أخبار - 2017.07.17

قطــر في ظلّ الحــصـار

قطــر في ظلّ الحــصـــار

الدّوحة، شهرا فقط بعد اندلاع الأزمة الخليجية بإعلان ثلاث دول من مجلس التعاون ومصر قطع العلاقات الديبلوماسية مع قطر، صيف حار ورطب كالمعتاد لكنّه استثنائي بمقاييس السّياسة والعلاقات الدولية، وحتى بمقاييس التجربة الإنسانية، فالحياة تستمرّ بين المظاهر اليومية المألوفة والمستجدات الطارئة، هي أزمة فريدة من نوعها لا قطريا فقط بل إقليميا ودوليا حيث يصعب التكهن بمآلاتها والإفصاح عن الأدوار الحقيقية التي يمكن أن تلعبها القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران والقوى الغربية مثل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في ظلّ توازنات استراتيجية جدّ معقدة.

الأزمة جديدة ومفاجئة بالنظر في سرعة تلاحـــق الأحداث بعد انعقاد اللقاء الخليجي التشـــاوري في الريــــاض والقمتين الخليجية الأمريكية والعربية الأمريكية في شهر ماي، لكنها قديمة تمتدّ جذورها في الماضي، بل يمكن القول إنّ أزمة سحــب السّفراء في 2014 التي انتهت باتّفاق الرّيـــاض كانــــت بمثابة المسودّة الأولى، وهو ما يعنــي استعداد الدّوحة جيّدا لأي طـــارئ سيــاسي مـــن هذا النّــــوع وتحسّبها لانعكاساته الممكنة على الاقتصـــاد وظروف العيـــش، يفسـّر هذا مرور قطاع التوريد في ظــــرف ســــاعــات قليلة يوم الخامس من جــــوان إلى الخطة البديلة الجاهزة للتنفيذ الفوري: استقبـال السّلـــع الغذائية والمـــوادّ التموينية بحرا وجـــوا، من تــركيا وإيــران وعـــدد من الدّول الأخرى بعد غلق منفـــذ أبو سمـــرة الحدودي الرابط بين قطر والمملكة العربية السعودية وهو المنفذ البري الوحيد الذي يربطها بالجزيرة العـــربية وتمرّ عبره واردات قطـــر وكل  معاملاتها التجارية مع دول الخليـــج والعالم، إذ يعتمد اقتصــــاد المنطقة كلّه على ميناء جبـل علي في الإمارات العربية المتحدة، لذا كان لزاما على قطر بعد أسبوع فقط من بــــداية الأزمة فتح خطين بحريين مباشرين يــربطانها بصحـــار وصـــلالة في سلطنة عمان.

الإقبال الكثيف وبشكل استثنائي على المواد الغذائية الأســاسية لم يتجـــاوز ساعات قليلة يوم الخامس من جوان عقب الإعلان عن الحظر الاقتصادي الذي فرضته الدول المقاطعة على قطر، وهو ما رصدته بعض وسائل إعلام هذه الدول لتصف الوضع بأنه «هلع تمويني»، لكن المجمّعات التّجارية استعادت توازنها في اليوم التالي تدريجيا لتستقر الأوضاع في أقلّ من أربع وعشرين ساعة. تغيّر المشهد وصار لزاما على المستهلكين التأقلم مع الوضع الجديد واكتشاف علامات تجارية مغايرة حلّت محلّ العلامات التّجارية الكبرى السّعوديّة المنشأ والتي تعتبر جزءا أساسيا من الاستهــلاك اليومي للمواطن الخليجي لا في قطر فحسب بل في المنطقة بأسرها، على غرار منتجات الألبان ومشتقاتها والخضــر والفـــواكه والعصائر، هــذه العلامات الجديدة تأتي من تركيا بالدرجة الأولى ما فسح المجال في منصّات التّواصل الاجتماعي للتندّر باعتبار الحليب العنصر الأكثر أهمّية في أزمة دولية محورها الظّاهر للعيان مقاومة الإرهاب. بالتوازي مع ذلك أطلقت وزارة الاقتصاد والتجارة القطرية حملة كبيرة لدعم المنتجات الوطنية التي أصبحت متوفرة بشكل أبرز من ذي قبل لا سيّما في مجال الألبان والخضروات.

لم يسجّل حتى السّاعة أي تغيير في مستوى أسعار المواد الغذائية، رغم فارق التكلفة بين التموين البري والتموين البحري، هذا الفارق يعتبر أحد آليات الأزمة، ففي الوقت الذي تعتبر فيه قطر نفسها دولة محاصرة، تعتبر الدول الأخرى أن قرار قطع العلاقات الديبلوماسية قرار سيادي تحتفظ بحقها فيه كاملا، وأن قطر يمكنها استخدام المجال البحري الدولي الواقع بينها وبين إيران بديلا عن المنفذ البري، والمقصود هنا الاستنزاف الاقتصادي، إذ سيؤدي غلق المجال الجوي في وجه الخطوط القطرية إلى رفع كلفة رحلاتها بتغيير المسارات وتطويل أمدها، ما يشكل عبئا على الشركة يضاف إلى عبء توقف الرحلات الخليجية دفعة واحدة، من جهة أخرى اتّجهت الأنظار إلى المصارف القطرية ومحلات الصّرافة تأهبا لأيّ إقبال غير عــاديّ في مستوى سحب السيولة النقدية أو تحويل الأموال بالعملات الأجنبية لكن لم يحدث شيء من ذلك، ما حافظ على استقرار العملة، وبقاء قوانين الصّرف والتّحويل على حالها، ولم تُسجّل أيّ قيود على تداول العملات الأجنبية رغم انتشار شائعات كثيرة في هذا الخصوص، كلفة الاستنزاف ستكون باهظة لا سيّما إذا استمرت الأزمة طويلا سواء أتحملته الدولة أم لم تتحمله على عاتقها، إذ يهدف إلى تأزيم الوضع السياسي والاجتماعي داخليا، وقد صرّح أحد وزراء خارجية الدول المقاطعة لوسائل الإعلام أنّ قطر مدعوة إلى تغيير سياساتها وإلاّ ّفإن الحياة فيها ستتغير.

هذا السيناريو لم يغب عن غرفة العمليات التي تدير الأزمة هنا في الدوحة، فرافقت هذه الإجراءات الاقتصادية السريعة التي تهدف إلى الحفاظ على كل مكونات الحياة السهلة والمريحة حملة تضامن وطني مع القيادة السياسية تجسدت في انتشار صور الأمير تميم بن حمد آل ثاني في كل مكان وهو أمر غير مألوف في الأيام العادية إذ لا تظهر صور الأمير والأمير الوالد في الفضاءات العامة إلاّ أثناء مراسم الاحتفال باليوم الوطني في الثامن عشر من ديسمبر سنويا، هذه الصور مرفوقة بشعارات تأييد وولاء فضلا عن المواد الإعلامية التي يعرضها التلفزيون القطري وقناة الجزيرة حول الأزمة تجعـــل المتجول في شوارع الدوحة يشعر بــأنّ الوضـع استثنـــائي رغـم أنّ الإقبال على الفنادق والفضاءات الترفيهية أثنــاء عطلة عيد الفطر كـان عـــاديا ولم يطرأ عليه تغيير يذكر، بل ولوحـظ إقبال هام من السواح القادمين من عمان والكويت.

لأول مرة تقريبا لم تتمكــن منظــومة مجلس التعاون من السيطـــرة على الخـلافات بين أعضائها بما جعلها تنشق إلى محورين: محور قطري عماني كويتي في مقابل محور سعودي إماراتي بحريني، هذا الانشقاق لا يهدّد فقط أمن المنطقة واستقرارها بل ينذر كذلك بانهيار منظمة إقليمية استطاعت على مدى أكثر من خمسة وثلاثين عاما أن تصنع من دول الخليج العربي قوة اقتصادية واجتماعية مهمة، وهي رغم كل الخلافات السياسية بين هــذه الـــدول واختلافات تركيبتها الديموغرافية والسياسية كــانت مظلّة للتعاون الاقتصادي وتكتلا اقليميا في مواجهة العولمة وقوانين التجارة العالمية، وانهيار هـذه المنظومة لن يستفيد منه أحد، لكن الخاسرين أكثر من أن يعدّوا.

عــامــر بـوعــزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.