أخبار - 2017.04.05

"سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !" مرثيّة اللغماني لبورقيبة

"سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !" مرثيّة اللغماني لبورقيبة

تزامنا مع الاحتفال بالذكرى السابعة عشرة لرحيل الزعيم الحبيب بورقيبة، تنشر ليدرز قصيدة " سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !" والتي رثى بها الشاعر ٲحمد اللغماني الزعيم الحبيب بورقيبة إثر وفاته يوم 6 أفريل 2000.
وقد تم نشر هذه المرثية في كتاب " ٲحمد اللغماني: الٲعمال الشعرية الكاملة" والذي ٲصدره المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة".

"سيِّدًا كُنْتَ، سيِّدًا سَوْفَ تَبقَى !"

إنَّ صَدْرِيَ حضنٌ يضمُّ رزاياهُ * وقد تحضنُ الرّزايا الصّدورُ

يكبرُ الصّبرُ قدرَ مَا يكبرُ الخطبُ * كَذا يعدِلُ الكبيرَ كبيرُ

يَصْلُبُ الطّبعُ بالهُمُوم كما * يَصْلُبُ بالنّار معدِنٌ مصهورُ

إنْ أكنْ نِدَّ محنَتي فلأنّي* بِالبلايا مُمَرَّسٌ وخبيرُ

عِنْدَمَا أَلْتَقِي بِهَا ليسَ يُدري * أيُّنا دافعٌ، وأيٌّ مُغيرُ

إنّ شَأني مَعَ البَلايا صُمودٌ * مُتَحَدٍّ لاَ يزْدهيهِ غُرورُ

وَشهيدي قصيدتي رغم حُزني * لا شهيقٌ يُذلُّها، لاَ زفيرُ

فهيَ ليستْ مَرثيّةً تسفحُ الدّمعَ * كما يُسفحُ الدّمُ المَهدورُ

هي من فورةِ المشاعِر إعْصارٌ * ومن ثورةِ الضّميرِ هديرُ

تنبَري فِي اتّجاهِها لاَ تُبالي * أسُهولٌ دُروبُها أمْ وُعورُ

هيّنٌ عندَها العظيمُ، مريءٌ * عندها المرُّ، والعسيرُ يسيرُ

بنتُ وجْدانيَ العنيدةُ: لاَ يبلغُ * نُصْحٌ مِنْهَا وَلاَ تحذيرُ

تتحدّى الضّنَى كَمَا يتحدّى * الصّخرُ موجَ المُحيط إذْ يستطيرُ

وتُغالي تطرّفًا: لاَ حيادٌ * بينَ بينٍ وَلاَ اعْتدالٌ وقورُ

هَكَذَا شئـتُ أن تكــونَ فكــانتْ * طِبْقَ طبعي: لاَ تَشْتكي بل تثورُ

عشتُ عمري عَلَى شريعةِ طبعي: * ما بصدري بجبْهتي منْشورُ

ليسَ لِي عقْدةُ التّقيّةِ: أفكاري * عذارَى يزينُهنّ السّفورُ

فاقْرأوني عَلَى سُطوري ! فلا أسرارَ * لِي غيرَ مَا تَخُطُّ السّطورُ

وضميري هُو المحكّمُ فِي أمري * وما غيرُهُ عَلَيَّ أميرُ

أَيُّهَا الرّاحلُ الحزينُ ! تمهّلْ * بعضَ حينٍ ! فلِي حديثٌ أَخِيرُ

وحَديثي إليكَ نجْوى نَجِيٍّ * قلبُه طافِحٌ أسًى، مَوتورُ

قد تهاوتْ بكَ السِّنونَ وأبلَى * الشّيبُ مَا أبْدعَ الشّبابُ النّضيرُ

تلكَ أطوارُ قصّةِ المجدِ: نُعمى * ثمّ بُؤسى، والمجدُ نارٌ ونورُ

لستُ آسَى أنّ المقاديرَ أقصتْكَ * فلِلْحكمِ هَبَّةٌ وفُتورُ

عُمُرُ المجدِ ذُو امْتدادٍ مَعَ الآمادِ * والحُكمُ عُمرُهُ مبتورُ

مِثْلما الحكمُ لم يزِدْ مجدَكَ الشامخَ * مجدًا، فَسَلْبُهُ لاَ يضيرُ

لستُ آسَى لذاكَ ! إنّ أسايَ * المرَّ هَذَا الجحودُ والتّزويرُ

فكأنْ لم تكنْ لتونسَ مصباحًا * منيرًا إذْ أطبقَ الدّيجورُ

إذْ تولّى مصيرَ تونسَ محتلٌّ * خبيثٌ وآمرٌ مأمورُ(1)

وكأنْ لم تَفُكَّ قيدًا وطوقًا * فاستراحتْ معاصِمٌ ونُحورُ

وكأنْ لم يسُدْ بفضلكَ حُكمٌ * تونسيٌّ، وَلَمْ يَقُمْ دستوُرُ

نسِيَ القومُ؟ أَم تناسَوْا ! فهلْ * يُجدي ملامٌ؟ أو ينفعُ التّذكيرُ؟

أينَ ذاكَ الهتافُ فِي كلّ بطحاءَ * يُدوِّي؟ أين النّداءُ الجهيرُ؟

أين «نَفديكَ بالدّماءِ وبالأرْواحِ»؟ * أين التّطبيلُ والتّزميرُ؟

أين راحَ الروّادُ؟ أين «الحَوَاريّون»؟ * لا دعوةٌ وَلاَ تبشيرُ

كفروا بانتمائِهمْ واسْتجدُّوا * حين جدّتْ بَعْدَ الأمورِ أُمورُ

أَيْنَ شعرٌ تَحَلَّبتْ مِنْهُ أطماعٌ * جياعٌ، وَغِيضَ فِيهِ الشّعورُ

سالَ سيلَ السّراب فِي فَدْفدٍ أغبرَ * لا ظلَّ عنده، لاَ غديرُ

مُبْدعوهُ إنْ كَانَ ثَمَّتَ إبداعٌ * سَمَاسِيرُ هَمُّهم توفيرُ

رصَدُوا من نفاقِهمْ رأس مالٍ * ثمّروهُ، وأثْمرَ التّثميرُ

ونُفوسُ المُنافقينَ بَغَايا * ضاقَ عَنْهَا الرّصيفُ والماخورُ

أين أهلُ الوفاءِ؟ قَد أنكر الأحبابُ * أحْبابهم، ونَدَّ العشيرُ

«قَلبُوا النّعلَ»(1) عِنْدَمَا انْقَلَب الوضعُ * وفَرُّوا كَمَا تفرُّ الطّيورُ

سُحِبَ الغارُ من عَلَى الجبهةِ الشمّاءِ * فالشّوكُ حولَها مَضْفورُ

هَكَذَا تُجْحدُ الأيَادي ويُجزَى * بالتّجَـــنّي صَنيعُـــكَ المشكورُ

كم سُعاةٌ سعوا إِلَيْك ! ومسْعَاهُم * خدَاعٌ، وَوُدُّهمْ تغْريرُ

مَلَأُوا حولك الفَضَاءَ ذبابًا * ثم حطّوا، وبعدَها لم يطيرُوا

أنتَ أَعليْتَ شَأْنَهمْ فتَعَالَى * قاصِرٌ واستطالَ منهُم قصيرُ

هُمْ رؤوسٌ جَوفاءُ فهي طبولٌ * وَقلوبٌ صمّاءُ فهي صُخُورُ

هُم عصافيرُ فِي ازْدحامِ المُلمّاتِ * وفي فُسحةِ الأمَانِ صُقورُ

همْ عَلَى مشهدٍ من العينِ حُملانٌ * وفي خُفيةٍ ذئابٌ تُغيرُ

همْ أولاء الذين كانوا لنعليْكَ * بِسَاطًا يُمَدُّ حيثُ تسيرُ

همْ أُولاءِ الذينَ أكْرمتَ دَارُوا * يَوْمَ راحتْ بكَ الرّياحُ تدورُ

وطأُوا مجدَكَ المُنيفَ ونالُوا * منكَ لمّا هَوى بك المقدورُ

أنا أدرَى بهَؤلاءِ: فلا عهدٌ * وثيقٌ، لاَ ذمّةٌ، لاَ ضميرُ

قَصَبُ الرّيحِ هُمْ، لهم من * طباعِ الرّيحِ ذَرْيُ الغُبارِ والتّصفيرُ،

ألِفُوا غدْرهمْ فَهَان عليهمْ * أنْ يُنالَ القَفَا وتُرْمَى الظّهورُ

فئةٌ سبّحتْ بحمدِكَ أزمانًا * وتسبيحُها نِفاقٌ وزورُ

مثلَما مَجَّدتْكَ بالأمسِ راحَ * اليومَ يرميكَ غَدرُها المسعورُ

يا لَعَارِ الرّجال ! يَا وصمةً تُومي * إليهمْ فضّاحةً وتُشيرُ !

وصمةٌ فِي تُراثنا تَقْرَفُ * الأجْيالُ مِنْهَا وتشمئزُّ الدّهورُ

سوفَ تبقَى عَلَى الضّمائر كابوسًا * مُنِيخًا تنهدُّ مِنْهُ الصّدورُ

قد يُطيحُ الإعصارُ بالدّوحةِ الفرعاءِ * لكنْ تبقَى ترفُّ الجذُورُ

ثُمَّ يَشَّقَّقُ الأديمُ وينْمو * من جديدٍ دوحٌ عَتِيٌّ قديرُ

أَيُّهَا الراحلُ الموَدّعُ ! رِفْقًا ! * إنّ خلفَ الضّلوع جُرحًا يَمُورُ

هو جرحٌ ينزُّ مَا نزّتْ الذّكرى * بأوجاعِها فَشَبَّ السّعيرُ

هو جُرحي أنا ! لَهُ من وَريدي * دافقٌ مُضرمُ النّزيفِ يفورُ

بوركَ الجرحُ ! ينهلُ المجدُ من * منْزَفِه فهْو سلْسبيلٌ نميرُ

بوركَ الجرحُ ! إنّه فِي انْفرادي * لِي أنيسٌ وَفِي سُهادي سميرُ

ضيقَتي مِنْهُ فُرجةٌ، وعذابي * مِنْهُ مستعذَبٌ، وحُزْنِي حُبورُ

عجبي من طوارئ الدّهرِ ! فالضَّرَّاءُ * سَرَّاءُ، والنّذيرُ بشيرُ

بوركتْ نخوةُ الخُلودِ ! لَهَا من * مُهُجاتِ المُخَلَّدِينَ مُهورُ

ميزةُ الخالدين يَا خالدَ الذّكرِ * حياةٌ لاَ تحتويهَا القُبورُ

غُيَّبٌ عَن عُيونِنا ولهم في * الْقلبِ مأوًى، وفي الضّمير حضورُ

إن تكنْ بينهم فإنّك فيهمْ * سيّدٌ مفردٌ، وهم جُمْهورُ

سيّدًا كنتَ، سيّدًا سوفَ تبقَى * تحتَفي باسمِكَ «الحَبِيبِ» العصورُ

تشهدُ الأرضُ والسّماءُ وَمَا بينَهما * أنّك الكبيرُ الكبيرُ

شامخٌ أنتَ فِي الحَيَاةِ وفي الموتِ * مُدِلٌّ بِمَا صنعتَ فخورُ

فلْتُرَجِّمْ بِمَا تشاءُ السّراديبُ ! * وتنفُثْ مَا تستطيعُ الجُحورُ !

العُقولُ الصّغارُ تحسبُ أنّ المجدَ * هَشٌّ: تدميرُهُ ميْسورُ

يَا لسُخْف العُقولِ ! هَيهاتَ أنْ * يُدركَ سِرَّ الخلودِ عقلٌ صغيرُ !

دعْكَ من صرعَةِ الدّراويشِ ! يُرخيها * بَخُورٌ، يشدُّها بِنْديرُ

إنّها رغْوةٌ عَلَى شفةِ الموجَةِ * تشتدُّ لحظَةً وتَخُورُ

ثم تنهدُّ، ثُـمَّ تنساحُ فِي السّطحِ * وَفِي غمْرةِ الخِضَمِّ تغورُ

أَيُّهَا الرّاحلُ الطّليقُ ! إِلَى أعلى * الأعَالي بَيْنَ البُروجِ يطيرُ

اهْنأِ الآنَ ! واطْمئنَّ ! فلنْ * يُضْنيكَ كيدٌ يكيدُه شِرّيرُ

عِشتَ عُمْرًا مُبَلْبَلًا: مبْتَداهُ * ذُو مآسٍ، ومُنتهاهُ كسيرُ

كلّ أيّامِه الطّوالِ قرابينُ * لإسْعادِ تونسٍ ونُذورُ

شَرَفُ العُمر أن يُبَذَّرَ فِي الخير * وفي الخيرِ يحُمدُ التّبذيرُ

وَرَخيصُ الأعمارِ يُبْطِرُهُ الشُّحُّ * ويُنْمي حُطامَهُ التّقتِيرُ

جئتَ هذي الحَيَاةَ والوطنُ الغالي * سليبٌ وشعبُه مَقْهورُ

ثمّ فَارقْتَها وتونسُ محميٌّ * حِمَاها وَشَعْبُهَا مَنصورُ

دَقَّتِ السّاعةُ الرّهيبةُ، حَلَّ، * الموعِدُ الحقُّ واستبانَ المصيرُ

وتلقّاكَ مِنْ ثرَى تونسَ حِضنٌ * حنونٌ ومُستقِرٌّ قَرِيرُ

حَبَّذَا الموتُ للخُلودِ صراطًا * مُسْتقـيمًا يحــلُو عَلَيْهِ العبُـــورُ !

إنّ موتَ العزيز نصرٌ عَلَى الموتِ * لهُ العزُّ ناصرٌ وظهيرُ

مثلَما تسقُط الجِيادُ عَلَى الشّوطِ * وتهوي تحتَ السّياطِ الحميرُ…

… يَردُ الموتَ فِي ميادينِه الشّهمُ * وَيَرْدَى من ذُعرِهِ المذْعورُ

يَا طليقَ الجناحِ ! لمْ يبقَ بعدَ * اليومِ فِي الكَوْن مسرحٌ محظورُ

فاهْجُرِ الأرضَ ! إنَّهَا دارُ كيدٍ * وشُـرورٍ معمُورُها مهجورُ

وانْطلقْ صاعدًا إِلَى حيثُ لا * يصعدُ كيدٌ وَلاَ تطولُ شرورُ

وسيقْضي التّاريخُ فيكَ قضاءً * عادلًا فهْو حاكمٌ لاَ يَجُورُ

أَيُّهَا الرّاحلُ العزيزُ ! ومن * عِزِّكَ عِزِّي مُستلْهِمٌ مُستنيرُ

أنتَ منّي فِي حَبَّةِ القَلْب * محفوفٌ بِوُدِّي، بِغَيْرَتي مخْفورُ

هُوَ ذا مَا رغبتَ مِنّي(1) سحابًا * مُثقَلًا صابَ منهُ صَوْبٌ غزيرُ

بَعْضُه سَالَ هادئًا فِي مَجاريهِ * وَبَعْضٌ عُبَابُه مسْجورُ

فهو حينًا تَوَجُّعٌ غَطَّهُ الكْبِرُ * وَحِينًا تَمَرُّدٌ وزَئِيرُ

كنتُ أدعُو بِهِ رثاءً حزينًا * هادئًا لاَ يثورُ، لاَ يسْتثيرُ

فأتانِي بُركانَ غيظٍ عنيفَ * القَذْفِ، منْ جَوْفِه السّعيرُ يَفُورُ

فَجَّرَتْهُ حَمِيَّتي وَوِدَادِي * فَشَفاني، وراقَنِي التّفجيرُ

فتقبّلْهُ نفحَةً من صُراحِ الوُدِّ ! * يُهديكَها وَدودٌ غيورُ

نفحةٌ من مَوَدّتي هِي كنْزي * وبِما عندَه يجودُ الفقيرُ

يَا رَئيسِي ! وَكِدْتُ أَدْعُو «حِبِيـبِي» * وَمِنَ الحُبّ جُرأةٌ وغُرُورُ

حَسْبُ حُزْنِي عَلَيْكَ هذي التّراجيعُ * اليتامَى، واليُتْمُ رُزْءٌ مَرِيرُ

هِيَ حُزْنِي طَغى فَضَاقَ بِهِ صدرٌ *رحيبٌ، وجاشَ جَأْشٌ صبورُ

هِيَ حُزْنِي مجرّدًا: لاَ تهاويلُ *خرافيّةٌ وَلاَ تصْويرُ

وهْيَ حُبِّي: بِهِ تطامتْ بحارٌ * وَبِآياتِهِ تَغَنَّتْ بُحورُ

هِيَ حُبِّي الطَّهُورُ: يُكبرهُ منْ* رَفَّ فِي جَانحَيْهِ حُبٌّ طهورُ

وَهِيَ فِي لَوعَةِ الأسَى ذاتُ كِبْرٍ* لا شَهيقٌ يُذِلُّها، لاَ زفيرُ

أحمد اللّغماني


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.