أخبار - 2017.05.29

زمـن تـوفـــيـق بــكّـار

زمـن تـوفـــيـق بــكّـار

الجمعة 18 أفريل 1986، منّوبة، السّادسة مساء، كلّية الآداب في قبضةِ حراسةٍ أمنية خانقة، لم يغادرها أحدٌ منذ ساعات الصّباح الأولى، سيّاراتُ «الجيب» القليلةُ الرّابضة خارج المبنى كانت كافية لإحكام الطّوق، طلقات بيضاء فوق رؤوس المحتجّين الرّاغبين في مغادرة الكلّية بالقوّة كانت كافية أيضا لإرجاع الجميع إلى الوراء، جرت بعض التّرتيبات «الإنسانية» المعمول بها في مثل هذه المواجهات كإخراج الفتيات الأنيقات وطلبة أقسام اللّغات «العاقلين»، ثم صُفّف الباقون، «البروليتاريا» في صفّ طويل للتثبّت من هويّاتهم عند الباب الصّغير، الطّابور كان طويلا وبطيئا، والواقفون فيه كانوا عرضةً لكلّ أنواع السبّ والشّتم والاستفزاز. لكنْ لو تثبّتَ مليّا لرأيت وراء خوْذات أعوان البوليس في مواجهة ذلك الطّابور صفّا من أساتذة قسم اللّغة العربية رفضوا مغادرة الكلّية قبل أن ينتهي مشهدُ التفتيش والاعتقال المهين هذا، ووقفوا تضامنا مع الطلبة، يومها رأيت توفيق بكّار كما لم أره من قبل.

مضى زمـــن على ذلك الزّمـن، وتعـــاقب على نفـس ذلك الممشى آلاف من أبناء هذا الوطن، كلّ ما جرى يتحلّل شيئا فشيئا في بحر السّنوات الطّامي، وهاهي مشكاةُ الأنوار منتصبة في ذلك المكان الذي تقاسمنا فيه جميعا الإهانةَ والصّبرَ والاحتمالَ، ظلّت ذكرى ذلك اليوم الطّويل عالقةً في غصن من أغصان شجرة العمر، صورةً حيّة متوّهجة في ركن من أركان الذّاكرة وزاوية مـــن زوايا القلب، صورة المساء يلقي بمعطفه الأسود على الكلّية وهي تتأهّب للنّوم في أحضان الحقول، شاحنات البوليس والقابعون فيها تحت خوذاتهم مع الكلاب المدرّبة ينتظرون، الحافلات الصّفراء وغرف المبيت الجامعي الذي سيحطّمه البوليس ليلتها ويعتقلون من فيه، سي توفيق بنظرته الثاقبة وهدوئه الأسطوري ودخان سيجارته الروايال، عون الحرس الذي طلب منـي سيجارة بعد المرور بإجراءات التفتيش، وعندما قرّبت منه عــود الثقاب ليشعلها انحنى وهمس لي: لا تذهب إلى المبيت!.

في تلك المرحلة التي بدأ فيها نظام دولة الاستقلال يتداعى للانهيار، كان سي توفيق أحد أساطير كلية الآداب وقصصها التي يصعب أن تفصل فيها بين الحقيقة والإثارة والخيال، المثقّف اليساريّ الهادئ الرّصين، الغامض أحيانا، غربال عيون المعاصرة، المتحمّس في درسه أبدا للأدب التونسي المعاصر، أدب الدّوعاجي وخريّف والمسعدي والطّليعة، كان أيضا المغامر الجريء في تطبيق المناهج النقدية الحديثة التي تشبّع بها في الغرب على أمّهات النّصوص القــديمــــة، نصـــــوص بن المقفّع والجاحظ والهمذاني وبن طفيل، فكان درسه الجامعيّ مخبرا حقيقيّا لإعادة اكتشاف التّراث، علاوة على كونه من أمتع دروس قسم اللّغة العربيّة وآدابها لفرادة أسلوبه وتميّز شخصيّته، كان النّموذجَ الأبرز لجيل المُؤسّسين.

لو عادت بنا الذّاكرةُ إلى ربيع سنة 1962، لرأيناه شابّا في الخامسة والثلاثين من العمر، لم يمض على قدومه من باريس مبرّزا في اللّغة والآداب العربية إلاّ سنتان، ها هو في مقرّ مجلّة «التجديد» مع المنجي الشملي وصالح القــرمادي والشــاذلي الفيتوري وعبد القادر المهيري، والبشير التّركي وعبد المجيد ذويب ومحمد اللعواني أعضاء هيئة التّحرير، بين أيديهم مخطوط العدد العاشر الذي تختتم به المجلّة سنتها الأولى جاهزا للذهاب إلى المطبعة، غمامة الحزن الثّقيلة التي خلّفها رحيل صديقهم الدّكتور محمد فريد غازي لم تُبدّدها إلاّ أنباء توقيع اتّـفاق وقف إطلاق النّار بين فرنسا والجزائر، «هنيئا للجزائر المناضلة!» كان لابدّ من إضافة فقرة أخيرة بهذا العنوان في إطار بارز قبل الفهرس ليكتمل العدد، لقد كان زمنَ الأحلام الكبيرة، الزّمنَ الذي بدأ فيه غيلان ينشئ سدّه ليروي الأرض الموات ويشقّ في الفجاج الصّلدة أفقا جديدا، منذ 1959 عندما كان صالح القرمادي والمنجي الشملي يدرسان معا في «بوردو» ويلتقيان في باريس مع توفيق بكار والآخرين ولدت فكرة «التجديد»، ثــم رأت النور في تونس بذرة مشروع ثقافي كــامل وراءه نوع من التّحالف السّياسي ينفي عنه توفيق بكار المعنى الفجّ والرّخيص للسّياسة، بل يصفه بأنه «تحالف بين عناصر مثقّفة تقدّمية في الحزب الدستوري وعناصر شيوعيّة وأخرى مستقلّة يريدون أن يعطوا في فاتحة عهد الاستقلال مساهمتهم الخاصّة في تنشيط الحياة الثقافيّة والفكريّة التونسيّة». سئل المنجي الشملي: لماذا التّجديد؟ فأجاب: «الغرض من إنشاء المجلّة كان الدّفاع عن الأفكار الحرّة»، وأضاف: كوّنا مجلّة «التّجديد» بأموالنا الخاصّة، وقد اقترح أحد الوزراء المساعدة غير أنّنا رفضنا ذلك، وقد قيلت عنا إشاعات وصلت إلى الرّئيس بــورڤيبة الذي كان مـــن الذّكاء بحيــث لا يقبل الإشاعات حتى أنه عندما سافر إلى نيويورك سأل عنّا أحمد بن صالح فقال عنّا إنّنا جماعة تريد أن تفعل شيئا في تونس». وُلد التّجــــديد في أكنـــاف هذا التّحالف الوطني التّقدمي بين دساترة وشيوعيين ومستقلّين، يقول بكّــــار: «سمّيناها بذلك الاسم لطموحنا في المساهمة في تجديد البلاد، وفي معاضدة حركة البناء والتّشييد التي كانـــت تقوم بها الدّولـــة التّونسية الفتيّة على جميع الأصعدة الاجتماعيّة الأخـــرى وكان العنــوان موافقا لروح تلك الفترة».

روح تلك الفترة روح العــــزم والتّأسيس، وسيكـــون هؤلاء الشبّان العائدون من فرنسا أشدّ تعلّقا بالجوهر الحضاري التونسي الأصيل في اللّغة والهويّة والكيان، تشهد على ذلك كلمتهم في افتتاحية هذا العدد: «مازلنا في يقظة مستمرة لاستكمال سيادتنا القومية في جميع الميادين، كي يتحقّق بعث الشخصيّة التّونسيّة بأصالتها وطرافتها فتبني مجتمعا عادلا قائما على المساواة والديمقراطية». والحقّ أن لهذا التّشبّث بالرّوح التونسيّة تمثّلات إبداعيّةً تُوسّع نطاق التّحالف الثّقافي التّقدمي الذي انبنت عليه «التّجديد» لتكوّن تيّارا إبداعيا كاملا يشتمل على روافد أخرى، ففي إجابــــة عـــن سـؤال طرحته المجلّة في هــذا العــدد عن «دور رجل الفكر في تونس آنذاك؟» ختم البشير خريّف إجابته بموقف طريف يُجمل مذهبه في الأدب والحياة، يقول: تذاكرنا في بعض المجالس الأدبَ المسرحيَّ فقال أحدنا كيف نضع الحياة التّونسية على المسرح؟ وهل يمكن أن نجعل امرأة تتبختر على الرّكح وفي رجلها قبقاب! غفر الله لك أيها الأخ! ليتك تصغي إلى لغة القباقيب على رخام وسط الدار لعلمت إذن خفّة من تحمل!».

لكن الإصغاء إلى لغة القباقيب لم يكن هيّنا في ذلك المناخ الثّقافي، بل أدّى الأمر إلى مواجهة تشبه الصّراع الذي شهدته مرحلة الثّلاثينــــات بين المُحـدثين والمُحافظين، وسرعان ما وجد البشير خريّف نفسه في مواجهة تهمة استبدال العربية بالعاميّة لاستعماله اللّهجات المحلّيـــة على ألسنة أبطال قصصــه، وسيجد توفيق بكار في طليعة مناصريه، «طالبنا بحريّة الأديب في استعمال اللّغة بالطّريقة التي تساعده على إبداع فنّه»، ولم يكن انتصار سي تّوفيق للبشير خريف والدوعاجي والقرمادي والحبيب الزناد طيلة حياته الأكاديميّة إلاّ انتصارا للحرية وتأصيلا للفعل الإبداعي في مناخه الشّعبي الذي يستمدّ منه الحرارة والصـــدق، بطــــرافته المحبّبـــة، اختتــم مرّة درسا جامعيّا بالحديث عن نظريّة قتل الأب قائلا: إنهم ينسون دائما الحكمة التونسيّة البليغة: «اقتلوا يصبح حيّ!».

«أحبّك يا شعب»، هي كلمة السرّ التي اعتصمت بحبلها جماعةُ التّجديد، ملخّص عقيدة الجيل المؤسّس بمختلف روافده، «إلى جانب اضطلاعنا بمهنة التّعليم اخترنا أن نقوم بعمل ثقافي نحاول فيه أن نتفاعل مع الشّعــب من حيث هو غاية وبدون أن نعتبر أنفســنا قد بلغنا قمّة الحكمة والمعرفة ونسعى إلى إرجاع الإنسان إلى إنسانيته، شعارنا في ذلك الجدّية في العمل والإخلاص إلى الضّمير الثّقافي والثّبات على المبدإ وصفـاء الطّوية ومحبّــة الشّعــب». لا يُخفي توفيق بكّار أنّ روح محمود المسعدي، متجلّيةٌ في الجماعة وأنّ تجربة مجلّته «المباحث» التي توقّفت سنة 1947 كانت ماثلة في أذهان الجميع، المسعدي الذي أهدى رواية السدّ إلى روح المرحوم فرحات حشّاد «أخوّة وفاءً لإنسان».

هذه العقيدة هي التي ينهض عليها التزام المثقّف التّقدمي بأعباء الوطن: «حياة العامـــل الفلاحي في واحـــات الجنـــوب وبأريافنا وحيـــاة الكـــادحين في منــاجم الجريصة والمتلوي والمضيلة وأم العرايس.. وحياة صغار الموظفين وتفاعل كل واحدة منها مع حيــاة المالكين العقاريين ومديري الشركات وكبار التّجار وسامي الموظّفين، أليس هذا من نوع المواضيع التي ينبغي أن يلتزمها المفكّر التّونسي اليوم؟» هكذا يتساءل جماعة التّجديد في تناغم عجيب مع السّلطة السياسيّة ممثّلة في الأستاذ الشاذلي القليبـــي كــاتب الدولة للشّؤون الثقافية والأخبار آنذاك إذ يقول في محادثة أجراها مع الجماعة: «أنا أعتقد أنه لابدّ أن يؤمن المثقّف بنوع من الالتزام، فالمثقّف في تونـــس يشعــر أننا نعاني التخلّف في شتّى مظاهره، ولا بدّ له من أن يُعين على الخروج منه، والالتـــزامُ لا يعني انعدام الحرية والاستقلال». لكن رغم إشادته بالدّور الذي تقوم به المجلّة ودعوتِه إلى المحافظة عليها لم تستطع هذه التجربة الصّمود أمام أول عاصفة هوجاء اقتلعت جذور الوفاق.

شهدت نهاية 1962 مؤامرة انقلابية ضدّ الرئيس الحبيب بورقيبة، فكانت مناسبة لتجميد نشاط الحزب الشيوعي لمواقفه المعارضة بحدّة للسياسة الرسمية، سُلّطت ضغوط على الشقّ الدستوري في هيئة تحرير التّجديد، كما يروي توفيق بكار، بهدف إيقاف تجربة هذه المجلّة المستقلّة، فنوقــــش الأمـــر بين الجماعة، ودافــع توفيق بكار وصالح القرمادي عن ضرورة الاستمرار في الصّدور وعدم الارتهان للمتغيّرات السياسية، لكن المجلّة توقّفت رغـــم أنـــه لم يكن هناك قرار سياسي ولا بوليسي بتوقيفها، لكن المنجي الشملي يبرّر ذلك بقــوله: «لقــد طـــردَنا الاتّحـــاد العــــام التّـــونسي للشغل من مطبعته على أساس أنّنا لسنا منسجمين معه في الرؤى والأفكار»، وهكذا انتهت واحدة من أجمل تجــــارب النّشر الثّقافي في تونس.

رمادُ تلك التجربةِ الأولى، تجربةِ التّحالف الممكن مع كل القوى التّقدمية تحت راية الالتزام بالوطن والإنسان، لم يزد الأستاذ توفيق بكّار إلاّ تشبثا بالقيم التي آمن بها ودافع عنها وناضل من أجلها، حدث ذلك في ساحة العلـم والمعرفة، وهاهــو عبد السّلام المسدّي يصفه في كتابه «تونس وجراح الذاكرة» بأنّه «رمز من رموز المناخ الجامعي من حيث هو إنجاز يقف النّظام السّياسي أمــــامه بإجلال وامتثــال». لقد استطاع جيل المؤسسين تحصين مؤسّسة العلم والمعرفة والحفاظ على استقلالية قرارهـــا حتـى في أحلك الظّروف، يقول المســـدّي: «كان بيننــا ميثـــاق صــامت: لا سلطة تعلو فــــوق سلطة العلم والمعرفة وكان توفيق بكّار المحاور العقلاني بامتياز ويدير بمهارة فنّ المعادلات الصعبة: لا يهادن ولا يصادم.»

لقد انفصل توفيق بكّار في وقت مبكر عن الحزب الشيوعي لكنّه ظلّ ماركسيّا إلى آخر يوم في حياته، لأنّ الماركسية عنده هي «فلسفة ورؤية للمجتمع ورؤية للتّاريخ ورؤية للإنســـان في الكون»، الماركسية أدوات للتحليل وليست حلولا منجزة وقوالب جامدة يمكن تطبيقها في كلّ مكان وكلّ زمان، يقول بتحمّس في حواره مع حسن بن عثمان نهاية الثمانينات بعدما انهارت قلاع الشيوعية: «الماركسية ابتكار لشيء جديد نحن مسؤولون عنــه لا غيرنا» فلا بديل عن الاشتراكية كأفق من آفاق تطوّر مجتمعنا وتطوّر الإنسان فيه، ورغم هذا التشبّع بالمبادئ الاشتراكية لم يعد بكّار إلى تجربة الحزب ولم يضع يوما قدميه في السلطة، عَبَر نهرَ حياته بسنواتها التّسعين محفوفا بمحبّة كلّ من تتلمذ على يديه جزاء لإيمانه العظيم بنبل وظيفة الأستاذ وهو أمر أخذ يتلاشى شيئا فشيئا في ظلّ تنامي القيم النفعية، كان الدّرس الجامعيّ لديه فعلا إبـــداعيا، وجــوهرا للفعل الثقافي حتى صار تحليل النّصوص الأدبية إبداعا لا يقلّ أصــــالة عن إبداعها الأصلي، أمّا المثقف فهو رجل المعاناة في المجتمــــع لأن المجتمعـــات لا تعــترف بمبدعيها ومثقّفيها إلاّ بعد موتهم، ويتمثّل في هذا بقول الدّوعاجي «عاش يتمنّى في عنبة مات جابولو عنقود»، لكنّه يؤمن أنّ المثقف إذا «استطاع أن ينتصر في صراع قيمتي المال والجمال النفعية والإبداعية فإنّه يكون جديرا بصفته كمثقّف ويكون حقّق لنفسه راحة الضمير لكونه ساهم من موقعـــه العظيـــم الحيــويّ في دفع بلاده إلى الأمــــام وإلى الأعلى وفي تطوير الإنسان».

عامر بوعزّة

المراجع:

توفيق بكار، في الموجود والمنشود حـــوار مع حسن بن عثمان، دار سيراس للنشر 1990

التجديد، العدد10 السنة1 مارس 1962

عبد السلام المسدي، تونس وجراح الذاكرة 2011

حوار مع المنجي الشملي بجريدة الصحافة أجراه حسونة المصباحي وكمال الهلالي 2010

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.