أخبار - 2017.07.20

كيف خطّط يوسف الشاهد لتــــفكيك إمبــراطورية الفســاد؟

يوسف الشاهد

إلى أيّ حدّ سيمضي يوسف الشاهد في الحرب المعلنة على الفساد؟ ماذا عن الخطّة التي وُضعت في إطار خليّة مضيّقة في قصر القصبة تتولّى النظر في ملفّات الفساد وتمحيصها تمهيدا لاتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها وإلى أيّ تمشّ تستند هذه الخطّة؟ هل بمقدور رئيس الحكومة أن ينجح في شلّ محاولات أطراف تخشى على نفسها من أن تطالها يد القانون- وهي تعلم أنّ أعينا تراقبها وترصد تحرّكاتها المريبة-  فباتت تناور، في السرّ والعلن، لعرقلة المسار وإجهاضه؟

تلك أسئلة ما فتئ يطرحها بإلحاح الرأي العام منذ أن اتّخذت مكافحة الفساد منحًى غير مسبوق يوم 23 ماي الماضي بإيقاف شفيق جرايّة ومصادرة أملاكه وأمواله قبل أن تتتالى إيقافات عدد آخر من رموز الفساد وأباطرة التهريب وقرارات مصادرة أُعلن عنها في بلاغات صحفية مقتضبة لا تسمن ولا تغني من جوع.

منذ ذلك التاريخ ظلّ الرأي العام  يتطلّع إلى المزيد من الأخبار والمعلومات، غير أنّ يوسف الشاهد آثر التزام صمت مطبق يراد به الإبقاء على حالة من الغموض تكون بمثابة أداة من أدوات الحرب المعلنة، فلم يفصح عن نواياه واستراتيجيته ولا عن مقوّماتها وعناصر صياغتها. وتبعه في ذلك وزراؤه المعنيّون الذين وعدوا بالتحدّث إلى وسائل الإعلام لاحقا، ممّا أثار لغطا كثيرا وفجّر سيلا من الشائعات. ورغم هذا التكتّم وهذا الصّمت، حرصت مجلّة ليدرز العربية على التّحقيق في ملفّ الفساد وفكّ شفراته وذلك بالسعي إلى الحصول، لدى جهات فاعلة في الحرب ضدّ هذه الظاهرة، على معطيات وتحاليل حصريّة لئن لا تعكس بالضّرورة موقف الحكومة الرسمي إلّا أنّها تساعد على إدراك منطلقات هذه الحرب وأبعادها حاضرا ومستقبلا.

لو ندخل في التفاصيل ستصابون بالذّهول». بهذه الكلمات الوجيزة، الحاملة لرسالة مدوّية توجّه غازي الجريبي وزير العدل يوم 15 ماي الماضي، إلى مجلس نوّاب الشعب وهو يتحدّث عن الفساد الذي استشرى في البلاد بعد 14 جانفي 2011.

ولا شكّ أنّ ما كان يدفعه إلى الامتناع عن الإصداع بحقائق صادمة واجب التحفّظ، وهو المطّلع، بحكم منصبه الوزاري على العديد من الملفّات والأسرار، في علاقة بتنامي الفساد وبلوغه درجة غير مسبوقة من الخطورة، علاوة على أنّ البدء في تنفيذ الخطّة المرسومة لتفكيك إمبراطورية الفساد والمفسدين لم ينطلق بعد، غير أنّ ذلك لم يمنع غازي الجريبي من أن يدقّ ناقوس الخطر بقوله: «الفساد أصبح يهدّد كيان الدولة».

الفساد بين عهدين

قبل 14 جانفي 2011 كان الفساد موجودا في كلّ القطاعات لكنّه انحصر في دائرة ضيّقة، في ظلّ دولة قويّة، فلم يطل الأحزاب ولا المجتمع المدني ولا الإعلام. وكان التّهريب بالخصوص محكوما بمحاذير، فكلّ من يتعاطاه في المناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر كان يمتنع عن الاتّجار بالأسلحة والمخدّرات، في إطار اتّفاق مع السلطة مقابل الإخبار عن أيّ عملية  تهريب للموادّ الممنوعة.

أمّا بعد ذلك التاريخ، وبسبب وهن الدّولة واضطراب الأوضاع الأمنيّة امتدّت أصابع أخطبوط الفساد إلى الإدارة والديوانة والقضاء والأمن وإلى أوساط المال والأعمال، بالإضافة إلى وسائل الإعلام والأحزاب السياسية والمجتمع المدني.

وظهر أباطرة جدد كدّسوا ثروات طائلة في وقت وجيز بممارستهم التّهريب والتّجارة الموازية وبتوخّيهم شتّى أساليب الإثراء غير المشروع، فاشتروا الذّمم وأغدقوا الأموال والعطايا على أتباع يدينون لهم بالولاء، بدل الولاء للوطن، وتدفّق المال غزيرا من الخارج لتمويل جمعيات مشبوهة. وباتت مناطق وجهات في البلاد تحت سيطرة «بارونات» متنفّذين حتّى أصبح للفساد حاضنة شعبية. كما أقام البعض تحالفات مع مليشيات مسلّحة في الجوار الليبي، ممّا يشكّل تهديدا لكيان الدولة وللأمن القومي..وضع مفزع لم يعد ممكنا السّكوت عنه، لأنّ الصّمت عنوان التواطؤ.

لماذا تأخّر يوسف الشاهد في إعلان الحرب على الفساد؟

كان العديد من التونسيين في دوائر شتّى ينتظرون من يوسف الشاهد الشروع في مكافحة الفساد مباشرة بعد تولّيه تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في أوت 2016  وذهب البعض إلى حدّ اتهامه سواء بالتردّد أو بالعجز عن التصدّي لهذه الآفة على الرغم من تأكيده أنّ «الفاسدين مكانهم الطبيعي السجن». لماذا تأخّر في تنفيذ أحد أهمّ بنود «اتفاق قرطاج» المتعلّق بمكافحة الفساد ولماذا لم تكن الانطلاقة الفعليّة إلا يوم 23 ماي الماضي؟

حسب مصدر عليم، كانت ملفّات الفساد الكبرى محلّ درس وتدقيق في رئاسة الحكومة منذ أشهر وشكّل يوسف الشاهد حوله فريقا مضيّقا يضمّ بالخصوص وزير الداخلية ووزير العدل ووزير الدفاع الوطني ووزير الماليّة بالنيابة لوضع استراتيجية العمل الملائمة والإعداد الجيّد لتطبيقها في مختلف المستويات ودراسة الخيارات الممكنة وتحديد الأهداف والأولويات، حيث لم يكن من السّهل المرور إلى التّنفيذ دون أخذ كلّ الاحتياطات اللازمة، تفاديا لكلّ المنزلقات.

التمشّي والأهداف

كان لا بدّ من وضع منظومة متكاملة والقيام بعمل تحضيري في متّسع من الوقت وبشكل دقيق للغاية. وبناء الخطّة لم يكن بالأمر الهيّن رغم أنّ الإطار القانوني لحالة الطوارئ السائدة كان مؤاتيا وأنّ كلّ مبرّرات العمليّة من حيث القيام بالأبحاث والتحقيقات وتجميع عناصر الإثبات كانت متوفّرة.

كما كان من المهمّ ضبط التمشّي والتأكّد من التوقيت المناسب للتحرّك ، إلى جانب الاختيار بين البدء من قمّة هرم الفساد أو البدء من قاعدته. وكان القرار أن تُستهدف منذ البداية الرموز الكبرى لتوجيه رسالة قويّة إلى الرأي العام مفادها رسوخ الإرادة في دكّ حصن الفساد ولإحداث رجّة نفسيّة في البــلاد، في الآن نفسه، تبدّل المزاج العـام من شعور بالإحباط والشكّ في قــــدرة الحكومة على إصـــلاح الأوضاع  إلى شعــــور بالأمل والتفــاؤل، وهـــو ما حـــدث بالفعل عندما أطيح بشفيق جـــرايّة ثمّ بياسين الشنّوفي ونجيب إسماعيل وبالبقية.

استُهـــدف المارقون عـــن القانون الذين يشكّلون خطرا على كيان الدولة وأمنها الداخلي والخارجي واجتُنب المسّ من المسالك الاقتصادية المنظّمة وإرباك الإدارة. فالمخالفات الديوانية والجبائية والتجارية تُعالَج بطريقة عادية في إطار المصالح المعنيّة، في حين تُعرّض التجاوزات البسيطة في الإدارة وفي الهياكل التابعة للدولة على مجالس التأديب أو على مجالس الشرف بالنسبة إلى القوات الحاملة للسلاح.

ومن سمات الطريقة المعتمدة الحرص على انتهاج مسلك التدرّج وفق ما تقتضيه الملفات التي يقع التحرّي الكامل بشأنها وترفع أوّلا بأوّل إلى الجهات ذات النّظر دون انتقاء أو تركيز على طرف دون آخر، فالقانون يطبّق على الجميع . هناك من المتّهمين في قضايا الفساد من يوضع تحت الإقامة الجبرية في مقرّات تابعة للدولة وهناك من يزجّ به في السجن، ومن المتهمين من هم في حالة سراح، كلّ واحد بحسب وضعيته، سواء كان مشمولا بقرار مصادرة أملاكه وأمواله أم لا.

والمصادرة من مشمولات لجنة مستقلّة يرأسها قاض من الدرجة الثالثة وتتألف من ممثلين عن المحكمة الإدارية والبنك المركزي ودائرة المحاسبات وعن عدّة وزارات وكذلك من المكلّف العام بنزاعات الدولة وحافظ الملكية العقاّرية. وتعمل اللجنة ضمن المسعى العام المشترك.

دور محوري للقضاء

لم يكن بالإمكان إعلان الحرب على الفساد قبل تركيز المجلس الأعلى للقضاء، نظرا لدوره المحوري في خوض غمارها، وبه استعادت الدولة هيبتها وسلطانها، وبفضله وُلد مناخ جديد ينطلق فيه القضاء على أسس ثابتة وفي كنف الاستقلالية التامّة -بعد أن كان قبل ذلك خاضعا لمنطق التحالفات وواقعا تحت تأثير التجاذبات السياسية- ليكون من دعائم دولة القانون والمؤسسات ومكرّسا لمبادئ العدل والإنصاف والمساواة.

وقد سبق تركيز هذه الهيئة الدستورية الضّامنة في نطاق صلاحياتها لحسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية اتخاذ جملة من الإجراء تتمثّل بالخصوص في انتداب 500 قاض وأكثر من ألف كاتب محكمة وإطار إداري ومهندسين في الإعلامية وفنيين خلال السنة القضائية 2017-2016، علاوة على الترفيع بنسبة 20 بالمائة في العنوان الثاني لميزانية وزارة العدل، بما سيسمح بالنهوض بأوضاع المرفق القضائي وتحسين أداء القطب القضائي المالي والاقتصادي المناط بعهدته النظر في قضايا الفساد، علاوة على تحسين الظروف داخل السجون التي تعاني من ظاهرة الاكتظاظ حيث بلغ عدد المقيمين بها إلى حدّ 15 ماي الماضي 21533 شخصا. واللافت للنظر أنّ عدد الموقوفين (10532) يساوي تقريبا عدد المحكوم عليهم (11021)، وهـــو ما يستوجب مراجعة الإجراءات الجزائية وعدم المبالغة في الإيقافات في قضايا لا تكتسي خطورة كبيرة والعمل بمبدإ قرينة البراءة قبل ثبوت الجريمة...

مكافحة الفساد سياسة

غنيّ عن البيان أنّ الانطلاق المدوّي في مكافحة  الفساد خلق ديناميكية جديدة لن تتوقّف. ولعلّ السؤال الذي   يتردّد على الألسن هو : هل سيركن يوسف الشاهد إلى المضيّ قدما بقوة يحفِّزُه رصيد التأييد الذي لقيه من الرأي العام؟

الإمكانية قائمة بالفعل، لكنّ الحذر واجب. لسنا إزاء حملة أو خطّة وإنّما هي سياسة ينبغي أن تحكُم نظرة الشاهد وتحدّد طبيعة الاستراتيجية، وخطّة العمل، والوسائل، وكيفية بلوغ الأهداف مرحلة بعد مرحلة. ما سيقْدُم عليه الشاهد وما ستجتمع عليه كلمة الجميع، سوف يكون محلّ متابعة دقيقة ومحلّ تصحيح إن لزم الأمر. محقّ من يشبّه الحرب على الفساد برحلة جويّة يجب تأمين سلامتها من الإقلاع إلى الهبوط لتفادي كلّ المطبّات وتجنّب ما لا تحمد عقباه. الأجهزة الرئيسية في البلاد، ومنها على وجه الخصوص قوات الأمن والديوانة والعدالة تحسّن أداؤها وعادت إلى العمل بشكل جيّد، وسوف لن يمرّ وقت طويل قبل أن تسترجع كلّ عافيتها وعنفُوانها في مناخ من الصّفاء الكامل. وما على بقيّة السلطات العليا التّابعة لرئاسة الجمهورية وللحكومة وهيآت التفقد والرقابة والتّدقيق صلب مختلف الوزارات، وكذلك المنشآت والمؤسّسات العمومية أن تستعيد كامل نشاطها وعلى نحو مكثّف وحثيث، بما يدفع البلاد دفعا إلى الأمام. فنحن كما قلنا آنفا إزاء سياسة لا إزاء حملة عابرة، ولا بدّ أن نلمس كل تجليّات هذه السياسة في سلوكنا وفي ممارساتنا اليومية، فنقوى على مواصلة الرحلة، ونذهب بعيدا وبعمق في القضاء المبرم على مظاهر الفساد التي تشوب حياتنا العامّة.  ولكن من يسيّر برج المراقبة ؟ السؤال مطروح بجدّ. القيادة ظلّت إلى حد الساعة بيد لجنة محدودة يشرف عليها رئيس الحكومة باتصال دائم مع رئيس الجمهورية، وهي التي خطّطت للعمليات الأولى وأشرفت على تنفيذها. لقد توفّقت هذه القوّة العملياتية  (task force) إلى إنجاز المهمّة على أفضل الوجوه، لكن ليس بوسعها أن تواجه بمفردها ظاهرة الفساد بكل أبعادها وبشكل يومي ووفق سياسة ممنهجة، خاصة وأنّ الأمر لا يتعلّق بمجرد إيقاف من تلاحقهم شبهات فساد لإحالتهم على القضاء، وإنّما يتعدّى ذلك إلى ما هو أهمّ بكثير، ونعني به سدّ كل المنافذ أمام ظاهرة الفساد، أكانت متعلّقة بالتراتيب، أم بالنّظم الإعلامية، أم بالأمن إلخ.... فلا بدّ من تفكيك شبكات الفساد بكـــل تفرّعاتهـا وشلّ حركتها بالكامل والحاجة ماسّة إلى إقامة برج مراقبة يعمل بأوفر قدر من النجاعة وضمن رؤية موحّدة تحظى بتأييد شعبيّ واسع.

هل مساندة الرّأي العام بقوّة ليوسف الشاهد قادرة على تغيير المعطى السياسي في تونس ؟ ذلك موضوع آخر.لنركّز الآن على ما هو جوهري.

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.