أخبار - 2017.07.26

لماذا رفض الشيخ إبراهيم الرياحي (1766-1850) خطّة القضاء؟

لماذا رفض الشيخ  إبراهيم الرياحي (1766-1850) خطّة القضاء؟

شاء حمودة باشا في سنة 1806 أن يولي الشيخ إبراهيم الرياحي خطة القضاء بالحاضرة. لكن الشيخ رفض متَّبعا بذلك عادة راسخة بين العلماء في ذلك العصر تتمثل في المجاهرة برفضهم مباشرة أي خطة قد تفسد النفس. وقد يعزى السبب أيضا إلى حرص شيخنا على مراعاة بعض الحساسيات وتجنب السقوط في بعض المنزلقات نتيجة تدرّج سريع لنيل المعالي. وأمام إصرار الباي على إلزامه الولاية، قَبِلها ظاهرا. وعند الغروب، غادر إبراهيم تونس موليا وجهته إلى زاوية سيدي علي عزوز بمدينة زغوان ليتخذها ملاذا. فاضطر الباي إلى تقديم أحد شيوخ الرياحي ممّن أخذ عنهم للخطة هو إسماعيل التميمي، وكان صاحب صيت وجاه. وعندذاك قفل الشيخ الرياحي راجعا من حيث أتى وعاد للتدريس غير نادم على تشبّثه بموقفه، راضيا بحكم الله وقضائه.

تعلّق بالطريقة التيجانية

كان سيدي إبراهيم يسخِّرِ وقتا للطريقة التيجانية، ويجتهد في الدعوة إليها، ويحرص على انتشارها في الربوع التونسية بموازاة مع التدريس. وكانت هذه الطريقة تستهوي جزءا كبيرا من النخبة الدينية من أمثال آل جعيط وآل النيفر، ومن العائلات التي كانت تدور في فلك المخزن الشريف على غرار آل الجلولي وغيرهم، نظرا لتجردها من كل مغالاة وتشدّد. وكان يواجِه بقوة بعض المنكرين على طريقة الإمام القطب سيدي أحمد التيجاني، ويستميت في الدفاع عنه، كما يبدو ذلك جليا من خلال رده المفحم على أحد أقطاب التشدد في الشرق الأدنى الذي دعا إلى إخراجه عن دائرة أهل السنة، سمّاه بـ "مربد الصوارم". وقد دفعه تعلّقه بالطريقة التيجانية وإخلاصه لها إلى القيام برحلة طويلة مضنية، قادته إلى جنوب شرق الجزائر حيث مَهْدُ الطريقة التيجانية بزاوية تماسين.

تألُّقُ الشيخ إبراهيم الرياحي في مجالي العلم والتدريس بوّأه منزلة رفيعة ورفع من شأنه عند الخاصة والعامة، وزاده توهجا تعلقُ الناس به وهم يدرجونه في عداد أولياء الله الصالحين من ذوي المَكْرُمات الذين يُنْتفع ببركاتهم وتمكُّنهم، فجمع بكل ذلك بين العلم والصلاح.

باش مفتي المذهب المالكي

بلغ شيخنا أعلى المراتب المالكية في سنة 1833 زمن حسين الثاني باشا بصفته كبير أهل الشورى أي باش مفتي المذهب المالكي بالمعنى المتداول وقتذاك. فَتَاِويه ورُدودُه ورسائلُه تدل جميعا على سعة معارفه في مجالات العقيدة والفقه والأدب، وتنم عن هِمَّةٍ عالية أبِيّة لا يجاريه فيها إلا ثلة من أقرانه العلماء من ذوي السماحة ورفعة الخلق. كان غزيرُ تحصيله مقترنا بِلِينِ الطبع وحسن البِشْر وطيب المؤانسة، وكلها خصال يختص بها المذهب السني السمح. حدث في رأس الجبل في عام 1834 أن دُعي شخص مسلم من طرف خصمه بأن يحلف على القرآن أنه يقول الحقيقة في مسألة نزاعية بينهما، فرد عليه بالقول أنه لو وضع المصحف الكريم بين يديه، لما توانى في دوْسِه وتمزيقه إربا. فأحدث ذلك غليانا في تلك البلْدة، ورُفِع الأمر إلى القاضي، وبذلك اتخذت القضية أبعادا خطيرة نظرا لإمكانية صدور حكم بالزندقة وجزاؤها القتل. لذلك استقر رأي القاضي على مراجعة الباش مفتي سيدي إبراهيم الرياحي. وكان من رد هذا الأخير أن الرجل أتى بالفعل عملا مشينا وقال قولا مردودا عليه، إلا أنه لم يكن ينوي ارتكاب خطيئة كبرى، وأن ما يعني أهل الشرع هو النية الحقيقية وليس مجرد الكلام. وفي هذه الحالة فإنه يمكن الاكتفاء بتوجيه توبيخ لا أكثر (عمر الرياحي، تعطير النواحي في ترجمة الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي ). وكان سيدي إبراهيم حريصا على توخّي الحذر الشديد من نزعة المُلْك المطلق إلى حَمْلِ علماء الشرع على تبني ما يصدرونه من قرارات تعسفية، وهو حِرْص نابع من تأويل ذكي لأحكام الشريعة ودراية بطبيعة البشر وبمقتضيات السياسة. في سنة  1846، أقدم أمير لواء عسكر غار الملح، وكان مستبدا متسلطا، على أخذ ابنَيْ قاضي الجهة غصبا للخدمة بضيعته. وما كان من الأب إلا أن هرب إلى دار قنصل الانقليز للاحتماء بها، فمارس القنصل ضغوطا على حكومة الباي، وانتهى الأمر بإطلاق سراح ابني القاضي. فأثار هذا الالتجاء لغير مسلم طلبا للإحتماء به حفيظة البعض، واستقر الرأي على مشاورة الشيخ الرياحي في الأمر، وكان من رأي هذا الأخير أن القاضي فعل ما يجب عليه لمَّا بحث عن ملاذ بجوار شخص غير مسلم، وأن لا محظور فيما صدر عنه، وأن ليس هناك بالتالي ما يدعو إلى عزله عن الخدمة، لأن ما فعله كان مطابقا  تماما لأحكام الشريعة وذلك بالنظر إلى استبداد العمال المسلمين وعسفهم. وانتهز الشيخ الفرصة ليحذِّر من أنه لن يقبل أبدا أن يجاري السلطة باسم الدين فيما تأتيه من عمل غير مستساغ بذريعةِ تطابق رأي السلطة مع رأي الشريعة.

سيدي إبراهيم الرياحي شيخ قوي الشخصية، يُعَدُّ من بين العلماء الذين خلّد التاريخ الإسلامي ذكرهم جراء ما كانوا يُؤاخِذون به العمال في عصرهم. يذكر أحمد بن ضياف أنه حين عودته من سفر قام به إلى فرنسا، لاقى أحمد باي "مرارات المواعظ نطقا وكتابة من شيخنا العالم التقي سيدي إبراهيم الرياحي وكان يخشى دعوته ويهابه.." بسبب هذا السفر الذي حصل " في غير زمان لغير مكان" بالنظر إلى كثرة تجاوزات العمال وتكرارها في حق السكان الذين يعانون أصلا قساوة الأزمة عليهم... ولا شك أن موقف الشيخ جاء من وحي حسن فهمه للشريعة الاسلامية الذي دأب عليه. وبنفس هذه الروح تقبل الشيخ بارتياح واستحسان قرار أحمد باي القاضي بإزالة الرِّق في عام 1846، ويبدو أنه أبدى موافقتة لتيار الإصلاح الناشئ وقتئذ، وهو ما أكده على كل حال رائد هذا التيار الإصلاحي الوزير خير الدين في كتابه أقوم المسالك.

خلاف في الرأي مع قاضي الحاضرة الشيخ البحري بن عبد الستّار

ويصادف أحيانا أن يخرج الشيخ عن طوره كما حصل ذلك في حادثة صارت له مع أحد تلامذته هو الشيخ البحري بن عبد الستار قاضي الحاضرة. أصل الحادثة أنه وقع خلاف في الرأي بين القاضيين في نازلة تتعلق بحضانة أحد الأطفال. والمتعارف عليه في مطلق الأحوال، ولا سيما في زمن الشيخ، أن رأي المُعلِّم لا يجوز الاعتراض عليه من طرف التلميذ. وما كان من الشيخ البحري إلا أن عقَّد الأمور وهو يدلي بحججه في حضرة الباي، وتوجه بكلام أثار غضب سيدي إبراهيم واعتبره من قبيل إساءة الأدب في مجلس مهيب. اغتاظ الشيخ لذلك. ولما وصل إلى الحرم النبوي خلال حجة أداها في سنة 1837، شكا لوعته " من شدة الوقْد "، وطلب بأخذ الثأر. هذه الحادثة ظلت على مر السنين، وإلى حد يومنا هذا، تثير جدلا في أوساط العلماء والمثقفين. واتفقت كلمة هؤلاء على أن كِلَا  الشيخين محق فيما ذهب إليه. لكن حدث في ذلك الزمن ما كان له وقع عميق في النفوس: قبل عودة الشيخ بمدة قصيرة، توفي مصطفى باي وكان انتصر لرأي القاضي الشيخ البحري. ثم قضى هذا الأخير نحبه ولم تمض إلا شهور قليلة على عودة الشيخ الرياحي من الأراضي المقدسة، واعتقد الجميع أنّ وفاة الرجلين بشكل مفاجئ دليل على سموّ منزلة الشيخ، هذا الولي الأجل، والحجة، الواصل البركة... وكان أحمد باشا باي الذي خَلَف والدَه الباي مصطفى على عرش المملكة ينظر بعين الإجلال والتعظيم الى أشراف قومه وإلى العلماء وأولياء الله الصالحين، وكان مع ذلك مناصرا لتيار الإصلاح. وكان على اقتناع بأن وفاة والده حكْم مَقضِيًّ، فخَصَّ سيدي إبراهيم بفيض كرمه وعطفه.

ومرة أخرى، عاد أحمد باي ليعهد إلى الشيخ إبراهيم الرياحي بمهمة سياسية دقيقة لدى السلطان العثماني (جوان- أكتوبر 1838) في طلب إعفاء البلاد التونسية من ضريبة كانت مطالبة بها، فتمت الموافقة على أن تتراجع  السلطة العثمانية عن قرارها بدون تأخير.

(النصّ الأصلي بالفرنسية بقلم الدكتور محمّد العزيز ابن عاشور)

قراءة المزيد:

سيدي إبراهيم الرياحي ( 1766 – 1850 ): عالم سُنِّيٌّ فريد زمانه

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.