، الأولى برئاسة الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة الى نوفمبر1987، والثانية برئاسة خليفته زين العابدين بن علي إلى نهاية 2010. وقد كان لهذا الحزب ولمكونات المجتمع الملتفة حوله الدورالفعال في مقاومة الاستعمار بإيقاظ الوعي الوطني في الشعب، وتنظيم قواه الحية للمقاومة، بمختلف أوجهها، ووضع القضية الوطنية و الدفاع عن الهوية في المنهج المناسب للواقع التونسي، ولطبيعة الخصم، وللوضع الإقليمي والدولي، ولمقتضيات العصر...
  • ويشهد على أهمية دوره الرئيس ما خاضه الشعب التونسي، في ظل رايته، من نضالات مجيدة، وما قدمه من شهداء، وما سجله من بطولات، لحسم كفاحه التحريري بالنصر المؤزّر، وتخليص الوطن من استعمار هيمن على تونس أربعا وسبعين سنة، ثم ما نهض به في بناء و ترسيخ أسس الدولة الوطنية الحديثة، وضبط اختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما حقق في المجالات الحيوية نجاحات كبرى.
  • لا بدّ من التذكير بما شهده هذا الحزب، طيلة هذه المسيرة المديدة (أولا من 1920 إلى 1955 وثانيا منذ 1956) من أزمات وخلافات، في صلبه، وما حصل في ذلك من أخطاء، في مجريات الصراع، كانت، في مجملها، أمرا طبيعيا في الأوضاع التي مرت بها البلاد التونسية، كأغلب الشعوب العربية والإسلامية، وخاصة في منطقة شمال إفريقيا، ونعني بذلك: تنافس القيادات واختلافها، وعدم القدرة على التعايش الهادئ بينها، وبروز شخصيات استثنائية انفردت بالتأثير الأدبي والفكري وبالسلطة، وطغت على مجالات المشاركة، ثقة في النفس، أو خوفا على المكاسب الوطنية، أو نزوعا إلى الهيمنة، وارتكبت، في ذلك، أخطاء بلغت أحيانا مستوى الخطايا.

1 - فترة حكم الحبيب بورقيبة

يمكن تنزيل حقبة حكم الحبيب بورقيبة في فترتين:

  • الفترة الأولى عندما كان متمتعا بالقدرة على تولي القيادة، بما تتطلبه من نظر استشرافي بعيد، وبصيرة متوقدة في اختيار المواقف، وكسب الرهانات، وإقناع الشعب بزعامته.
  • والفترة الثانية عندما تقدم به العمر، ووهنت قواه، فضعفت طاقته على الاستجابة لمقتضيات رئاسة الدولة، وخاصة لما كانت تتطلبه المرحلة التي بلغتها البلاد، من حيث التوق لولوج مغامرة الديمقراطية.

كانت الفترة الأولى زاخرة بالإنجازات التاريخية العظيمة وخاصة:

  • تخليص الوطن من مخلفات الاستعمار في المجالات السيادية والاقتصادية والتربوية والثقافية، وضع الأسس الأولى لبناء الدولة التونسية الحديثة، من حيث اختيار نمط دستوري للحكم يرتكز على إرادة الشعب، بإعلان الجمهورية، وتمكين الشعب من اختيار الهيئة التشريعية في المستوى الوطني، وهيئات البلديات في المستوى المحلي، وغرس الدعائم الكفيلة بتحقيق مدنية الدولة وهيبتها من خلال تركيز إدارة ناجعة وثابتة الكفاءة، وتوضيح علاقات السلط بعضها ببعض، وبث الوعي المواطني، وتعزيز عرى المجتمع المتضامن بالحد من التمحور القبلي والجهوي والطبقي حيث كان للمجلس القومي التأسيسي دور كبير في إرساء مقومات الدولة الحديثة، مما ظهرت نتائجه التاريخية في المنهج الذي انفردت به تونس،بعد 14جانفي2011، عن شقيقاتها العربية التي مرت بما مرت به هي ،ولكن أوضاعها تردت بتفكك عرى الدولة ،والانخراط في الفوضى والتحارب،وتجلت للجميع ،عند المقارنة، المكاسب الكبرى التي حققتها الدولة الوطنية في تونس ، فيما بين 1956وبين 2011 من إدارة وطنية ذات كفاءة وانضباط ، وجيش جمهوري عالي التكوين وطني العقيدة ،إضافة الى مجتمع مدني، وشباب مثقف ،ساهمت إلى جانب الطبقات الشعببيةالأخرى في تجنيب الوطن أخطار الفتنة والفوضى وسوء المصير..
  • ومن أهم منجزات المرحلة البورقيبية الأولى تبني بلادنا نمطا مجتمعيا تقدميا ذا طابع شعبي، حقق تحرر المرأة من ربقة التخلف، وتعميم التعليم ونشره في أقصى الأرياف، وتوحيده، وتعصير محتواه، والحرص على رفعة مستواه، وحماية القوى المنتجة بسياسات وقوانين تضمن السلم الاجتماعية وتوفر أسباب التنمية الشاملة، والعناية بصحة المواطن بنشر الوعي الصحي وتوفير الوحدات الصحية المناسبة وتقريبها من الطبقات الشعبية المحتاجة، والعمل على توفير السكن اللائق لطيف واسع من الطبقات ضعيفة الدخل وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى.
  • ولا منازعة في كون هذه الفترة حققت لتونس مكانة رفيعة، في مستوى العلاقات الدولية، بما توفقت إليه من ثوابت لسياستها الخارجية اتخذتها ببصيرة وواقعية، وبمواقف اقدمت عليها، بجرأة، في منعرجات دقيقة، كانت نتائجها مضرب الأمثال في الحكمة وبعد النظر وسلامة العقبى.
  • ورغم ما ثار من جدل حول بعض أوجه تلك السياسة، إبان اتخاذها، فإن التاريخ اثبت صوابها، وبوّأ تونس، بسببها، مكانة محترمة، في المستويات الإقليمية والعربية والدولية.
  • وكان من طبيعة النتائج الطيبة لهذه الفترة من حكم بورقيبة، أن بلغت الدولة الفتية، بقيادته، مستوى من التقدم الشامل، اتسع به المجال الوطني العام للآراء المتعددة والمختلفة، وللمنازعة السياسية والفكرية والثقافية، ولولادة طموحات مشروعة في المشاركة في قيادة الدولة.
  • ورغم ما حققته المرحلة الأولى من فكرة الوحدة القومية، من نجاح اتسعت به المشاركة للمنظمات القومية في المجال التشريعي والبلدي والمسؤوليات الوزارية، فلم يكن من حظ تونس أن تمثل الاستثناء في مجموعة الدول الناشئة، مثلها في المنطقة الشمال إفريقية والعربية التي حالت دونها ودون الهدف المثالي في التسيير الديمقراطي، طبيعة الحزب القائد، والزعيم الرائد، فتعطل التحول السلس من هيمنة الرئيس الذي لم يقدر على التخلص من شعور طاغ بأنه أبو الشعب، وأنه الأجدر بالسهر على حظوظه، فلم يفلح التنظيم الحزبي الحاكم، صاحب المنجزات الكبرى، بقيادته، في التوفيق بين ما كان يراه ويحرص عليه من ضرورة الحفاظ على وحدة القيادة وقوتها لفائدة البلاد، وبين الاستجابة لما أصبحت عليه النخب، في البلاد، من تنوع ووعي وكفاءة، ونشأت عن ذلك أزمات تم فيها اللجوء إلى القوة، وحصلت أخطاء، وارتكبت في بعضها مظالم وأهدرت حقوق وانتهكت حرمات في أغلبها غير ممنهجة
  • ونشأت الأزمات الحادة، خصوصا، في التعامل مع الشباب، بصورة عامة، والجامعي، بصورة خاصة، وحتى في الشباب الدستوري التابع للحزب الذي كان في طليعة القوى المجاهرة بضرورة السير التدريجي في سبيل الديمقراطية، ومع القيادات النقابية العمالية التي كانت مجالا لقوى معارضة، ولحساسيات سياسية لم تجد لها ميدانا مسموحا فيه بالنشاط غير الحقل النقابي، وكذلك مع بعض القيادات الدستورية التي ضاقت بهيمنة الزعيم الرائد والحزب القائد، بعد أن فشلت داخل الحزب نفسه، في محاولة بث النفس الديمقراطي داخله، إضافة إلى ما اعترى مسيرة البلاد من تذبذب في مرحلة "الاشتراكية الدستورية" وما أحاط بها من ملابسات خسر بسببها النظام والحزب طيفا من النخبة.
  • ولذلك فإنه مما يجب التسليم به أن هذه الفترة الغنية بالإنجازات التاريخية، لم تفلح في ميدان أساسي، ألا وهو قيادة البلاد، تدريجيا، في سبيل الديمقراطية، وذلك خاصة في مراحل معينة كانت الفرص فيها مواتية لذلك، لو استطاع النظام الحاكم اغتنامها. فقبيل نيل الاستقلال التام كان يمكن للخلاف الذي شق الحزب الحر الدستوري إلى مجموعتي البورقيبيين واليوسفيين أن يكون مناسبة للتعايش بين تيارين قويين يتنافسان، عند عتبات الدولة الوطنية الحديثة، على تولي الحكم، وتدريب الشعب على الاحتكام لقواعد الصراع السلمي والتوالي على السلطة، ولو أن ذلك كان بعيد الاحتمال قياسا على طبائع الحكم التي كانت سائدة في تلك المرحلة من خلال تجارب بلدان العالم الثالث المنعتقة حديثا من الاستعمار.
  • وفي سنة 1971، إثر فشل تجربة التعاضد التي بدأ شيئا فشيئا العدول عنها، برزت تيارات جديدة تنادي بإعتماد منهج ديمقراطي داخل الحزب و تعديل الدستور لاحداث التوازن بين السلط ، واستطاعت أن تكون تيارا قويا، في مؤتمر المنستير الأول، حيث فازت بأغلبية واضحة، وربما لو نجحت محاولتها لسمحت ببداية التمرس بقبول المشاركة، في الحكم، حتى من خارج الحزب، ولكنها تعثرت لارتباطها بالصراع على خلافة بورقيبة.
  • وكانت الفرصة الثالثة والأخيرة، في حكم الرئيس بورقيبة، لولوج المجال الديمقراطي، هي الانتخابات التشريعية التي جرت سنة 1981 وشاركت فيها بعض التيارات السياسية المعارضة و كادت أن تفوز،لولا التزييف ، بمقاعد بعض الدوائر دون أن يمكنها ذلك من إزاحة الحزب الحاكم عن مواصلة انفراده بالسلطة، ولكنها كانت ستمثل بداية لدخول المعارضة للبرلمان لولا أن بنية نظام الحكم صارت رئاسوية وفقد فيها بورقيبة، بسبب الشيخوخة والمرض، الكثير من مقومات الزعامة وأهلية الرئاسة.

وكانت محصلة هذه الفرص الثلاث أنها أهدرت:
أولاها بالركون من طرفي الصراع إلى استعمال القوة والسعي لقهر الخصم والاستئثار بالزعامة والقيادة.
والثانية والثالثة بصراع الطامحين، من قادة الحزب، للتموقع لخلافة بورقيبة، واستعمالهم دوره الحاسم في إيقاف هذا المسار، بتزييف نتائج بعض الدوائر، لأنهم رأوا فيه تهديدا لما كانوا يطمحون إليه .

  • الفترة الثانية من حكم بورقيبة تلاقت فيها أسباب التأزم المسجلة، في آخر الفترة الأولى، مع التراجع المحزن في التقدم الذي كانت تسير بنسقه البلاد من قبل. فالرئيس منهك القوى بشيخوخة مريضة، ومنفصل عن واقع البلاد بمحيط ضيق جدا، من مستشاريه. والحزب يعاني من نزيفه الداخلي بالمنشقين عنه، وبضعف جاذبيته للكفاءات الوطنية والشابة، وبنشوء تكتلات، داخله، تتصارع على الخلافة وعلى تولي أكبر المناصب فيه وفي أجهزة الدولة.
  • وفي هذه المرحلة الدقيقة، من حياة البلاد، بلغ القلق أوجه على مصير الدولة، والخوف منتهاه على منجزات الفترة الذهبية من حكم بورقيبة، وأصبح المواطن الواعي، والمسؤول المخلص، والمعارض البناء، كلهم في حيرة طاغية وانتظار مشوب بالتوجس. ولعل هذا الوضع كان السبب الأكبر في طبيعة الاستقبال الإيجابي، عموما، للطريقة التي أزيح بها بورقيبة، عن الحكم، وتقلد بها، خليفته زين العابدين بن علي رئاسة الجمهورية والحزب الحاكم.

2 - فترة حكم بن علي

ومثلما كانت حقبة الرئيس الحبيب بورقيبة ذات فترتين مختلفتين فإنه يمكن تقسيم حقبة الرئيس زين العابدين بن علي مثلها إلى فترتين .

• الفترة الأولى: شهدت بوادر تبشر بتحول في طبيعة الحكم رحب به الشعب، عامة، سواء المعارضون لبورقيبة أو المحايدون وأنصار بورقيبة الذين ارتاحوا، نسبيا، لطريقة إبعاده عن الحكم، وقد كان للبيان الذي أعلنه الرئيس الجديد فجر7 نوفمبر1987 صدى طيب، واتخذت، تبعا لما وعد به، سياسات، واجراءات، وصدرت قوانين، تنحو تجاه التغيير إلى الأفضل، واستوعب الحزب الذي طور رسالته و أصبح اسمه التجمع الدستوري الديمقراطي، أطيافا جديدة من الإطارات، كانت معارضة أو مبعدة، وخفت وطأة السجن والإبعاد على تيارات معارضة، وسمح لبعضها بالنشاط القانوني، وأصبح الإعلام أقل قيودا، وسادت السلم الاجتماعية في القطاعين العام والخاص.
واستأنفت البلاد مسيرتها بنوع من الثبات في الوجهة، والحزم في القيادة، والرشد في التسيير، مكن من توافق جل الطيف السياسي و المدني حول ميثاق وطني وبدأت نتائج ايجابية تتحقق في مختلف الميادين، ونتج عن ذلك ارتياح عام في الداخل، وعلاقات واضحة ومستقرة ومهيأة للتطور الإيجابي في المستوى الخارجي، العربي والإقليمي والدولي.

• الفترة الثانية: ثلاثة عوامل أساسية تسللت، ببطء نسبي، إلى نظام الحكم، وانحرفت بالمسيرة التي بدت، خلال سنواتها الأولى، باعثة على التفاؤل: العامل الأول في ما آلت إليه المقاربة التي تم اتباعها في ترتيب الحياة السياسية ،في الدولة، حيث بدأ الرئيس، بتؤدة وبخطوات موزونة ومتتالية، في حصر اتخاذ القرارات المهمة في مركزية خانقة مرتبطة به شخصيا أو بمن يختارهم، هو، في أجهزة الدولة، وشاع عن هذه الطريقة أنها تمتد بأذرع سلطة الدولة، وتقع في خطإ تغليب الولاء، ولو على حساب الكفاءة، وتسهل اندساس الوصوليين وضعفاء النفوس ليضايقوا المناضلين الشرفاء والأكفاء، فغابت عن الساحة وجوه بارزة، من نواب برلمانيين، وقادة فكر متحررين ،وبقايا عريقة من احرار المقاومين وعوضتها وجوه من هؤلاء ،وأخرى ،لا مؤاخذة على الغالبية منها ،إلا كونها لم تصعد لمسؤوليات سياسية أو تنفيذية إلا بالمصعد الرئاسي، ونشأ عن ذلك ضمور كبير في الجانب الديمقراطي والمشاركة الشعبية الحقيقية، في الحياة السياسية، فتضاءل وجود الرأي المخالف لما تتخذه السلطة، سواء في ذلك داخل حزب الرئيس، التجمع الدستوري الديمقراطي، أو في تنظيمات سياسية محدودة، تم قبولها في الهامش الذي جرى فتحه، بحذر وانتقائية، لإدخالها في البرلمان بغرفتيه وفي بعض البلديات.
-وصحبت هذا الضمور أزمات مختلفة المدى، من حيث الشدة والركون إلى استعمال العنف، في علاقات الحكم بالمعارضين رافضي الاحتواء، في ما فتحه لهم من مجال، وأفلح هؤلاء في تسويق صورة إلى الخارج، عن تعامل النظام معهم بعكس ما هو معلن، مما جعل منظمات الدفاع الدولية عن حقوق الإنسان وعن الحق في الديمقراطية والإعلام الحر تتأثر بشكاواهم، وتساهم في توجيه الانتقاد للنظام، وتحمل بعض المؤسسات الدولية على التهديد بربط تعاونها، مع بلادنا، بتغيير السياسة المتبعة في هذا المجال.

  • وقد نشأ في الداخل، وخاصة في أوساط النخب، قلق وعدم رضى بما آل إليه الوضع العام، وانكماش عن المشاركة النشطة في الحياة السياسية، وأصبحت تهمة تفضيل الولاء على الكفاءة لتولي المناصب القيادية في المستويات الوطنية والجهوية وحتى المحلية، رائجة، في انتقاد نظام الحكم وجهازه الشعبي، التجمع الدستوري الديمقراطي، بينما ظهر جليا أن بعض من قربهم الرئيس من كبار مستشاريه اتخذوا لهم هدفا مرتكزه التعويل على أجهزة السلطة وتقوية نفوذها وإضعاف حزب التجمع بتهميشه في كل المستويات وإفراغ أجهزته المحلية والجهوية خاصة من الزعامات الجهوية و القيادات المؤثرة. وقد كان بعض قادة الحزب يريدون تقوية الذراع الشعبي للدولة بدل اتخاذه أداة للتأثير في الشعب بما شعاره "كفى من عكاز السلطة" بينما بعض مستشاري الرئيس يعملون على أن يصبح قرار الحزب خاضعا لما يصدر إليه عبر هاتف السلطة. العامل الثاني هو ما بدأ الإعداد له، من تراجع و من نكوص على ما كان أحد العناصر البارزة في بيان السابع من نوفمبر وفي تحوير الدستور لسنة 1988 والمتمثل في التداول على أعلى سلطة في الدولة بإنهاء الرئاسة مدى الحياة مند تحوير الدستور سنة 2002 عبر آلية الاستفتاء.
  • وقد شهدت البلاد في هذا السبيل حملات من الضغط والابتزاز والإغراء والترهيب، لضمان المناشدات الداعية رئيس الدولة لمعاودة الترشح للرئاسة، بل وبدأت تروج الهمسات بأن خلافة الرئيس يجري الترتيب لها لئلا تخرج عن المحيط العائلي الضيق وقد كان ذلك من أشد البواعث على الإحباط والتوجس.
  • أما العامل الثالث فهو ما أصبح شائعا من مظاهر ثراء فاحش وجديد، في عائلات قريبة من الرئيس، صارت الأخبار التي تروج عنها، بين الناس، تضخمها وتتفنن في سرد خفاياها، من علاقات أصحابها بمفاصل الحكم وأجهزته الاقتصادية والمالية والجمركية والقضائية والأمنية، ومن السبل التي يتم بها الابتزاز والسطو على المال العام والخاص، بصور تقترب من القول بوجود بدايات لتنظيمات مفيوزية، أصبحت في طريقها للتحكم في البلاد، وطالت في سيطرتها صلاحيات رئيس الدولة نفسه، فأصبح أسيرا لا يستطيع كبح شهواتها ولا التصدي لمخططاتها.
  • وكان أخطر ما وصلت إليه الحال الشعور المتفشي في النخب بأن أذرع هذا الآخطبوط الجشع قد وصلت إلى بسط نفوذها في الحزب والدولة، وبدأت تركز من يطيعها ويعمل لصالحها في المراكز الحساسة فيهما، فضعفت هيبة الأجهزة فيهما، فالحزب فقد نفوذه الأدبي وقدرته على الاستقطاب، بعد أن بدأت الحاضنة الشعبية تتخلى عنه، والمسؤوليات المهمة في الدولة صارت إما فارغة من محتواها، أو خاضعة هي الآخرى لهذه القوة المخربة للضمير الوطني. وبدأت النقمة على هذا الوضع تتفشى في الغالبية النزيهة من المسؤولين في الدولة، وبين من فرضت عليه أوضاع معينة البقاء في قيادة الحزب الشكلية، واتسعت موجة الانتقادات في الاوساط الشعبية. ولئن لم تصل الحال الاقتصادية في البلاد إلى التأزم الهيكلي، فإن انسداد الآفاق أمام فرص التشغيل قد فاقمت التوتر الاجتماعي وألهبت نقمة الشباب المتخرج من الجامعات والمنقطع عن التعليم.
  • إن هذه العوامل كانت نقاط الضعف الأساسية في الفترة الثانية لحكم بن علي وبسببها لم يستطع النظام، بقيادته، أن يتفادى ما جرى بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 حيث لم يستطع الكم الذي كان التجمع يذكر أنهم مناضلون، في صفوفه، الوقوف عند انتفاضة كانت الحاضنة الجماهيرية الى جانبها، بدل أن تكون الى حانبه، واستمرت سلبية المنضوين، شكليا، في التجمع إلى أن أصبحت الانتفاضة ثورة.

تحميل البيان السياسي للقراءة النقدية لسياسات فترة الحكم في تونس من 1955 إلى سنة 2010

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.