محمّد الطالبي حيّا أو التأريخ للمستقبل

محمّد الطالبي حيّا أو التأريخ للمستقبل

السيد وزير الثقافة
سيداتي، سادتي
أيها الجمع  الكريم،

يسعدني أن أكون بينكم هذه الليلة لأتحدث إليكم –في مجرى الاحتفال بأربعينية الأستاذ الطالبي - في معنى جلل ’ وهو أن الدين ليس إلا تشريعا للحرية .ويكفي لتبين هذه الأمر البديهي  أن نتخيل لحظة واحدة أن  آدم لم يعص ربه أي لم يمارس -في الحضرة الالهية ذاتها- حرية الاختيار بإطلاق ’بين أن "يقرب الشجرة ''وأن لا يقربها’بصرف النظر عن الإيمان بذلك المعطى أو عدم الإيمان به ’ وعما إذا كان ما صدر عن الإله  يحمل على  معنى التحريم  أو النصح أو التحذير؟فلو لم تكن ممارسة "حرية الاختيار " ’هل كان على آدم أن" يخرج من الجنة" ’وهل كان للإنسان وللزمن وللتاريخ والحضارات أن توجد ؟ألا يعني ذلك مباشرة أن الحرية أصل الإنسانية أنطولوجيا ’ وشرط إمكان  الحضارة والتاريخ ابستيمولوجيا ؟ .تلك حقائق يمكن أن يعبر عنها بصيغ مختلفة  ,أسطوريا أو دينيا أو شعريا ’ دون أن يلحق معانيها تغيير موضوعي .فالحرية هي'' الثابتة الكوسمولوجية '' بحيث لا يكون الوجود والحياة والتاريخ دونها ’ وهي" الثابتة الانطروبولوجية" ’بحيث لا إنسانية حيث غابت الحرية.

وإذا كان الأمر كذلك ’ألا يحق لنا أن نطمع في إجابة  محتملة ’عن سؤال أرّق الإنسانية عهودا طويلة ؟انه سؤال  :لم خلق الله الإنسان ؟ وهو السؤال الذي طرحه كانط في كتابه الشهير الموسوم ''بالدين في حدود مجرد العقل'' وأجاب عنه مباشرة ودو تردد بقوله ''خلق الله الإنسان للحرية'' .ومن معاني "لام العاقبة " هذه ’ أنّ الحرية هي القيمة العليا التي لا فوق فوقها ’ والقيمة الأعمق التي لا تحت تحتها . وحتى لو أخطأنا التقدير’ألا يكون الخطأ في التسليم بالحرية ولها ’أفضل بكثير من الوهم في القول  بما يشرع لاستعباده بجميع أشكال الاستعباد؟...

ذلك هو الإشكال الذي رأيت أن أتحدث فيه إليكم ’باعتباره إشكالا   أساسيا عند المرحوم الطالبي  ’وباعتباره الإشكال الذي يتوقف عليه تحويل التاريخ من "علم الماضي" إلى "علم المستقبل"’على النحو الذي يلزم به الإخلاص للحقيقة والحرية معا ’ذلك أن ''وقائع الماضي" حيت تكون فعلية ’يتغير معناها على الدوام بتغير اهتمامات حاضرنا وإخلاصنا لطموحات غدنا. ومن هذا المنطلق  ’كان علينا الانتباه إلى انه " ما من شيء أسرع تبدلا  من الماضي الثابت" كما كان يقول مؤرخ الثورة الكوبرنيكية  الكسندر كواريه A.Koyré

سيداتي، سادتي

جرت التقاليد في مثل هذا الظروف ان يدور القول –في المرثيات كما  في خطب التأبين أو التقريظ – على معان متعالمة  ’ على  صلة بماضىي المحتفي به ’حاضرا كان أو غائبا.وكثيرا ما تتحول –خطابيا- في مثل هذه المناسبات ’ الكلمات إلى أشياء’  والوعود إلى انجازات ’ مع اجتهاد متراوح التوفيق في وضع الكلام على مواضعه’ بفعل غلبة الأريحية على النفوس وتناقص مطامح المنافسة ...  والعادة أن تقع تلك القصود في أفق احترام المحتفى به’  وإعلاء مناقبه ’  والتجاوز عن معايبه   حتى  طلس الحدود- أحيانا -بين ما كانه فعلا’ وما كنا نأمل  أن   يكونه’ حتى لو حملنا على الوجود ما ليس فيه’  وألقينا على  المحتفى به  هموم غدنا ’ أكثر مما احتفينا  بانجازات أمسه. وفي ذلك تعبير عن رغبة ملحة –واعية أو غير واعية-  في تعظيم شأن أبطالنا  ’-بصرف النظر  عن مواضع بطولاتهم – لنجعل منهم قدوة للاحتذاء  ’ وأنموذجا للاهتداء .كذلك كان الأمر عند قدماء اليونان عامة, وعند بيريكلاس Périclesخاصة .وكذلك كان الأمر عند   قدماء الرومان عامة وعند سيسيرون Cicéron خاصة .وكذلك كان الأمر عند العرب عامة  ’ وفي شعر التعازي والمراثي خاصة .
 
غير أن الأمر لا يجرى على هذا النحو  في مداخلتي هذه ’لثلاثة أسباب متضافرة .أولها ان الأستاذ الطالبي رحمه الله   من مؤرخي الجامعة التونسية ’ ولا علاقة  لي بعلم التاريخ ’ إلاّ ما كان من متطلبات التثقيف الذاتي ’ أو من ضرورات المواطنة’و شروط صحة الانتماء إلى الوطن...
وثانيها أني لم احظ –بحكم فارق السن - بالتعرف على الأستاذ الطالبي   كمسؤول إداري ’ لا يوم كان  في موقع  ''الأستاذ المدير'' لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس  في أول انبعاثها ’ولا يوم كان  رئيس اللجنة الثقافية الوطنية  في ثمانينات القرن الماضي ’ ولا يوم أخذ على عاتقه مسؤولية إدارة  بيت الحكمة  منذ سنوات قليلة خلت  .

وثالث هذه الأسباب أنّ المحتفى به حمّل نفسه   عبئا ثقيلا ’ تجديد الفكر الديني في الإسلام من مواقع متعددة : موقع المؤرخ  والمفسر واللاهوتي ’والأديب والمتفلسف ’وخاصة من اعز المواقع وأبقاها ’موقع المواطنة ’في حين قضيت أغلب سنوات البحث في  تأمل أعمال   لا تعلق لها مباشرة بالإسلام  ’حضارة وعقيدة ’أعمال  كوبرنيك وغاليلي  وكبلار  وديكارت ونيوتن ولا بلاص ولا سيما كانط ...

غير أن  استعراض أسباب المباينة بيني وبين الاستاذ الطالبي’ ينبغي ألاّ  يحجب  دواعي  المشاركة بيننا .فيكفي  أن يكون من مؤسسي الجامعة التونسية ليكون له في وجداني  المقام الذي يتقاسمه  مع جيله ’ أحمد عبد السلام ’وعبد القادر المهيري ’ ومحمد عبد السلام ’ وفاطمة حداد ’ومحمد اليعلاوي ’ والشاذلي بويحي وصالح القرمادي وصالح المغيربي ’ رحمهم الله جميعا.

وليس لأحد أن يمن على تونس بما أدّى لها من خدمات ’بل قد يكون '' نكران الجميل'' من سمات الشعوب العظيمة كما كان يقول بلوتارك PLutarque ’ومن بعده الشاعر الفرنسي  لامارتين Lamartine   ’على معنى أنه دال  في ظاهره على رفض وإعراض ’ وفي باطنه  على قبول واستزادة  .ولنا أن نضيف –دون تناقض - انه لا خير في شعب  لا يعترف بفضل من خدمه من أبنائه بصدق وكفاءة ’ ولو لم  يدرك معه إلا بعض ما طلب ’كما كان لنا ان نذهب إلى انه لا خير في جيل لا يجلّ من علمه ’وهو يسعي بإيمان الأنبياء الى تجاوزه ’ حتي يكون الغد  دائما أفضل من الأمس.

وفي هذا الإطار يتنزل  معنى حضوري  المتواضع هذا المحفل الخاشع . فقد نختلف  في تقييم الإنتاج الفكري  لمحمد الطالبي ’ ولكننا لا نختلف في انه كرس حياته كلها بإخلاص  في خدمة مدرسة الجمهورية ’فحق له بذلك أن يكون أهلا للتّجلّة والاحترام ’ حاضرا وغائبا.

إلاّ أن هذا المعنى الأخلاقي لا يستوفي –على خطره- - معنى حضوري بينكم الليلة .فما يجمعني إلى الأستاذ محمد الطالبي  بتجاوز الطارئ الزائل ’ طلبا للواطد الدائم’ ويخترق زبد الأيام ونقع الريح الهابّة ’ طمعا في الغوص على معاني تجربة الوجود ’ والفوز بما يمكن أن تكون الحقيقة.وليس يخفى على الفطن أنّ  عزة المطلب توجب رباطة الجأش. و "من خطب الحسناء لا يغله المهر ". وقد كان للأستاذ الطالبي من اشد الناس  حرصا على أن يصدع برأيه ’ حتى ولو   قامت الدنيا كلها ضده  ’وحتى ولو طليت جدران حديقة منزله بما يزين حشر  المسلم  المجتهد  في زمرة  حلفاء إبليس ’كيدا له حتى تذهب راحته’ ويسهل على الجهلة المتفيهقين  تسخير من هب ودب للعنت له والطعن عليه ’ حتى استباحة دمه عند الاقتضاء.

قال لي يوم زرته لشد أزره في تلك الظروف الحالكة :اللهم ارحم قومي فإنهم لا يعلمون '' .قلت :هم حقا لا يعلمون ’ ولكنهم يمكرون .قال  ’ بعد أن ملأ الضحك أرجاء بيته المعمور  :"ويمكرون ويمكر الله والله  خير الماكرين".ولو لم يكن للطالبي  إلا  مزية الصبر على الأذى من اجل حرية الكلمة ’ لكان أهلا  لأن نحتفي به اليوم.لذلك كان من واجبي الأخلاقي والوطني أن أكون بينكم اليوم’وان أتجاوز بمشاركتي  حدود اللباقة والتلطف في اتجاه الاجتهاد في سبيل الوقوف على بعض الأغراض التي شغلته واستفزت الكثير ’فتكريم المفكر لا يكون إلاّ بالتفكر معه في ما فكّر فيه.

ولعل أهمّ ما حاول الطالبي التفكير فيه هو موضوع الحرية .وليست  الحرية عنده مجرد مسالة سلوك اجتماعي ’ أو ميزة موقف شخصي ’بل هي -أساسا -  إشكال نظري  بعيد المدى في ما أقترح تسميته" بالكتابات الفكرية العامة " ’ تمييزا لها  عن أعماله  العلمية المتخصصة .وهاهنا يطرح سؤال راودني كثيرا وطرحته عليه مرارا ’ولكنه كان في كل مرة يرد عليّ سؤالي  ’ ويحملني وحدي مسؤولية الإجابة عنه : كيف يمكن تصنيف  الطّالبي صاحب "الكتابات الفكرية العامة " مثل "عيال الله" او "معضلة الحقيقة "او" ليطمئن قلبي " ؟ هل هو "المثقف " يساهم في بلورة هموم عصره؟ هل هو ''اللاهوتي" يريد فتح ما استغلق من الإسلام على الكثير من منطلق المقاصد الربانية ؟ وهل لبشر أن يدعي –بعد الذرس الديكارتي- اطلاعا على ''المقاصد الربانية'' ؟ هل هو "الداعية" الذي انبرى –كما يقول بعض الدعاة- لمحاربة فساد فشا في الناس بفعل اطراد القياس ؟هل هو من "المتفلسفة" الذي طلب  في الدين معنى خفي عن العامة  ؟هل هو كل ذلك ؟والى أي مدى يمكن الاطمئنان إلى هذه "المقالة الجامعة " المفترضة''؟

والحقيقة أن صعوبة ''التصنيف '' هذه تشير إلى مسالة " ابستيمولوجية " على غاية من الأهمية ’ وهي أن الأستاذ الطالبي سعى  إلى  تحويل كل منتجات الفكر الإنساني المتاحة له ’إلى وسائط  إلى  ما كان ما يسميه ''الفهم'' ’في معنى غير بعيد  مما كان يذهب إليه الفيلسوف الألماني  ديلتاي Dilthey . فالموضوع الواحد عنده ’ موضعه عند بؤرة  التقاء  المعارف الإنسانية كلها ’أو قل ما أتيح له منها: اللسانيات’ والانطروبولوجيا’ وعلم النفس ’ وعلم الاجتماع’ والتاريخ’ والفنون ’والفلسفة ’ والفقه ’والحديث ’والتفسير ...

وذلك في تقديري مطمح منهجي من أهم مطامح الفكر الحديث ’ حيث يدور الأمر فيه على ما به الممايزة  والمشاركة ’ والوصلة والفصلة  ’ والجمع و الإفراد’ في مجرى الانحياز الى مصادرة من قبيل انطروبولاجي  ’تقوم على القول بوحدة التجربة  الإنسانية  في تداخل أبعادها ’ وتلاقي شاماتها ’ وتتداعي معانيها ’آنيا وزمانيا ’ سكونيا وديناميكيا ’ في حياة الأشخاص كما في حياة الأفراد ’وعند الشعوب ''البدائية'' كما عند الشعوب ''المتحضرة''  ’وفي الأحلام كما في اليقظة  ’في أشد الأقوال إيغالا في العقلانية العلمية ’ كما في الرسم أو النحت  ’ في أساطير الأولين كما في فلسفة العقلانيين ’  وفي الأديان  جميعها كما في الشعر ...فالإنسان واحد ’ وان تنوعت أشكال التعبير عن إنسانيته ’كما نتبيّن ذلك في علم النفس التحليلي مع فرويد و كارل يونغ ’أوفي الانطروبولوجيا  مع كلود ليفي –ستروس أو مع كانط  في الفلسفة النقدية .فليس ثمة هاهنا غير الإنسان ’فردا وجماعة ’ أصلا ومآلا ’فاعلا ومنفعلا ...
ذلك ما تخيره  الفكر الحديث منهجا له ’ وذلك عينه ما كان يطمح إليه محمد الطالبي  .غير أن التبصر يقتضي التمييز في كلتا الحالتين بين الوعد والانجاز’ وبين الإطماع والتحقق’ وبين المقاصد البعيدة ’والممارسة الفعلية .كان انشتاين يقول :ان أردتم فهم العلماء فانظروا إلى ما يفعلون ’ لا إلى ما يقولون...
 
ولمّا كان المجال لا يتّسع هاهنا للتدقيق  في هذه المسائل المنهجية العويصة ’ولا في مجمل ما أنتجته من أثار عينية ’كما لا سبيل الى تدقيق القول في  نصيب الأستاذ الطالبي  من الأخذ بها ’ فاني اكتفي  بطرح بعض الأسئلة للتأمل .والحق أن أسئلتي –مثل جميع الأسئلة- تكتسي أهميتها وتستمد معانيها –منطقيا- مما تفترضه  قبليا a priori’وبما تؤول إليه من نتائج بعديا a psteriori. لذلك كان لزاما عليّ ا ن أبين –في اختزال شديد’ ارجو ألاّ يكون مخلا بمقاصده –قبليات أسئلتي وبعدياتها ’فرضيات انطلاقها المعلنة أو الصامتة ’ونتائجها الفعلية أو الممكنة.

1/ ليس مما يحتاج إليه بيان أنّ ''الحداثة'' من أهم الموضوعات التي انصرف إليها اهتمام الأستاذ  الطالبي  في سعي  دؤوب الى اكتساب ما كان يسميه الكندي في رسالته الشهيرة إلى المعتصم" سنن الزمان" ’ وطمعا في الفوز بشروط الانتماء إلى عصره عن جدارة واستحقاق ’ لاعن صدفة أو إكراه  .وهو محق في ذلك وهو قدوة فيه .
غير أنّ الأستاذ الطالبي   -مثله مثل جل المنظرين  التونسيين والعرب – الذين شغلتهم هذه المسالة ’ لم يخص مفهوم ''الحداثة''-في الأقل في الكتب التي ذكرتها - بأيّ تحليل نظري مستقل ’وكأنما يتعلق الأمر عنده -كما عند الكثير - بمعطى بديهي بذاته  ’أو ''بواقعة '' تاريخية قامت  في  الإدراك الحسي معالمها ’ واستقرت  في الذاكرة مقوماتها ’وركزت في الذهن معانيها ’ فهي تغني-عنده-  عن كل مساءلة ’وتصرف عن كل حيرة .
والحق أن المنهج السليم كان يقضي بخدمة مفهوم ''الحداثة'' بالصواب ’كما تخدم جميع المفاهيم  التي يستخدمها المفكر ’ومن باب أولى وأحرى تلك التي ينقطع لفهمها  وإفهامها .فما من احد على حد علمي طرح سؤال "ماهية الحداثة " كما يطرح المفكر الجادّ منذ أفلاطون  سؤال  ''العقل'' أو ''الكرم '' او ''الشعر' ' فيسال : مالحداثة ؟ ما الكرم ؟ ما الحرية ؟ ما العقل ؟...هو سؤال ''الماهية '' المنسي يستبدل 'في الأدبيات الشائعة- بالحديث عن وقائع تاريخية أو أسماء أعلام ’ كانت أهميتها ما كانت .وتلك غفلة ابستيمولوجية ثقيلة العواقب ’ اذ يلزم عنها –من حيث احتسبنا أم لم نحتسب- أن يظل الفكر يجري على" وثوقية " غير واعية بذاتها ’ حيث أردنا الاعتراض على الفكر التقليدي الوثوقي القائم على ''ماهو معلوم من الدين بالضرورة''.مصادرتان مجانيتان لا تسآل عن مشروعيتهما ’ عن استقامتهما في العقل المحض ’ وفي شاهد التاريخ .
2/ ومن الطبيعي أن يكون  لهذا ''النسيان'' نتائج سلبية لا يكاد يأتي عليها إحصاء ’ليس أدناها  اعتبار  الحداثة حدثا "غربيا " وبالتالي فهي "غريبة"  عنا .وهو ما يفضي –بعون لغوي مغر- الى المقالة الإيديولوجية الرائجة ’ أن التحديث " تغريب " وأن ''الحداثيين '' بالتالي "غرباء "عن مجتمعاتهم .ولا أظن أن الأستاذ الطالبي قد نأى –موضوعيا-بفكره عن تلك المقالة .ونحن نلمس ذلك في غير عناء في مواقفه المتشنجة في أحيان كثيرة ممن خالفه الرأي الذي ينزل عنده –دون عناء- الى درك ''الغريب عن الحق'' ...
3/ يجمع الدارسون في تونس وخارجها  على ارتباط الحداثة بالحرية ’وهم محقون في ذلك  ’وهم مشكورون عليه .ولكن الفكر النقدي لا يعرف بمقالاته  بل بما تتأسس عليه مقالاته .ومتى لم تخدم تلك الأسس بالصبر ’وتجلى بالوضوح الكافي ’ فلا فرق بين مقالة ونقيضها إلاّ بميولات  ذاتية عرضية ’لان كليهما يجري عندها على وثوقية لا تبلغ من العقل مبلغ الإقناع الملزم بالتسليم ’ولا من الوجدان مبلغ المستحث على الاطمئنان . فما يمكن أن يكون  حظ الأستاذ الطالبي من الثلاثية الارسطية الضامنة لجدوى الخطاب من حيث تماسكه المنطقي Logos’ ووقعه الوجداني  Pathos’وسمعة قائله الأخلاقية Ethos؟ . 
والأقرب إلى الحق أنه من علامات محدودية اطلاعي’ أني لا اعرف من اجتهد من كتابنا في بيان حقيقة  علاقة مفهومي ''الحداثة'' و''الحرية'':هل هي ضرورية أم عرضية ؟ واذا سلمنا بضرورتها من ناحية وتاريخيتها من ناحية أخرى ’كيف لنا أن نتعقل  علاقة ''التاريخي " من حيث هو صيرورة ’بالضروي" بما هو القبلي  المتعالي L’ apriori transcendantal ’ الاوّل بصفته دالا على تجربة الإنسان في الزمن  اذ ''يخبر الدهر اشطره ''’ويقبل على الحياة ''في كفها الغار أو في كفها العدم'' ’ بانتصاراتها وانكساراتها ’وبآمالها وآلامها ’والثاني بصفته  دالا على شرط أمكان تعقل تلك الصيرورة ذاتها  اي على "العقلي '' الصرف في كونيته وتعاليه عن صروف الأيام .ومما يزيد هذا "النسيان " الثاني  خطرا ’أنّ ضحيته مؤرخ ما كان له أن يغفل عن تأمل شروط ممارسة كتابة التاريخ .فكيف يكون التاريخ  ممكنا بما هو تنزل الوجود ’أشياء ومفاهيم وقيما ’ في الزمن ؟ سؤال منسي في ما قرأت للاستاذ الطّالبي...ولعل أصل ذلك النسيان  مصادرة اختلط فيها  العقدي بالابستيمولوجي ’وهي مصادرة ''العناية الإلهية'' بما هي العلة الأولى التي عنها كان كل شيء ’ والعلة الدائمة التي تصرّف الأمور في الزمن  فيكون "الأمر لله من قبل ومن بعد "  ’ كما كان يقول جميع المؤرخين العرب ’ وابن خلدون المالكي الأشعري خاصة  . لذلك كنت اطرح عليه سؤال الحقيقة الخفية  في طيات كتاباته  خلافا للحقيقة المعلنه فيها :هل كان ةالطالبي الثائر على التراث "يكتب التاريخ متأثرا بالقرآن (عيال الله )ام بتراث فقهي مالكي –أشعري ’إسلامي تعلقت همته بتجاوزه فلم يفلح ؟ 
لذلك ما كان لأحد أن يماري في صحة مقالة الاستاذ الطالبي  القاضي بالانتصار ''للحداثة' في صلتها الوثيقة" بالحرية "’ولكن ما من" برهان "قام عليها’ عنده ’ وما من تحليل نظري صرف سندها ’فضلا عن تواطئه اللاإرادي –بسبب وثوقية لاواعية  أوسعت الفجوة حتى التناقض بين المقاصد والانجازات-  مع ما كان يطمح إلى مغالبته من تقاليد فكرية حمّلها –في غير تجن - أوزار تأخر الفكر الإسلامي  .فالحقيقة النظرية ’انما تكون نتيجة ''مطاف عقلاني''  ’تتالى فيه الأدلة تتاليا ضروريا لا طفرة فيه ’ وتترابط ترابط  حلقات السلاسل الطويلة التي ألفناها في البراهين الهندسية كما يقول المجاز الديكارتي ’ وهو ما لم يوفق له الطالبي  .لذلك كان لزاما علينا الاعتراف بأن كتاباته الغزيرة غلب عليها  فوران ''الحدس ''وانبجاس " الخاطر ''  و صولة ''الغضب للحق'' على الاستدلال العلمي ’ والتحليل المفهومي ’وكأنما كان الموت يستعجله فترك ذلك كله لمن يأتي بعده ’من المؤمنين بوثاقة الصلة بين الحداثة والحرية عملا ’ وضرورتها نظرا .
4/  ويوجب تدارك هذه النقيصة أن نخدم مفهوم ''الحداثة''بالصبر’ وان نشتغل عليه بالصواب حتى تستقيم لنا الرؤية ’ونخرج من منطق التبشير الى منطق النظرية ’ومن هرج  التشهير الى موقف الفهم ’ بما يوجبه ذلك كله من ملاءمة بين ''الوقائع'' و''الأفكار '' ’ملاءمة هي من ضرورات  انسجام الفكر مع ذاته ومع عالمه ’وهي من متطلبات تجاوز الوثوقية الغالبة على الكثير من أبعاد الفكر التحديثي .
فاذا قدّرنا مثلا ان ''الحداثة''  ''تغريب '' وهو أمر جائز صوريا في هذا الاتجاه او ذاك ’ كما سيأتي بيانه ’ وقعنا في مصاعب لا تدارك لها ’إذ كيف تكون "الحداثة "حرية في منابتها ''الغربية ''" وتغريبا " أو ''غربة '' أي ضربا من ''العبودية'' أو "الوعي الزائف'' في مغارسها العربية أو الإسلامية؟ هل مجرد النقلة  قادرة على تغيير جوهر الأشياء الى هذه الدرجة؟ أم هل يعني ذلك أنّ المغرس العربي و الإسلامي  غير مؤهل بذاته –كما يقال  في عنصرية لا تعي ذاتها’جوانية وبرانية - لاستقبال نبتة الحرية ؟ أم هل لنا أن نذهب مذهبا آخر يرد بمقتضاه ما يسميه بعضهم ''فشل التحديث'' إلى يد خرقاء لم تحسن ''الغرس '' ’ رغم صدق النية ؟ ذلك هو ''التفسير '' الدائر على معاني القول بالبون بين ''النظرية '' والتطبيق'' ,وهو قول يفسر "الفشل العملي " بعدم ''الفهم النظري''’ ويرد كليهما  -في كثير من الأحيان - الى ما يشبه اللعنة ''العرقية" التي تتهم العربي المسلم بانه ما وقعت يده على شيء ألاّ أفسدته لمجرد كونها "عربية" أو''عربية و مسلمة " كما يمكن أن نستبين ذلك – في تخف مشفّ-  في بعض مواقف رينان Renan او بارنار ليفيس B.Lewis؟

وفي تقديري أن هذه الإشكاليات-الحقيقي منها والوهمي- لازمة عن الغفلة الابستيمولوجية المشار إليها ’إذ هي التي مكنت للوثوقية من أقوالنا في الحداثة :فنحن نقول فيها دون أن نعرّفها ’ولو إجرائيا  ’ ونصلها بالحرية دون أن نتساءل عن طبيعة تلك الوصلة’أضروريه هي أم عارضة؟ وهل هي مما يعني ''الفرد'' أو ''الجماعة'' .وإذا قلنا جدلا بسلامة تلك العلاقة ’فهل يلزم عن ذلك أنّ 'الحرية'' لم توجد إلا مع ''حداثة " عصرنا ؟أم أنها كانت تقال على معنى غير الذي نقصده اليوم ؟ وإذا كان ذلك كذلك ’ فما هي الفوارق الدلالية بين ''حرية القدامي'' و''حرية المحدثين '' كما كان يقول بنجمين كونستان Benjamin Constant يوم ظن قادة  الثورة الفرنسية –واهمين- أنهم يعيدون مجد روما ؟
5/ وعن هذا النسيان المزدوج وما لزم عنه من عدم التمييز في اللفظ الواحد بين المعاني القديمة والمعاني المستحدثة  ’ ،نشأت فجوات تحولت مع الأيام  إلى مواضع لزوابع’  تظاهرت فيها علينا إرادتان  مختلفتان من حيث المصدر ’ متلاقيتان من حيث الغاية ’  إقصاؤنا من الحداثة والحرية:الإرادة البرانية الاستعمارية التي تلغينا منهما لتوهم عدم الأهلية’  والإرادة الجوانية التي تقصي ذاتها بدعوى عدم التلاؤم بين" الحداثة" و"الأصالة " ’وبين "الحرية " و''مناقب العربي'' و''قيم المسلم'' .وليس أدل على  خواء هذا التوهم من محاولات جامعة الدول الدول العربية  استصدار" ميثاق عربي لحقوق الإنسان ''(2004تونس)أو محاولات منظمة المؤتمر الإسلامي  استصدار ''الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان " (طهران 1989  –القاهرة 1990).وهل من معنى لميثاق  من هذا النوع يختتم في مادته الخامسة والعشرين بوضع "الشريعة الإسلامية المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواده"(نسخة القاهرة)وان كان ذلك اخف وطأة مما تضمنته المادة الرابعة والعشرون من نسخة أولية من ذات المشروع ’ حيث يؤكد المشرع أن ''كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية "(طهران 1989)؟ وهل إلغاء ذاتي من المدونة الدولية لحقوق الإنسان أظهر من هذا الشرط  ؟ وما يمكن أن يكون  معنى ما يسمى"الشريعة الاسلامية'' أذا تناقض اي ركن من أركانها مع حرية الإنسان ’ من حيث هو المشرع لذاته –فردا وجماعة- وفقا لما تلزم به قيمة الحرية ’وللعالم برمته بحسب ما يقتضيه مبدأ الحتمية ؟
وليس غريبا في سياق مثل هذا ان تعتبر ''الحداثة'' سوق ''أطمار بالية" ،نفرز  منها ما 'يليق بنا '' أو" ما يصلح"لنا ونترك ما لايليق ’ على نحو ما تجري عليه اغلب الأدبيات في بلداننا منذ بواكير  عصر الإحياء العربي حتى اليوم ’وهو موقف كانت فيه الوثوقية النظرية بجميع ألوانها ’الظاهرية Phénomisme والاسمانية Nominalisme والنفعية Utilitarisme والبراقماتية Pragmatisme    ’ سندا قويا للانتهازية العملية ’الأخلاقية والسياسية لذلك لبسنا ثوب الحداثة "والروح جاهلية''.
وليس غريبا أيضا أن  يأخذ التحديث – في هذا الأفق الوثوقي الانتهازي- شكل  التبشير والترويض  ’ وحمل النفس على ما لا تستطيب في تلقائية السجية  .لذلك قام  -على ارضية مشتركة- مايشبه الحرب أحيانا ’وما هو أشنع من الحرب  أحيانا أخرى ’ بين دعاة "الحداثة " ورعاة"الأصالة " ’بين العاملين على تجديد الأبنية الفكرية وبين سدنة "قيم الامة" الأوصياء على الضمائر ...ولا أجد في تنظير الأستاذ الطالبي ما يعصمه -موضوعيا - من الانزلاق الى  هذه الدرك ’ رغم أني أعلم منه مباشرة  انه  لا يرضاه - ذاتيا - لنفسه .وفي هذه الفجوة المتفاقمة بين الذاتي والموضوعي  ’يتيه قارئ الطالبي   لتشتت معاني نصوصه .فكيف يمكن أن تستقيم له دعوى التّماسف من ''الاصوليين '' وقد أخذه  -مثل أدعياء الاسلام السياسي -همّ "تحديث الاسلام '' و ''اسلمة الحداثة"(عيال الله ص 108و118) . والغريب أن الأستاذ الطالبى المؤرخ لم يع ما انتهت إليه هذه الإشكالية في ''الغرب'' ’ يوم حاول ''تمسيح الحداثة'' و''تحديث المسيحية'' ’ على اثر اندلاع الثورة الكوبرنيكية ’ ولاسيما مع قيام الخصومة الشهيرة بين أنصار ديكارت  من ناحية ’ وأنصار نيوتن من  ناحية أخرى ’أي بين تفسيرين لآلية  انتقال الحركة في الكون’ وحول ما سماها انشتاين لاحقا ''الثابتة الكونية ''La constante cosmique: هل يكون انتقال حركة من جسم الى آخر بتوسط عملية الاصطدام او ''الفعل المباشر'' كما يقول ديكارت ’ أم بتوسط الجاذبية أو ''الفعل عن بعد''كما يقول  نيوتن؟ وهل الثابتة الكونية هي "كم الحركة '' La quantité de mouvement أم هي'' كم القوة الحية'' La force vive   كما كان يسميها لايبنيتز او الطاقة الحركية  L’énergie cinétique كما نقول نحن اليوم ؟   كان ذلك حوارا رائعا  عميقا ’ من خير ما أنتج تلك الخصومة الشهيرة بين لايبنتيتز Leibniz مدافعا عن ديكارت  ’ وكلارك S.Clarcke منافحا عن نيوتن Newton .خصمان عظيمان قاما لبيان ان العلم الحديث  سواء في صياغته  الديكارتة أو في صياغته النيوتونونية ’ لاضرر منه على العقيدة المسيحية ولا على الإيمان بالله سواء تصورناه مثل ديكارت على طريقة الكنيسة الكاتوليكية ’ او مثل نيوتن  على منهج التوحيد الذي انتصر له المسيحيون القائلون بإنسانية عيسى منذ بدايات العصر المسيحي ’ ودافعوا عنه في مجمع نيقية Nicée سنة 325 م وأحياه القس الايطالي  فاستو سوسان Fasto Socin(1539-1604م  ).
وهكذا نتبيّن انه لا معنى نظريا لمسألة   "أسلمة الحداثة " ولا  لمسالة "تحديث الإسلام "  ’بل الأقرب إلى الحق أنّ هذا السؤال يجري على خيارات "ايديولوجية –سياسية "غايتها البعيدة الوصاية على الضمائر’ والتحكم في الرقاب.هو مطلب ايديولوجي يشي بمحددات  طرح الإشكالات الفكرية في ديارنا عامة :
-وأول تلك المحددات ’ وعي  مأساوي –لم يقو بعد على الجهر بالحقيقة كاملة- بأن ثقافتنا أصبحت عاجزة عن الاستجابة لهموم عصرنا .
-وثانيها وعي حاد غاضب  بتقصير الدولة الوطنية في تلبية طموحات  أجيال صاعدة ’هي من تنشئة  دولة الاستقلال  ’ولكنها شديدة الغضب على دولة الاستقلال  ذاتها ’ لأنها على حظ وافر من المعرفة’ والشعور بحقوق المواطنة .
-وثالثها تنزل هذا الوعي بالعجز الثقافي والتقصير السياسي في  عالم اختل توازنه  أكثر من أي وقت مضى  ’ حتى أن خمس سكانه يستحوذون على اربع أخماس ثروته ’فاذا عالمنا  مجالا لعولمة الحرمان .
وقد تضافرت هذه العوامل الثلاثة ’الثقافية ’والسياسية ’والعالمية  على  إنشاء ضرب من التفكير   لا يطرح قضاياه ومطالبه إلاّ في غلف ديني   ’ وفي سياق نكران انجازات الدولة الوطنية ’ والحقد  على  ''الآخر'' . وبحكم ضرورة لا مردّ لها  ’كان لابد لهذا الضرب من التفكير أن يعرب عن ذاته بضرب من الكتابة  التي غلب عليها  طابع "الاستدلال  الخطابي " والاستدراج العاطفي  ’واستثارة المكبوت ’ وتسخير   العقل لخدمة الغريزة ’كما تشهد بذلك أدبيات الإسلام السياسي عامة .
ولئن كان ذلك ابعد ما يكون من مقاصد  الأستاذ الطالبي ’ فانه لم يجتهد بما فيه الكفاية ليرسم خط الفصل بينه وبين هذه ''الايديولوجيا السائدة ''. ولعل ما يشعر قارئه بذلك انه لم يتعنّ لتحويل ألفاظه  إلى مفاهيم ’ بل اكتفي باستخدامها بما لها من شحنات دلالية شائعة .فهو يتحدث عن ''الحداثة'' و''المعاصرة'' و'التجديد '' و''التحديث '' و''الالحاد'' و'الايمان''و"الاناسة " وغيرذلك كثير’ دون  تعريف أي منها تعريفا يحوّل اللفظ إلى مفهوم ’ والمعجمي إلى دلالي ’واللغة الطبيعية إلى لغة اصطلاحية ’على ما يقتضيه المنهج السليم .

والحق –مرة أخرى- أن الأصل في ذلك كله ’ غياب الاجتهاد في الوقوف على حقيقة العلاقة الضرورية بين  الحداثة والحرية  والعقلانية .فلو ذهبنا –ولو على جهة المصادرة  الإجرائية- إلى أن الملة  الإبراهيمية برمتها ’ وفي صيغها الثلاثة ’اليهودية والمسيحية والإسلام ’ ليست ألا تشريعا للحرية المطلقة ’ لوقفنا على حقيقة لا ريب فيها ولو تنكر لها الكثير ’وهي أن الحداثة- اذا اعتبرناها من وجهة نظر دينية خالصة و بما هي جوهريا عصر الحرية باطلا ق  - ’ هي إلاّ أرقى مراحل انجاز مقاصد الملة الإبراهيمية في التاريخ  .وبالتالي فما من عصر كان فيه الإسلام مثلا في وضع أفضل مما  هو عليه اليوم –رغم أن من أبنائه من جعله يرمى من جميع الآفاق .وليس ثمة لحظة تاريخية كان فيه المسلمون –رغم بؤس أحوالهم الراهنة - في حال أفضل مما هم عليه اليوم ’ في صحتهم وتعليمهم ومسكنهم وغذائهم وأوضاعم المدنية والسياسية ’و غير ذلك من المقاييس الدولية مثل تلك التي يعتمدها ''البنود PNUD'' في تحديد درجة تقدم الأمم اليوم  . وهل من معنى "لتحديث الإسلام '' ألا باستشراف افقه الأرحب ومقصده الأسنى باعتباره تشريعا للحرية  ؟ولئن لم يكن لأحد –كما وضعنا سابقا- أن يدعي اطلاعا على المقاصد الربانية ’فانه لكل ذات مجتهدة من أبناء الملة الإبراهيمية وعليه’ أن يصغي ما وسعه الإصغاء –دون وصاية- الى  القول الرباني ’وأن ''يستفتي نفسه'' فيه .

فهل كان ''خروج آدم من الجنة نزولا به أو رفعا له؟ وهل كان انتقاله إلى الإنسانية من ''الآدمية '' التي كان لها –في الجنة – ألاّ تعرى ولا تضحى  وألاّ تجوع ولا تضمأ (طه ) على نحو ما يقتضيه "مبدا اللذة الفرويدي كما يبلوره منذ قديم الزمان ’ لقاء لقاء اوليس بكاليبسو في "جزيرة جربة" (Homère ,Odyssée, V,176-211  ,Gallimard ,Pléiade ,p625) الا بتقدير رباني ؟ إن ارتقاء آدم إلى الإنسانية  بما لها وما عليها ’ وبشقائها وسعادتها ’وفقا لما يصفه "مبدأ الواقع "في علم النفس التحليلي ’ان هو الا انجاز لما كتب الله له.فذلك " قدره " الواقع بين اتخاذ القرار  بجعل خليفة في الأرض (البقرة) واندلاع حرية الاختيار  في الوجود الآدمي "بالاقتراب من الشجرة " ليرتقي إلى الوجود الإنساني (طه)؟ألا يعني ذلك أن ما به انسانيتنا فينا  إنما هو" الحرية " بما هي قدرة على الاختيار ؟ألا تكون عندئذ تلك الحرية هي قدر الله في الإنسان ؟ وهل للإنسان   أن يخرج عن القدر الإلهي ؟ ألا يعني ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان في كونية مفهومه وكونية قيمته  ’مكره على أن يكون حرا ؟ وهل ''التقدير '' حين نصغي إلى معناه من إحداثية الحرية  إلاّ الاندراج في الزمن ’ وبالتالي في الوجود العيني ؟ ألا يكون معنى ذلك أن الحرية أساس إنسانيتنا فينا وشرط إمكان التاريخ معا ؟ ألا يكون معنى ذلك أن قدر الله في الإنسان أنه أراده حرّا بإطلاق؟ وهو ما يسلم به الأستاذ الطالبي(قضية الحقيقة ص 57)’لكن دون أي تنظير مقنع’تنحسم به الشبهات ’وتنجلي الغشاوات ’وترد به حجج المناهضين ’لاسيما حجج اولئك الذين يستندون الى القران نفسه لنفي مابشّر به القران فيكدسون ''الحجج'' لنفي الحرية  والانتصار"لللجبرية".ومما يزيد هذه النقيصة  سوءا من جهة أثارها ’ أنه لا اثر لمقالة حرية الإنسان عند الطالبي  في بلورة بقية مقالاته ’ ولا سيما في فهم  التاريخ . وإذا سلمنا باعتماد الملة الابراهيمية  تشريعا للحرية ’ فما يمكن أن  يكون من معنى للفصل بين الانطروبولوجي  واللاهوتي  ’او بين '' حقيقة  الإسلام '''والتاريخ''  أو بين  ''الجبرية '' و''القدرية'' إلى غير ذلك من تلك ''المثاني"  ’القديم منها والحديث؟ وكيف يمكن اعتماد تلك المقالة في بيان أن فذرة ''الخلق'' لاتنفي بأي حال من الأحوال فكرة ''الحرية''؟
6/ وإذا وضعنا الحرية –في أن واحد- غاية قصوى للدين ’ وجوهر إنسانيتنا فينا ’  وشرط إمكان التاريخ ’أمكن لنا أن نتجاوز سياقات خصامية لا تحصى ’منها  هذا السياق الفاسد الذي اندرجت فيه إشكالية ما يسمى سياسة "التحديث القسري'' في مقابل سياسة ''الهوية''التي ابتدعها قوم أرادوا آن يظهروا في غلف "ضمير الأمّة " دون أن يتفطنوا إلى أنّ من البر ما يكون أشد من العقوق .وما كان لهذه الإشكالية أن تطرح  على هذا المنهج  الفج ’ الا تبعا لوهم القول ''بغربية الحداثة'' ’ ولما يلزم عنه من التمييز بين التحديث الذاتي اللطيف ’ والتحديث المسقط العنيف .
والحق أنه ما من شيء يشهد لسلامة هذا التمييز.فلو جعلنا تلك المقالة حقا ’ كيف لنا أن نفسر أنّ''الغرب "الذي يعتبره البعض في شطط لا مبرر له ’ منبت الحداثة ’قاوم الحداثة اشد المقاومة ’فألزم الصمت من ألزم مثل الأب غاسندي Gassendiلمجرد تجاسره على نقد ارسطو ’وعذب من عذب   ’ مثل كامبانيلا Campanellaالذي قبع في السجن حوالي ثلاثين سنة  وغاليلي الذي سجن حتى العمى والموت ’ وحرق من حرق مثل برونوBruno’وشرد من شرد مثل ديكارت  وغيرهم كثير .وقد كانت قسوة رد الفعل –كما في جميع ردود الفعل ذات الطابع الديني - على قدر توهم ''نبل القضية'' ...
وما أتى هؤلاء جميعا من ذنب إلا  محاولة تجديد الفكر العلمي  في مستوى من مستوياته في اتجاه تجديد معاني الحرية والعقلانية .و كان ذلك العنف الغبي –عند مقترفيه- دفاعا عن'' أصالة ثقافية'' او ''عقيدة دينية'' ’ودفعا  لغزو فكري وثقافي لم يروا فيه خيرا ’ هجم على ''الغرب '' من ديار ''المحمديين '' منذ انفجار "حروب الفرنجة" .ولا مجال هنا لبيان سياسة الرقابة الصارمة التي فرضتها أغلب البلدان الأوروبية ولا سيما فرنسا وايطاليا وسويسرا على مؤلفات علمائها وفلاسفتها وأدبائها ’ناهيك أنه ما من احد من فلاسفة عصر الأنوار-اجمالا- نشر أثرا ما في فرنسا مثلا أو في سويسرا ’لا ديكارت ولا فولتير ولا روسو ولا ديدرو ...لقد عاشوا جميعا غرباء بين أهلهم ’ أو مبعدين قسريا أو إراديا.ويكفي التذكير  بمواقف جامعة الصربون ’ وبرلمان باريس وحتى ''الملك الشمس'' ’لويس الرابع عشر ’من فلسفة ديكارت ومن علمه ’ لندرك  ما عانته أوروبا من أوجاع  في طريق تحديث ذاتها قسرا .
ولم يكن العربي المسلم غريبا عن تلك ألأوجاع.فقد   لاحت تباشيرها منذ القرن الثالث عشر ’مع لقاء الأوروبي  بالعربي في بركة من الدماء سفكتها " حروب الفرنجة ". وهي دالة على أنّ مقاومة  التحديث الجواني  عن طريق الديكارتية مثلا ليس أقل وجعا من التحديث البراني عن طريق ابن رشد مثلا أخر . فمما يشهد لحقيقة هذا التيه الايديولوجي الذي أخد أوروبا سواء  زمن  تبلور  الفكر الحديث  في القرن السابع عشر ’أو زمن الإعداد له زمن الإرهاصات الأولى للعصر الحديث  ’ إدانة 1277 ’تلك التي أصدرها أسقف باريس طامبيه Tempier  تنفيذا عاجلا لأمر صادر عن بابا روما  جان 21 Jean XXI ’وكانت تقضي بمنع تداول رموز "العقلانية اليونانية- العربية " ولا سيما ابن رشد في جميع مؤسسات التربية وإنتاج المعرفة الأوروبية وخاصة  في جامعة الصربون؟
الا يعني ذلك  ان "الحداثة"  حدث تاريخي موجع لأنها كانت تشكل –موضوعيا – ضربا من الانفراق الانتروبولجي الذي  ختم  أزمنة التناظر بين الإنسان ''كونا صغيرا'' والعالم ''كونا كبيرا " ’وضربا من الانفراق الانطولوجي  الذي لم يعد الإنسان بمقتضاه  مجرد كائن طبيعي ’حتى لو كان  موضعه  في أعلى مراتب الطبيعة  "Scala naturae .وقد عبرت الديكارتية عن هذا الانفراق المزدوج بان قابلت بالحقيقة لا بالاسم أو بالجهة La modalitéبين ''الجوهر الممتد'' و"الجوهر المفكر" ’ وجعلت رسالة الإنسان أن يصبح '''كأنما هو سيد الطبيعة ومالكها'' لا مجرد امتداد لها ''يحاذيها'' ويراضيها .
تلك نقلة شاملة  في مسيرة الحضارة الإنسانية’ وفي نماذج التفكير الممتدة من عهد حمورابي وقدماء المصريين حتى كوبرنيك ’ مرورا بالمجال اليوناني (اثينا رمزا)والمجال العربي الاسلامي (بغداد رمزا ) والمجال الأوروبي اللاتيني المسيحي (باريس رمزا) باعتبارها تشكل –على تبايناتها وفويرقاتها - لحظة ابستيمولوجية واحدة  ؟ وإذا كان الأمر كذلك ’ ألا تكون حداثة عصرنا  نتيجة لتاريخ طويل ’ ما كنّا يوما عنه غرباء ؟ ألا يكون العربي  أصلا من أصول الحداثة لا مجرد منفعل بها أو من المكرهين عليها ؟
وعلى هذا النحو نقف  على تقصير ثان يخص  تاريخية حداثة عصرنا’وهو لا يعني الاستاذ الطالبي وحده . وينضاف هذا التقصير التاريخي ’في بعدين من أبعاده ’التاريخ العام وتاريخ العلوم ’ إلى التقصير الابستيمولوجي  الذي كنا اشرنا إليه  ’ والمتمثل في" نسيان''تحليل  مفهومي لفكرة ''الحداثة '' في ذاتها ’وبالنظر إلى ما توجبه من إعادة النظر في التحقيب التقليدي لتاريخ الإنسانية .ولئن كان المجال لا يتسع لبيان حضور العقلانية ''اليونانية-العربية''(اثينا-بغداد) في عمق أعمال بناة العصر الحديث  ’كوبرنيك ’وغاليلي ونيوتن  مثلا ’فانه لا يفوتنا أن ننبه إلى بعض الأعمال الجليلة  في هذا المعنى  ’منها تلك التي  أنتجها بيار دوهام P.Duhem وكواريه A.Koyré والاستاذ القدير جورج صليبا’فضلا عما كان يردده أ.كونت كلما اجتهد في فهم أسباب الثورة الفرنسية ’ فيردها بصورة متصلة لا تكاد تتغير إلى  عاملين متضافرين :عامل فكري ’ هو اقتحام "العقلانية اليونانية -العربية " المجال الأوروبي مع انطلاقة "حروب الفرنجة" ’ وبداية الترجمة من العربية إلى اللاتينية ’وعامل اقتصادي  ’ هو نشأة ''الكومونات'' Les communesوبداية انهيار النظام الإقطاعي ’ وتكوّن ''البورجوازية '' الحديثة على أنقاضه.
7/ واذا سلمنا بذلك ’ وجد السائد الفكري عندنا نفسه أمام تناقض لم يقو بعد على مصارحة النفس به :وهو أنّنا نريد أن نكون "معلمي الغرب" ’ وأصحاب فضل عليه وأصل حداثته من ناحية ’ ونحن محقون في ذلك ’ ولكنا في الوقت نفسه نتنصل –من ناحية أخرى- من" الغرب " وكأنه لم يكن من صنع أيدينا  ’ ونتبرأ من الحداثة’ وكأنها ليست من انجاز من علمناهم كيف يبنى العلم وكيف يكون البرهان العلمي ؟
ولنا أن نتساءل في ذات الاتجاه ’كيف لنا أن نزعم أنّ الحداثة حرية ’وانه لنا أن نكون "مسلمين" و"حداثيين " و"أحرارا " بإطلاق كما يقول الأستاذ الطالبي محقا ’ دون أن نحاسب أنفسنا على ماض طويل من استرقاق البشر ؟الم يحن الوقت للملة الإبراهيمية  ’يهودا ومسيحيين ومسلمين ’أن تكفّر عن ذنوب الأمس بمزيد نشر الحرية اليوم؟ أليس من البر بالإسلام اليوم أن يكون المسلم –مع غيره وقبل غيره - ديمقراطيا حتى النخاع؟ وإذا سلمنا بأن ذلك كله من شروط ''الإصلاح الحقيقي ''’فكيف نفسر تشبث الأستاذ الطالبي  في كتاب ''معضلة الحقيقة " ’ بإدانة  الباحث الذي لم يلتزم ''الإيمانية'' مثله ’أو من وضع الإيمان بين قوسين منهجيا  بصرف النظر هنا عن أهمية هذه الدعوى ’أذ لا معنى "للإيمان " أو "الإلحاد " حين يتعلق الأمر بلزوم ما يلزم في البحث العلمي ؟ كيف نفسر أنّ كل من لم يلتزم ''الايمانية الاسلامية '' كان عنده من" الضالين" سواء على منهج "السفسطائيين" او "النسبويين " او "اللاادرانيين" او "النفاتية" أو "النفاتية الاسلاخسلامية "  او "المرتد" وكأن الجميع عنده  خلعاء ’ كما جاء في التصنيف الوارد في كتاب "معضلة الحقيقة "؟وكيف للأستاذ الطالبي بعد ذلك ألاّ يكون –موضوعيا- من ''التكفيريين" ولو أنه لم يفتأ يبرئ نفسه من هذا الإثم العظيم وهو محق - ذاتيا- لطيبة  متأصلة فيه ؟ .وقد بدا لي انه أجهز – موضوعيا في هذا الكتاب –على روح التسامح التي كثيرا ما تجلت من خلال مداخلاته  في نطاق ''الحوار المسيحي الاسلامي''  حتى نسي تماما ان الله واحد وان الطر ق اليه شتى كما كان يقول  الحكماء الرومانيون Uno religio in rituum varietate أو صاحب الفتوحات المكية . 
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
ِوبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني”
8/ وفي تقديري ان هذا الصمت عن ماسي الأمس وآثامه ليس إلاّ مؤشرا على رفض –قد لايعي ذاته- لمحاسبة النفس  بقراءة نقدية شجاعة معمقة لكل ماضينا ولجميع ارثنا الثقافي وكافة مراحل تاريخنا’ وإعادة تقييم أبطالنا ورموزنا .فقد تحدث الأستاذ الطالبي محقا عما سماه في '''عيال الله''  " التحليل الاتجاهي " ولكنه لم يحدد" الاحداثية " Le référentiel التي يمكن انطلاقا منها تحديد المتجهات وبلورة إجابة ممكنة عن سؤال ابستيمولوجي أساسي : "كيف التوجه في التفكير ؟ '' . وهاهنا تدقيقا ضاعت على الأستاذ الطالبي فرصة إحداث القطيعة ''الابستيمولوجية التي طلبها دون أن يفوز بها إلا في القليل الذي لم يكن أكثر من هماهة نفس ’ مثل التمرد على مكانة عمر  في التاريخ أو في الخيال الإسلامي  .فالموجّه الابستيمولوجي  عند القائلين بالقطيعة ارتداديRécurrentiel كما يقول علماء الرياضيات’ ينطلق من الحاضر ليفهم الماضي ’ على معنى أن الحاضر بقيمه ومفاهيمه وانجازاته هو الذي ينير الماضي الماضي ’ويفسر وقائعه و يضفي معنى على قيمه ’ويبين انه ليس للأموات –مهما كانت مواقعهم - أن يحكموا الأحياء وان كان الواجب منهجيا أن نستأنس بهم على الدوام’  لا باعتبارهم شهداء على ''الحقيقة'' ’  بل باعتبارهم تجسيما لأنماط  من التفكير لنل وحدنا الحكم لها او عليها  .
وإذا انتهجنا هذا المنهج  كان لنا أن نخلص نهائيا من كرب نفساني عظيم ’ سببه دعاة'' التأثيم '' الكوني  الذين نغصوا حياة البشر باتهامهم بالخروج عن الإرادة الربانية والغرق في الآثام والتأخر لبعدهم عن "شرع الله''.
وليس كالتأثيم بدعة أضلّ بها القديس  أوغستين  المسيحية ’ وتبعه في تلك الضلالة الكثير من المسلمين من حيث لا يحتسبون ولو بصور ملتوية ’ ولكنها مباينة كل المباينة مع النص القراني المبين الذي أكد أن آدم تلقى ''من ربه كلمات فتاب عليه'' ... لذلك صار التأثيم عند دعاة الفريقين تقنية جهنمية من تقنيات  الاستيلاء على النفوس الساذجة ’ والسيطرة على ضعفى الإرادة.ولنا أن نذهب إلى أنه لو أنّ الفكر العربي الإسلامي وضع الحرية الغاية الأعلى للإسلام - ولو على جهة الفرضية المنهجية – لتخلّص من ايديولوجيات التأثيم  التي هي في حقيقتها  إيديولوجيا وثنية ’تدور على معنى بنيوي لم يتغير  :اتهام الإنسان  وتبرئة الآلهة.
وممّا يشهد لوثنيتها صلاة سيبيون Sipion على ابواب قرطاج بعد أن قهر جيشها  .غير انه ما كان له أن يدخلها –وفقا للتقاليد الرومانية القاضية بإكرام  آلهة الأعداء-  إلا برضى   آلهة قرطاج .غير أنه ما كان لإلهة قرطاج –مثل بقية الآلهة - أن  تخون'' العهد '' الذي بينها وبين القرطاجنيين ’ إلا لثبات  تقصير منهم في حقها ’حتى يكون   جزاء نسيانها نسيانهم والتخلي عنهم ’وتسليمهم للغزاة’ على ما تشهد به كتابات  المؤرخ التونسي ماكروب ابن مدينة الكاف (Macrobes ,Saturnales ,III,9 ) .فاتهام القرطاجنيين  بنسيان حقوق الآلهة عليهم’ وإهمال شرائعها فيهم ’ هو مضمون سياسة التأثيم التي انتهجها سيبيون الروماني الوثني في صلاته لآلهة قرطاج ’لأن الإثم  موجب لإلغاء ''العقد''و لسقوط الحماية .وعلى العكس من ذلك  كان من" الطبيعي " وهو الأخطر- أن  النهوض لا يتمّ إلا بالعود إلى الإلهة والتوبة إليها’ويعني ذلك عمليا ’ الخضوع لسدنتها  تقديرا من ''الجاهليين '' أمس  ومن ''الاسلام السياسي '' اليوم انه '' لايصلح حاضر الامة الا بما صلح به ماضيها" ’والحق أنه لا يصلح حال الأمة اليوم الا بتجاوز ما كان به صلاحها أمس لان التاريخ لا يعبر النهر ذاته مرتين .ولئن كانت للاسلام السياسي اليوم سطوة فلأن للباطل جولة  وأن الظلال تتمدد على قدر  ما تميل الشمس نحو المغيب !
وما كان لسياسة التأثيم هذه في الوثنية القديمة كما نجد أصداءها في سفر الملوك من العهد القديم (الاصحاح 17 الاية  24 وما يليها)’او في فلسفة ''مدينة الاله" للقديس اوغستين )Saint Augustin ,La cité de Dieu ,Gallimard ,Pléiade ,  livre XVI !XXVII - §XXXVI –Livre XX §VI او في دعاية الإسلام السياسي ’ أن تستولي على النفوس ’ لو وضعنا الحرية ركنا وثيقا للعقيدة الدينية ’ ولبانت أمامنا حقائق على غاية من الخطورة ’منها إصرار الضمير الإسلامي على تبرئة نفسه  من إثم الخطيئة الأولي ’  حين تخيل أو أبلغ ما أجاب به ادم ابنه موسى يوم لامه  على ما أتى من فعل شقت بسببه البشرية .قال آدم:"أنت الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وكلامه أتلومني على أمر كتبه الله تعالى عليّ قبل أن يخلقني ؟" قيل :"فحاج أدم موسى"
ويكفي بعض التأمل لنقف هاهنا –بصرف النظر كليا عن الإيمان والإلحاد- على الفصل البيّن بين "لحظة الماهية "البشرية كما ارادها الله في المشروع الأصلي (قبل ان يخلقني) ولحظة الوجود الفعلي الّتى بها انجاز محددات تلك الماهية  في التاريخ .فوجود الإنسان إنما هو  تحقيق ماهيته  ’وماهيته هي ما به يكون المعنى في وجوده . وإذا سلمنا بان حقيقة تلك الماهية إنما هي الحرية  ’أدركنا ان علم اللاهوت  وعلم التاريخ والانطروبولوجيا وكل ما له تعلق من معارفنا بالإنسان إنما هو -في أخر التحليل- نظر في تحقق الحرية في التاريخ وفي تصيّر المطلق في النسبي .
وإذا كان ذلك كذلك أدركنا انه لامعنى للقول بالتقابل ببن الدين عقيدة متعالية ’ والتاريخ   مغامرة إنسانية فيها من البؤس على قدر ما تلقى الحرية من مصاعب في تحققها .وللمؤرخ خاصة والمجتهد عامة أن نتساءل – في هذا السياق   - عما اذا لم يكن غياب الحرية من أهمّ أسباب  ما أصاب الحضارة العربية والإسلامية من الوهن؟ فهل يمكن أن يؤتمن على  تلك الحضارة " خلفاء " اغلبهم من أبناء "أمهات الولد" كما نتبين ذلك مما كتبه السيوطي أو ابن حزم الاندلسي مثلا ؟ وهل "لأمة " تركية الأصل أو فارسية أو رومية أو أمازيغية –وقد أصبحت صدفة في بيت ''الخليفة ''أو "أمير المؤمنين" أم ولد أي أمة لا تباع ’ أن تربي ابنها على حب حضارة  تجرعت فيها طول حياتها مرارة الرق’ وذل العبث بكرامتها الإنسانية ؟ وهل لعاقل أن ينتظر من جارية –ولو عاشت في نعيم ''خالصة ''- إن تربي ابنها على حبّ من  عذبها ؟ الم تنسنا حكاية ''وامعتصماه'' ما فعله المعتصم  بالعرب في بغداد قلب العروبة والإسلام ’ إرضاء لأخواله الأتراك الذين عاثوا في بغداد فسادا ’ وجعلوا العربي غريبا في بيته ؟ وهل تكفي "سامرا"لإبعاد شبح الاهانة  ورتق الجراح العربية النازفة حتى اليوم؟ وكيف لم يستوعب العربي المسلم  دروس الإماء الموجبة؟ فالأمة لا تدخل قصر الخليفة الا بمهارات جدت في اكتسابها ’ تنضاف إلى خصالها الطبيعية ’ كالغناء ورواية الشعر والرقص  وحفظ القران والحديث  أي باكتساب ثقافة ممتدة معمقة تمتاز بها 'الامة''  عن ''الحرة'' .ولا يبدو أن العربي أدرك بما فيه الكفاية أن تحصيل العلم من شروط الارتقاء  في الوجود’ والزيادة في الحظوة الاجتماعية .وهل  لنا أن نأمل خروجا من أوضاعنا الحرجة اليوم ’ونحن لم نزل –في الايديولوجيا السائدة - ننكر على المرأة ابسط حقوقها الإنسانية والمدنية ’ونصرف من الوقت والطاقة ما لا حد له ’ في المفاضلة بين ''النقاب ''و''الحجاب"  ’ و"كرامات الخفاض "’ ونجهد أنفسنا  في سبيل إقناعها بفضائل " لزومها  قعر دارها " ونحملها تبعات تفشي البطالة  في صفوف "أبنائنا"؟
9/ ويبدو أن في تلك السلوكات التي زادتها الفضائيات  انتشارا وتمكنا من الأذهان والوجدان’  ما يشير في جلاء إلى أن الكثير منا  لم يفهم بعد لا الحرية ولا العقلانية بما هما الركنان الأوثقان اللذان قام عليهما بناء حداثة عصرنا وشرطان متلازمان  ضروريان لاكتساب ما به قوة الأمم اليوم.ومن علامات حضور رفض النقد الذاتي في صلب نظرياتنا ’أننا  نعدّ الحرية والعقلانية من مكونات مفهوم الحداثة  ’ونحن محقون في ذلك ’ لكننا لا نتساءل عما إذا كان ذلك يعني –ولو ضمنيا- - انه لم تكن ثمة حرية ولا عقلانية قبل العصر الحديث ’ ولا نتفطن إلى ما قد تلتئم عليه تلك الضمنيات الصامتة من أخطاء فادحة ’ كأن نعتبرارسطو’"المعلم الأول "و شيخ العلماء  في العصرين القديم والوسيط غير عقلاني . ولعل الأخطر-في تقديري - ما تشير إليه تلك الضمنيات في تخف- وهو أننا لم نميز بعد بين عقلانية القدامى وعقلانية المحدثين ’ كما لم نميز  بين حرية القدامى وحرية المحدثين ’وكأن التواصل المعجمي ضامن للتواصل الدلالي .وهو تمييز ضروري لفهم اسباب تعطل اشتغال أطرنا الثقافية وقعودها عن فهم العصر .
وليس رفضا اشدّ وقعا من هذا الرفض اللاشعوري  الذي يمنع عنا الوقوف على التحولات التاريخية والابستيمولوجية الحقيقة التي تغير مجرى حياة البشرية  نظرا وعملا . وما ذلك الإهمال إلا من أننا لم نكلّف أنفسنا بادئ الأمر طرح سؤال ماهية حداثة عصرنا .وكيف لنا أن نقف على هذه الفوارق الدلالية ’ ما لم نقف على معانى العقلانية الحديثة عند صانعيها  وفي آثارهم وانجازاتهم ’كوبرنيك وغاليلي وديكارت  وكانط  خاصة ؟ وما دام الفكر العربي والإسلامي لم يستوعب تلك ''الثقافة '' ظل سعيه إلى "التحديث " أبتر ’وفي الغالب ''نفعيا'' ’ يستهلك إنتاج العلم دون اكتساب الروح العلمي  ’ويقبل على المنتجات التقنية دون امتلاك الفكر التكنولوجي ’ويرد ديمقراطية ''المحدثين'' الى "شورى '' القدامى .وهل أدل على ذلك من أن العربي كان بالأمس البعيد ’ يتغنى  ''بالحسام المهند'' ’ وهو اليوم يتباهى بما اقتناه من أسلحة "حديثة غربية'' حتى لكأنّ حداثته تقاس بقدرته على تبديد ''ريعه ''’ فاتخذ العالم العربي المسلم  هزؤا.
10/ ولنا أن نأخذ الامر من عل فنتساءل :ما الفرق بين نظرة  العالم للعربي المسلم في القرن الخامس ميلادي ونظرته اليه اليوم ؟ .أورد البيهقي في هذا الشأن مايلي :
ان اليهود بحبها لنبيها **أمنت معرة دهرها الخوان
وذوو الصليب بحب عيسى **أصبحوا يمشون زهوا في قرى نجران
والمؤمنون بحب أل محمد **يرمون في الافاق بالنيران
إن غياب العقلانية والحرية في الأبعاد الغالبة اليوم على ثقافتنا كان لها أسوأ النتائج على واقعنا اليومي. فقد ظلت أرضنا مهدا لكل واطئ. وفي انتهاك شرف الأرض ذهاب لشرف العرض، وإن عاندنا.ولا يبدو لي ان بورقيبة –رحمه الله- أراد غير ذلك ,وبالتالي فما كان للاستاذ الطالبي ان يظلمه كما ظلمه الجهلة(مسألة الحقيقة ص 51 وما يليها). وهل من معنى –بوجه أعمّ – لمقال مثل هذا :" الكافر له الحق في ان يكون كافرا حرّا ’له كل حقوق المواطنة بشرط أن يكون صريحا يفخر بكفره علانية ’لا يخادع ولا ينافق''؟ولا حق في الغضب  لمن رشح نفسه لتجديد فكر الأمّة ...
ويبدو لي أن ما لم يفهمه الطالبي عن بورقيبة موقفه الحضاري الأصيل القائل بأنه  ليس من سبيل حقيقي لتحرير الأرض وحفظ العرض ’ إلا باكتساب ما به قوة الأمم اليوم: العقل المستنير والإرادة الحرة  والعمل المنتج.ولئن لم يفعل بورقيبة  الكثير من أجل  الديمقراطية - مثل جميع رؤساء البلدان التي تحررت من الاستعمار المباشر   في عهده-  ’فانه قام بالواجب في اتجاه تحقيق الشروط الموضوعية لانفجار الحرية  في عمق الذات الوطنية ’ وهو ما تحقق فعلا يوم 14 جانفي 2011 ’الذي يعد –موضوعيا – أرقى مكاسب الدولة الوطنية وان لم تقصد اليه ذاتيا .''فمكر التاريخ'' يقوم أصليا على بون متراوح الخطر بين ''الوعي الذاتي'' و''الحقيقة الموضوعية'' .ولا ريب ان "الشعوب تصنع التاريخ ’ولكنها لا تعرف دائما ايّ تاريخ تصنع''كما كان يقول كارل ماركس .فهل فوت الطالبي المؤرخ على نفسه الصادقة معنى أساسيا من معاني ''علم التاريخ''؟
ومهما يكن من أمر فان سبيلنا إلى غدنا –شعبا تونسيا  وأمة عربية وعقيدة إسلامية-إنما هو السبيل الذي سطرته "ثورة شباب مدرسة الجمهورية'' ’ثورة "الشغل والحرية والكرامة الوطنية '' ’بما هي تعبير قوي أمين عن روح الحداثة . وإن تلكأنا في انجاز تلك المطالب الراقية   بالكم اللازم والكيف الواجب من العقلانية والحرية ’فستظل أرضنا تنادي أعداءنا على مرأى منا لتفجير خيراتها بما لهم من وسائط  مادية ورمزية. فنحن لم نستعمر أمس استعمار مباشرا إلا لأن أوضاعنا كانت " قابلة للاستعمار" ، ونحن لن نتحرر اليوم من التبعية أي الاستعمار غير المباشر، إلا إذا هيأتنا أعمالنا’ وقدّرنا كسبنا على التحرر. ويكفي أن نساءل أنفسنا عمّا يمكن للعربي اليوم أن يفعل بالنفط مثلا إذا ما رُدّ إلى مستطاعه الذاتي تقنيا وعلميا؟ ما ذا سيفعل به وهو لا يصنع السيارة ’ ولا يبني المصانع’ ولا يركّب مواد التجميل ’ ولا حتى ينسج الأقمشة بأدوات من إنتاجه الخ...؟ ولنا أن نقارن بين ثمن شراء برميل النفط  وثمن تسويقه مصنّعا في شكل أدوية وأقمشة وأدوات تجميل ولعب أطفال وغير ذلك كله من المنتجات التأليفية فضلا عن الطاقة المحركة، لندرك حجم القيمة المضافة التي يغير بها الذكاء الإنساني  المعطى الطبيعي والتي يحققها غير العربي من أرض العربي، حتى لكأنّ مكنونات  أرضنا لا تفيض خيرا إلا على غيرنا. وما كان لذلك أن يكون لو أننا  تعلمنا كيف  نصغي  لنبض أرضنا وكيف نجعل ثقافتنا تستجيب لندائها. وما كان لذلك أن يكون لو أصغينا بآذان واعية لنبض القلب العربي وأشواقه إلى التحرر والتقدم.

حمّادي بن جاءبالله
جامعة تونس 

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.