أخبار - 2017.01.30

الصحبي الوهايبي: عنـــق‭ ‬الزّجـــاجـــــة

الصحبي الوهايبي: عنـــق‭ ‬الزّجـــاجـــــة

عنـــق الزّجاجة؛ لعلّ هذه هي التّسمية الأنسب لهذا البلد العجيب؛ وهي ليست بدعة، أو سبقا؛ فقد كان هناك منذ قرن تقريبا، بلاد يُقال لها جمهوريّة عنق الزّجاجة. في عام 1918، وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها، مفضيةً إلى معاهدة فرساي التي أسدلت السّتار على حرب، ورَفَعَتْه عن أخرى؛ وأعلنتْ تقسيمَ ألمانيا إلى أجزاء وأقاليمَ ضُمّت إلى دول الجوار؛ واحتلّ الحلفاء المنتصرون الضّفّة اليسرى لنهر الراين، جاعلين منها مناطقَ دفاعيّة بالأساس؛ وبسطتْ فرنسا والولايات المتّحدة الأمريكيّة سلطتهما على أجزاء كثيرة من المنطقة الغربيّة على حدود فرنسا وألمانيا؛ وبسبب أخطاء في الحساب والكيل، غفل المحتلّون عن شريط ضيّق يضمّ مدناً صغيرة؛ فما كان من أهالي ذاك القطاع إلاّ أن أعلنوا تأسيس دولة مستقلّة سُمّيت «جمهوريّة عنق الزّجاجة المستقلّة»؛ ولم تعمّر تلك الدّولة طويلا؛ فقد تأسّست في جانفي 1919 وانقرضت في فيفري 1923؛ وعلى امتداد أربع سنوات، صَكّتْ عُمْلُتها وأصدرَتْ جوازاتِ سفر وطوابعَ بريديّة؛ ولكنّها ظلّت مقطوعة عن محيطها، فلا القطارات تتوقّف في محطّاتها، ولا البواخر أو الطّائرات ترسي وتحطّ؛ وكانت عمليّات التّهريب هي المصدرَ الوحيدَ لسدّ حاجات السّكّان هناك؛ وجاهدت تلك الدّويلة، بسكّانها الثّمانية آلاف، عساها تخرج من عنق الزّجاجة، فلم تفلح...

والعُنُق هو الرّقبة، وهو الوصلة بين الرّأس والجسد؛ ولا تستقرّ الحياة فيهما دون رقبة؛ والعنق، لأهمّيته، يُؤنّث ويُذكّر؛ وهو من الشّيء أوّلُه؛ والأعناق هم الرّؤساء... ولكثرة ما بِتُّ، أسمع على أيّامنا هذه عبارة «عنق الزّجاجة»، تشاءمتُ وتطيّرتُ؛ فعلى قول أهل السّياسة عندنا، عَلَقَت البلادُ في عنق الزّجاجة؛ وعُنُقُ الزّجاجة هو رقبة ضيّقة بين فوّهتها وجوفها؛ ولا أدري ما يُضمر أهل الحلّ والرّبط؛ أيريدون أن يسحبوا البلد إلى قاع الزّجاجة، أم إلى خارجها؟... حدّثني صاحبي مصطفى السّبري عندما كنّا نتقاسم غرفة في الحيّ الجامعي في أريانة أوائل السّبعينات من القرن الماضي عن صديقه فرحات؛ فقد سَكِر فرحات وأوغل في الشّرب وبالغ في الأكل؛ حتّى علقت لَحْمَةٌ في عنقه، وهو سكران لا يدري، فغصّ وانقطع نفسه؛ فوكز نديمه مستغيثا. قال مصطفى: «فضربتُ بجُمِع يدي على رقبته، حتّى مَرَقت اللّحمة من حلقه كالقذيفة، وهو يستردّ أنفاسه، يحسبها قلبَه طار من بين ضلُوعه، ويصيح: «قلبي! يا مصطفى، يا خُويا!».

في ليلة صافية مقمرة، انحنى رجل، يذرع الرّصيف طولا وعرضا، كأنّه يبحث عن شيء ضاع؛ ومرّ به جاره، فوقف ينظر إليه ويراقبه، ثمّ سأله: «هل تبحث عن شيء يا سي عثمان؟»؛ فردّ دون أن يرفع نظره: «مفتاحي ضاع منّي»؛ فثنى الجار ركبتيه وانحنى، يبحث معه، ثمّ سأل: «هل أنت متأكّد أنّه سقط منك هنا يا سي عثمان؟»؛ فقال: «كلاّ، لقد سقط منّي في حديقة البيت»؛ فاستغرب: «فلماذا تبحث عنه هنا إذاً؟»؛ فأجاب: «المكان هنا مضيء، نور على نور! هل تريد أن أنبش في الظّلمة، بين العشب والأكمات؟»... كثيرون هم الذين ينشدون الحقيقةَ في غير موضعها، وهي قريبة، قريبة جدّا، تكاد تعمي الأبصار!.

الصحبي الوهايبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.