أخبار - 2017.05.08

الانتخابات الرئاسية الفرنسية: ضربة حظّ

الانتخابات الرئاسية الفرنسية: ضربة حظّ

قبل ثلاثة أو أربعة أشهر لم يكن أحد ليتوقع أن تؤول الانتخابات الرئاسية الفرنسية لشخصية غير معروفة، هي إيمانويل ماكرون، فقبل عامين لم يكن رجل المال البارع في أحد بنوك الاعمال الفرنسية، ليذكر في عالم السياسة ، عندما استنجبه الرئيس (الذي أصبح سابقا) فرانسوا هولاند وأدخله في موقع ثانوي في ديوانه ، قبل أن يوكل إليه منصب وزير الاقتصاد والمالية، رغم إعلانه أنه ليس اشتراكيا، ومن هنا فإن مسيرته ليصبح رئيسا للجمهورية الفرنسية بدت مثل قصص الفتيات العاديات اللائي أصبحن أميرات أو ملكات.

وراء هذا الصعود غير المنتظر لرجل لم يسبق أن تمّ انتخابه لأي منصب تمثيلي لا في بلدية ولا في إقليم ولا في برلمان، مواهب مؤكدة لرجل يتسم بذكاء مفرط، ومثابرة فريدة، ولكن حظا كبيرا أهّله لأن يتولى أخطر منصب في بلاده، وعبر العالم باعتبار المكانة التي تحتلها فرنسا على رقعة الشطرنج الدولية، كرابع أو خامس قوة سياسية عسكرية اقتصادية.

فلقد دلّت كل استطلاعات الرأي قبل سنتين أو أكثر، وبعد الفشل الذريع لحكم هولاند والاشتراكيين، على أنّ الأمر سيؤول إلى اليمين أي حزب الجمهوريين، وكان المتوقّع أن يكون مرشّحهم الرئيس السابق ساركوزي، غير أنّ اعتماد الانتخابات الأولية التي شارك فيها عدةّ ملايين من بينهم مليون من الاشتراكيين سدّت المنافذ على ساركوزي، كما سدتها على الرجل المفضل ورئيس الحكومة الأسبق جوبي ، ورفعت فرانسوا فيون الذي كان طيلة 5 سنوات رئيسا للحكومة (أي طيلة ولاية ساركوزي) بمثابة الخادم الأمين، واتسم البرنامج المقدم من فيون بيمينية متطرفة، غير أن ذلك لم يكن السبب في فشله بينما كانت كل استطلاعات الرأي تبشر بأنه سيكون مؤكدا الرئيس المقبل.

غير أن سببين  إثنين حالا ووصول فيون للمنصب الذي كان متاحا له:

أولهما الفضيحة المالية التي تورط فيها باستخدام زوجته وابنيه في عمل وهمي تم تأجيره على حساب ميزانية البرلمان أي المال العام، وهي فضيحة أعلنتها وغذتها صحيفة لوكانار أنشيني القريبة من اليسار ، ويقال إن من تولى تسريبها هي وزارة المالية والاقتصاد، وينبغي أن لا ينسى المرء أن الرئيس المنتخب ماكرون كان يشغلها إلى حد فترة غير بعيدة.

وثانيهما أن فرانسوا فيون بوصفه الناجح في الانتخابات التمهيدية لليمين اتخذ حزبه رهينة، ورفض الانسحاب بشرف تاركا المجال للرقم الثاني أي جوبي وهو رجل أكثر توازنا ويتمتع بثقة كبيرة في أوساط اليمين والوسط الفرنسيين، واستمر ـ أي فيون ـ في حملة انتخابية ميؤوسة، بينما كانت كل المؤشرات وكل عمليات استطلاع الرأي تبشر باحتمالات نجاح كبيرة للرجل ـ جوبي ـ في مواجهة ماكرون، لو ترك له مجال الترشيح وانسحب فيون، الذي كان يأمل بالفوز لا فقط للوصول إلى رئاسة الجمهورية، بل وكذلك الحصول على حصانة قضائية إزاء القضايا المرفوعة ضده.

الفائز اليوم بالرئاسة الفرنسية هو إيمانويل ماكرون، في التاسعة والثلاثين أصغر شخص وصل لرئاسة الجمهورية الفرنسية منذ قرنين ونيف أي منذ إحداثها على أنقاض الملكية في أواخر القرن الثامن عشر، ولكن أيضا فائز بلا حزب، وقد سقط مرشحا الحزبين التقليديين، أي الحزب الاشتراكي الذي يجر وراءه تجربة 110 سنوات، والحزب الديغولي الذي يعود تاريخه  لسنة 1945/1946.

كيف سيحكم ماكرون إذن وبأي أغلبية برلمانية.؟

فالنظام الرئاسي البرلماني الذي اختاره الجنرال ديغول لفرنسا منذ 1958  يجعل بعض السلطات كما عندنا أي الخارجية والدفاع بيد رئيس الدولة، ولكن كل السلطات الأخرى بين يدي الوزير الأول وهو ليس رئيس حكومة، هل يستطيع اليوم أن يضمن لنفسه كرئيس القدرة على تنفيذ برنامجه، فيما قد يكون مضطرا لمعايشة مؤلمة تفرضها عليه انتخابات تشريعية لن تفصح عن مصيرها إلا بعد شهر من الآن، وهو يأمل أن يحقق أغلبية برلمانية عبر أنصاره وعبر مجتمع مدني في غالبه مناصر له، فيما اليمين الذي يعتبر أن الرئاسة سرقت منه، نظرا لتعنت مرشحه فيون وإصراره على خوض معركة خاسرة بسبب تورطه في فضيحة مالية كبرى واتخاذه لحزبه والمتحالفين معه من الأحزاب الصغيرة رهينة على مذبح مشاكله الشخصية، إذن فيما اليمين والحزب الجمهورية المنغرس في كل أنحاء البلاد بقيادة الشاب بروان على اعتقاد راسخ من أنه سيفوز بأغلبية واضحة كما تدل عليه استطلاعات الرأي، ويفرض على الرئيس الجديد معايشة تجعل خيوط السياسة الفرنسية بين يديه، وتمكنه من تنفيذ برنامجه الجريء مقابل برنامج ماكرون الذي لا يقل جرأة ولكنه يتسم بقلة الوضوح وإلى حد ما الايتوبية، وإذ يبدو أن الحزب الاشتراكي خارج اللعبة للأخطاء المرتكبة طيلة ولاية هولاند وانقساماته الحادة، فإن الرئيس الجديد يأمل أن يستقطب أعدادا من النواب القدماء سواء من الحزب الاشتراكي أو حتى من اليمين بحيث يشكل مع أنصاره، ممن لا يتمتعون بتجربة في السلوك الانتخابي على عدد كاف من النواب في البرلمان، تمكنه إن لم يكن، من أغلبية حكم فعلى الاقل من إقامة تحالف حكم، يذكر بما كانت عليه الجمهورية الرابعة الفرنسية من قلة استقرار في الحكم، وبالتالي ضعف النجاعة، وفرض تنازلات من كل طرف تفقد كل البرامج وهجها وحقيقة  منطقها.

فهل إن فرنسا مقبلة مع الرئيس الجديد على فترة تشبيب وحيوية إذا أمكنه الحصول على أغلبية برلمانية، أم إنها مقبلة على زمن عواصف وزوابع؟ والامتحان الأول للرئيس الجديد سيكون متمثلا في اختيار رئيس حكومته، فإن اختاره من اليمين فإنه سيفقد ثقة الاشتراكيين الذين انضموا إليه، وإن اختاره من اليسار الاشتراكي فسينفض من حوله اليمينيون الذين ناصروه، وإن اختاره من المجتمع المدني فسيخسر ثقة اليمين واليسار، علما وأنه تم انتخابه في الحقيقة بـ 45 في المائة من الجـسم الانتخابي، (66.1 في المائة من الأصوات الصحيحة والمحسوبة) باعتبار أن 26 لم يذهبوا للتصويت وقاطعوا الاقتراع و12 في المائة وضعوا بطاقات بيضاء في صناديق الاقتراع، وهي أضعف نسبة فعلية يحصل عليها رئيس منتخب في فرنسا منذ اعتماد التصويت بالاقتراع العام في الانتخابات الرئاسية منذ الستينيات.

عبد اللطيف الفراتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.