الحــداثة فـي الشّعـر وفـي السـّيـاسـة: كليّــة النّظرة إلى العـالم
إنّ الكلام عن الحداثة كفكر وكمنظومة قيميّة مغايرة للرأسمال الرمزي لمجتمعات ما قبل الحداثة، هو كلام لا نملّ منه ولن نملّ لأننا في مرحلة مخاض من نوع مخصوص مع الحداثة، باعتبار أنّ قيم الحداثة وفكرها تقوم على الديناميّة المتواصلة والمستمرّة حيث الحـــركة محرّكها الأساسي، والتحقق فعــل يتجسّد رويدا رويدا إلى ما لا نهاية.
فإنّ الحـــداثة شـــاسعة وسع التّاريخ والكون والعقل الإنساني. ورغم هذا الاتّساع اللامحدود واللاثابت فهي كفكر منظّمة جدا ومتقشّفة في عنــاصـــر تكوينها إلى أبعد حدود التقشّف. فهي أشبه ما تكون بالهرم ثلاثي النّقاط والرؤوس، وتولي الاهتمام الأكبر بثلاث قيم رئيسة: الإنسان الفرد والعقل والحرية. وكلّ ما تبقى من القيم والأفكار الوجيهة جدّا والجوهرية أيضا، إنّما هي متناسلة ومتفرّعة عن القيم الثلاث المشار إليها. فعندما نتحدّث عن العقل والعقلانية، فإنّ ذلك يعني آليا أنّ العقل هو المقدّس الجديد الذي يعلو ولا يعلى عليه والذي تبشّر به الحداثة وأنّ ماهية العقل كما ذهب إلى ذلك الفيلســوف هيڤل لا يحدّدها شيء فهي ماهيّة مطلقة ومتعالية.
لذلك فهو أداة التأمّل والنقد والانقلاب على الأفكار والقيم المتواصل وهو العجلة التي يدور بها عقل الحداثة ومنطقها وطرائق اشتغال الفكر فيها وكلّها قدرات معرفية إدراكية لن نبدع في غياب قيمة الحرية، وذلك من منطلق كون عدم إمكانية –بل استحالة- إعمال العقل دون حرية، التي وحدها تجعل مـن النّقد ممارسة مضمونة ومُحصّنة ومؤسّسة ثقافيا وحقوقيا وقانونيا ضدّ ما يمكن أن يُحجر على العقل باسم الهيمنة.
فالحداثة تدافع عن العقلانية ومكانة العقل وحرية الفرد أي النقد الذي يعكس تجسيدا للمبادئ الإنسانية الكونية، التي نادى بها فلاسفة عصر الأنوار. ففي هذا الإطار نفهم مقولة هربرت ماركيوز «التقويم النقدي هو الحقل الفعلي للمعرفة» وذلك في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» الصادر في سنة 1965 بباريس.
إذن كما أسلفنا القول: الحداثة قديمة وشاسعة وأكبر من أن تحدّ أو يحسم في شأنها لكونها بصدد الاعتمال الدائم، وهــو ما ينتج نوعا من التشويش على عملية تحقّقها وأيضا على كيفية نقدها وتلقيها. غير أن ما يعنينا في هذه المساحة تحديدا هو تصوّر الحداثة للذات وكيف أن هذا التصور يطبع مجالاتها كافة.
وكي ننكشف عن هذه النقطة وندلّل عليها نشير على سبيل الومضة إلى حقلين اثنين هما: الحقل الشعري والحقل السياسي وذلك تبعا لتقسيم عالم الاجتماع الفرنسي بيار بــــورديو لحقول الفعل الاجتماعي.
فكما احتفل الشعر الحديث بالذات، احتفلت الحداثة السياسية بالفرد وسمّته المواطن الحاكم الفعلي في الدولة الحديثة.
وفي الفضاء الثقّافي العربي نلاحظ أنّ التعاطي مع فكر الحداثة وإن انطلق متأخّرا عن الفضاء البريطاني الفرنسي الأوروبي بشكل عام، مهد الحداثة، فإنّ تسرّب الفكر الحداثي بدأ يتبلور أكثر بعــد استقلال الدول العربيّة، حيث أنّ حدث الاستقلال اشترط تعاطيا مخصوصا، اختلف مــن بلد إلى آخر مع مسألة الحداثة.
ولكن ريــاح الحداثة هبّت هبوبا خفيفا أو قويّا، حســـب الخصوصيات الثقافية والتركيبة السوسيولوجية لمجتمعاتنا.
ويبدو لي أنّ التجارب الشعرية العربية الحديثة التي أولت عناية مخصوصة لشعرية الذات ولبوح الذات وقاطعت إما قليلا أو كثيرا أو نهائيا الموضوعات الكبرى وشعرية الضجيج، إنّما هي التجارب التي حفرت عميقا في نشر القيم الحداثية في مجتمعاتنا وذلك من خلال الاستبطان الشعري للحداثة. بل إنّ قصيدة النثر التي لا تزال رغم الفتوحات الشعرية المهمة، تلاقي من التهميش والتكفير الشّعريين المصرح به والمسكوت عنه في ربوعنا الثقافية الشعرية، هي التي فتحت الباب واسعا لدخول قيم الحداثة وعلى رأسها قيمة الذات والإنصات لبوح الذات وتفاصيلها بعد أن كانت الجماعة هي الموضوع المهيمن على القصيدة.
منذ تاريخ السبعينيات من القرن الماضي، عندما بدأت تهرب قصيدة بودلير جهرا من بيروت إلى بغداد ثمّ إلى القاهرة وإلى دمشق وصولا متأخّرا إلى المغرب العربي، بدأت قصيدة الذات تقتنص بعض المساحة على أرض لطالما تصورناها على شاكلة العمودي مع العلم أن التفعيلة بدأت في الالتفات إلى الذات وتعيد النظر في المركز الشعري، مع تجربة السياّب ثم مع أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج في قصيدة النثر حيث تم إيلاء الذات المكانة التي تستحق والتي بات يحتاجها الشعر أيضا الذي أضناه تأخر مركزية الذات في الشعرية العربية.
فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي وقصيدة الذات تكتسح الأرض تلو الأرض حتى أصبحت أنا الشاعر مستبدّة بالقصيدة وأصبحت نافذة الكونية والإنسانية. بــل إنّ الذات الشــاعرة أصبحت معيار جودة التجربة الشعريّة ودليل بناء عقد جديد بين الشاعر واللغة والذاكرة والحياة والشعر، وهو ما نلمسه بوضوح مثلا في تجربة محمود درويش التي عرفت تحوّلا نوعيّا مع مجموعة «لماذا تركت الحصان وحيدا؟، تحولٌ أشبه ما يكــون بانـــقلاب الشاعر على الشاعر، فتمّ الانتقال من معجم إلى آخر ومن الذات الجمعية إلى الذات الخاصة المفردة، فكان العمق أعمق وحتى الجمعي يظهر على نحو أكثر صفاء في شكله الخصوصيّ الفرديّ.
هكذا بدأ الانتباه إلى شيء اسمه الفرد والذات في مجتمعاتنا، حيث كان الفرد كائنا مبهما ومقفلا ولا صوت له. وهكذا أيضا انتقلنا من ضجيج الجماعة والحـشــد والقبيلة والعشيرة إلى دنيا الذات الصاخبة ولكن صخب من نوع خــاص، يمكّن الذات مـن البوح ومن أن ترى ذاتها وفي نفس الوقت فهم الجماعة والمجتمع أكثر والعلاقات وعوائق التفاعلية والتمثلّات والمخيال في منعطفاته الظاهرة والمختبئة.
هكذا فرضت قصيـدة الــذات نفسهـا في الحــقل الشعـــري العـــربي وهكذا تبوّأت الذات في القصيدة المكـــان الجوهر والمركز وحـتى هـــامشية الذات تغيٰــرت وأضحـت هـــامشية متطـــورة. ولمّا كان الشعر خزّان المعرفة وسكّة التغيير الثقافي السحريّة، فإنّ ذلك مهّد الطريق للحداثة السياسية. فتلك الذات الجالسة بارتياح في فضاء القصيدة العربيّة والتي يبوح فيها الشاعر والشاعرة بأدقّ دهاليزها ، قد بدأت تنتج مجتمعات مختلفة من ناحية طبيعة العلاقة مع الذات. وتعاضد ذلك مع توريد قيم العقلانية وتطعيمها مع موروثنا في خصوص مقاربة العقل، فظهرت علامات الفردانية وبدأ الانفصام بين ثقافتين وقيم متنافرة.
لم يعد بالإمكان الاستمرار في واقع سياسي عربي غير منقطع الصلة بمظاهر الحداثة السياسية المعروفة والمحدّدة في إعلاء شأن الفرد المواطن والامتثال لقيم المواطنة والتواصلية العقلانية والفصل بين السلط ومفهوم حكم الشعب: من حكم الحاكم ومفهوم الرعية والراعي انتقلنا إلى معجم سياسي جديد.
لقد انتصرت الحداثة الشعرية لقيمة الذات بوصفها أحد مرتكزات الفكر الحداثي. والحداثة السياسية في طريقها إلى الامتثال خطوة خطوة إلى المواطنة.
أمال موسى
- اكتب تعليق
- تعليق