أخبار - 2017.05.16

إيمــانوال مـاكـرون أو فرصة فرنسـا الأخيـرة

إيمــانوال مـاكـرون أو فرصة فرنسـا الأخيـرة

لقد نجت فرنسا إذا من أن تقع فريسة ثالثة في قبضة الشعبويّة بعد بريطانيا والولايات المتحدة. وقد رأى البعض أنّ انتخاب إيمانوال ماكرون، مرشّح القوى الوسطية، على حساب مارين لوبان، مرشّحة حزب الجبهة الوطنية اليميني، بفارق كبير يمثّل كبحا جديّا لجماح الشعبويّة في البلدان الغربية. ولئن كان من الطبيعي أن تستبشر قوّى الاعتدال المناهضة للتيّارات القومية بانتصار ماكرون، فإنّ من الخطأ التقليل من شأن النتيجة التي حقّقتها مارين لوبان، والتي عبّرت عن تطوّر ملفت في السّاحة السياسية الفرنسية..

لاستيعاب التّغيير ينبغي البدء بالتّذكير بمـا حصــل يــوم 21 أفريـل 2002 حين استطاع جـــون مــاري لوبان، زعيم الجبهة الوطنية حينها، أن يدرك الدّور الثاني من الرئاسيات على حساب ليونال جوسبان مرشّح الحزب الاشتراكي. لقد هيمن الشّعور بالصّدمة حينئذ على الرّأي العام الفرنسي. وكانت ردّة الفعل عارمة، وحّدت أمواجها جميع مكوّنات الطيف السياسي من يمين ويسار. فنزلت الألوف المؤلّفة إلى الشارع تعبيرا عن رفضها لليمين المتطرّف وعن قناعتها بتناقض الديمقراطية الفرنسية مع توجّهاته العنصرية. وكانت النتيجة أنّ مرشّح هذا الحزب لم يحصد تقريبا أيّ صوت جديد في الدّورة الثانية.وهو ما يعني أنّه اكتفى بأصوات من كانوا قد دعّموه في الدور الأوّل.

وها نحن بعد خمس عشرة سنة نعيش حــدثا مشابها ولكـــن ردّة الفعل كانت مختلفة بشكل جذري. فقـد كـان الرّأي العام الفرنسي مستعدّا كلّ الاستعداد لحضور مارين لوبان في الدّور الثاني بل إنّ بعض السياسيين الكبار قد ذهبوا حتى إلى الدّعوة إلى تصويت لصالحها وحتّى مرشّح أقصى اليسار، جون لوك ميلونشون، الذي طالما قدّم نفسه على أنّه العدو اللدود لليمين المتطرّف، فإنّه بدا أكثر تأثّرا بهزيمته الشّخصية منه بالخطر القومي الدّاهم، فامتنع عن دعـــوة أنصاره إلى قطع طريق الإليزي أمـام مارين لوبان. ولذا يكون السؤال ماذا تغيّر في السّـــاحــة السياسية الفرنسيّة؟

لا شكّ أنّ مارين لوبان كانت أقدر من والدها على تقديم صورة إيجابية للجبهة الوطنية، بما ساهم في فرض مقبوليتها لدى جزء أكبر من النّاخبين. ولكن هذا النّجاح الاتّصالي لا يكفي لتبرير مواقف مجمل الطّبقة السياسية التي جاءت في عمومها أقلّ حدّة من الرّفض الحاسم الذي شهدته حملة 2002.وهو لا يكفي بأيّ حال من الأحوال لسبر أغوار موقف أقصى اليسار وزعيمه ميلونشون، خاصّة إذا اعتبرنا أنّ جزءا كبيرا من ناخبيه قد امتنعوا عن التّصويت في الدّور الثاّني. ولعلّ البعض منهم قد صوّت فعلا لمارين لوبان.

إنّ للتّغيير الحاصل أبعادا لا تدركها الأطر التّحليلية التّقليدية القائمة على الفصل بين اليمين واليسار. ودليل ذلك التّشابه الكبير بين البرامج الانتخابية اجتماعيا واقتصاديا لأقصى طرفي المشهد السياسي من جهة، وبين مختلف العناصر المكوّنة لوسط المشهد من جهة أخرى وعليه، يمكن التّمييز بين كتلتين متنافرتين، تدعو الأولى إلى حمائية انعزالية باسم الطّبقات الشّعبيّة، وتدفع الثّانية نحو مزيد من الانفتاح باسم النّجاعة والواقعية.

ولن يكفي تصنّع سياسي كجون لوك ميلونشون الصدمة كلّما ذُكر التشابه بين برنامجه الانتخابي وبرنامج مرشّحة حزب الجبهة الوطنية لإقناع الرأي العام بالاختلاف الجوهري بينهما. فإذا استثنينا المسألة المجتمعيّة وقضيّة الهويّة الوطنيّة، لا نجـد مـا يبرّر هذه الصّدمة.

أمّــا حدّة الصّراع الإعلامي بين ميلونشون ولوبان، فإنّما تعود لأسباب عميقة مرتبطة بعداوتهما التاريخية ولكنّها تعكس أيضا استعار المنافسة بينهما على خزّان انتخابيّ واحد كما يثبت ذلك تشابه الشّرائح الاجتماعية التي دعّمت حزب الجبهة الوطنيّة يمينا وحركة فرنسا المتمرّدة يسارا. ولا شكّ أنّ مارين لوبان قد نجحت في إحراج ميلونشون حين صرّحت بعد ترشّحها للدور الثاني من الرئاسيات أنّه لا يحقّ لمرشّح حزب يسمّي نفسه فرنسا المتمرّدة أن يدعو إلى التّصويت لمرشّح فرنسا المستسلمة أيّ أنّها ذكّرت ميلونشون بما يجمعهما من شعبويّة.

في هذا المستوى نجد التّفسير الحقيقي لموقف جون لوك ميلونشون الذي خيّب ظنّ الكثيرين من أنصاره في الدّاخل والخارج حين أحجم عن الدّعوة إلى التّصويت ضدّ لوبان. فمثل ذلك الموقف كان سيكون بمثابة الدعوة إلى التصويت لصالح العولمة المتوحّشة التي كان قد قال فيها ماقال أيّ أنّ دعم إيمانوال ماكرون، بما أنّه يمثّل تيّار الليبراليّة والانفتاح الاقتصادي، قد أصبح لدى قطاعات واسعة من اليساريين يساوي من حيث السّوء دعم اليمين المتطرّف رمز العنصرية والانغلاق القومي.وهو ما يؤكّد النّزوع الجارف لهيمنة المسألة الاقتصادية والاجتماعية على باقي القيم في تحديد التّمترسات المختلفة.

ويكمن الصّراع الحقيقي اليوم بين فريقين يخترقان مختلف شرائح المجتمع الفرنسي، كما يخترقان غيره.فالمنتفعون من العولمة يتمترسون في خانة الوسط، لا تفصل بينهم إلا فويرقاته التّقنية.أمّا المتضرّرون من العولة، فإنّهم يحتلّون أقصى أطراف المشهد يمينا ويسارا.وهي أطراف، على اختلافها المبدئي، لا يمنعها اليوم من التّماس دائريّا إلا شيء من التّباغض التّاريخي ومجموعة من المواقف المجتمعيّة.وفي ظلّ الصّعود اللاّفت للأولوية الاقتصادية يمكن لهذا الحاجز أن ينكسر في السّنوات القادمة بما قد يمكّن من توحيد أقصى اليمين وأقصى اليسار في كتلة حرجة قد تعصف بالبنيان الديمقراطي.

إنّ من الممكن قراءة نتائج الانتخابات الفرنسية في دورها الأوّل كما يلـــي: لقد تحصّــلت قــوى الوسط الإصلاحي المنفتحة على خمس وأربعين بالمائة من مجمل الأصوات.في حين حصدت القوى الشعبوية بمختلـف أطيافها مـا يقــارب خمسا وخمسين بالمائة. وهو ما يعني أنّ فرنسا  لم تنجح في تجنّب الوقوع في قبضة الشعبويّة إلا للسّهولة النّسبيّة لتحالف القوى الوسطية في مقابل عسر تقارب القوى المتطرّفة .ولكنّ هذه المعادلة لم تعد مضمونة، كما يثبت غموض مواقف أقصى اليسار.وبالتّالي، فإنّ الفرصة المتاحة اليوم لإيمانوال ماكرون من أجل إصلاح المؤسّسات الفرنسية ديمقراطيا قد تكون من آخر الفرص،إن لم نقل آخرها.

أيمن البوغانمي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.