أخبار - 2017.01.28

علي‭ ‬اللواتي: قفــــص‭ ‬المــدخّنــيـــن

قفــــص‭ ‬المــدخّنــيـــــن

الساعة العاشرة صباحا بمطار د ... يزدحم المكان بالمسافرين من كلّ الأجناس بينما أجلس ناظرا دون تركيز إلى شاشة فيديو إشهارية. سأقضي فترة ترانزيت بثلاث ساعات  قبل المغادرة إلى بيروت.. كيف سأحتمل الانتظار مع حالة الهمود التي صرت إليها بعد عمل أيّام وليال ضمن لجان الأسواق البترولية؟ بِي إعياء وصداع  ولا رغبة لي في دخول  السوق الحرة ومع ذلك لابدّ من تقديم هدايا لزوجتي الدكتورة وأطفالها عند العودة إلى البيت.

البادية خارج المطار تسبح في سراب جهنّمي رطب والدّاخل مكيّف وتجاري وتافه... كيف كانت حياة بدو ما قبل البترول في الفيافي المحيطة؟... ولكن أين البدو وأين خيامهم من هيكل الزجاج والخرسانة هذا، وليد الخيال المعماري المرتهن للمال؟...

ممّا يرهقني أنّ الفراغ خلال السّاعات المقبلة سيضطرّني ـــ لا محالة ـــ إلى اجترار أحداث حياتي الباهتة في عالم البتروكيمياويات... سأنقم مثلما فعلت ألف مرّة على اختياري الأخرق مهنة مهندس في المهجر وكان الأفضل أن أبقى في قريتي وأمتهن صيد السّمك أو صنع سلال الجريد أو حبال القُنّب... سأجترّ خطأ زواجي من نهلة خرّيجة طبّ بنسلفانيا المفتونة بـ «الأميركن واي أوف لايف»...  

طوّفت في أرجاء قاعات المطار جيئة وذهابا وصعودا ونزولا لأطرد السّأم محصيا الدّقائق على شاشات الوصول، ولكن الزّمن كان يمعن في التّمطّط إلى أن ألجأني التّعب أخيرا إلى مقعد. فتحت جريدة وجلت بناظري في العناوين:

«عجوز في الثانية والسبعين يتحدّى قمّة إيفريست».. «سمكة قرش تقتل طفلة في نيوزيلندا»..«الفراولة تنشّط الذاكرة وتؤخّر الشيخوخة»...أمّا هذه فكذبة لاشكّ ... أنا أُكْثِرُ من أكل الفراولة ومع ذلك أحسّ بأعراض شيخوخة زاحفة وأنا في الأربعين. تبّا للأخبار الزّائفة وتبّا للصّحافة التّافهة! ألقيت بالجريدة جانبا وجلست قبالة منطقة المدخّنين وسط القاعة الكبيرة فهاجمتني رغبة في التّدخين ولكني تردّدت في الدخول إلى القفص الضّيق مع اولئك المنعزلين في جوّ خانق كجماعة سريّة.

المدخّنون يُحشرون في مناطق معزولة. لا حقّ لأحد أن يضرَ بأحدلِيَكُنْ، ولكن التّبغ ليس أخطر من الصّحف التّافهة... لماذا لا يُعزل الصّحافيون المفترون داخل أقفاص ويُضطرّون نكالا إلى قراءة ما يكتبون، بعضُهم لبعض حتّى التّسمّم مثلما يُضطرّ المدخّنون لتنفّس هواء قفصهم الموبوء؟.. الرّغبة في التّدخين تدفعني نحو القفص. عليّ أن أستسلم للسّأم أو أقطعه، ولو للحظات، بسيجارة.

اندسستُ بينهم .كان الأمر مهينا شيئا ما. رجالٌ ونساء من جنسيّات مختلفة، يقفون حزمة متراصّة، يكادون يتلامسون بالأنوف ويتبادلون نظرات مُحرَجة ومتضامنة  مثلما يفعل المتّهمون بممارسة مشبوهة. كلّ منهم  ينغلق على نفسه مستسلما في الظّاهر إلى خَدَرِ سيجارته غير آبه لمن حوله، بيْدَ أنّ تيّار أخوّة غامضة  يسري بينهم، وتجمعُهم أواصِر صامتة كالتي  تنشأ بين الهامشيين والمنبوذين. العابرون من خارج الحاجز الزّجاجي يحاصروننا بنظرات فضولية مستغربة، مشفقة، ممتعضة. تذكّرت زوجتي عندما يتّخذ حرصها على صحّتي شكل نوبات هستيريّة لحملي على الإقلاع عن التّدخين. ازددت تعاطفا مع سجناء القفص. استسلمت إلى خواطر هاذية: التبغ يقتل، لا شكّ، ولكنّه موتٌ أرحم من الاحتضار اليومي وسط الروائح الكيمياوية في جنّة  الدكتورة خرّيجة طبّ بنسلفانيا...

دخلتْ إلى القفص فتاة آسيويّة مليحة ترتدي تبّان «دجين» و«تي ــ شيرت». طافت بابتسامة لطيفة على الحضور فتجاوبت أساريرهم لها. اتّجهت نحوي فأوسعت لها قُبالتي. كادت تلاصقني  .اكتشفت أولى مزايا الانحشار في موضع ضيّق مُشْبَعٍ بالدّخان عندما بادرتُ بإشعال سيجارتها من ولاّعتي فكافـــأتني بـ «ثنك يو» مُنَغّمة .. غمرتني رائحة التبغ المعطّر بالنّعنع من فمها وبدا لي أنّها تتفرّس في ملامحي. ألقيت برأسي إلى الوراء  ونفثت دخان سيجارتي إلى الأعلى لكي لا أضايقها فسرّها ذلك وفعلت مثلي وإذا نحن ننخرط في لعبة طفولية مؤرجِحَيْن رأسيْنَا من الأمامِ إلى الخلف ومن الخلف إلى الأمام. الابتسامةُ لاتغادر شفتيها ووجهُها يزداد إشراقا بين وجوه ذابلة تنطمس ملامِحُها وسط الدّخان. لمحت خلفَها  رجلا ملتحيا متعمّما  يرتدي ثيابا أفغانية أو بلوشية ويهيمن بقامته الفارعة على الحاضرين. هام خاطري في سباسب آسية وصحاريها حيث أقوامٌ محاربةٌ تملأ الفضاء صُراخا ... أرى الرجل الملتحي في هيئة فارس يختطف الفتاة الآسيويّة ويُردِفُها على جواده ويمرق كالسّهم... سيكون منهما أطفالٌ سُمْرُ الوجوه بعيون صينية أو مغولية... تُسْلِمني الصّورة الملحميّةُ الجامحة إلى رؤى من طفولتي الوادعة بين قوارب الصّيادين .. أتذكّر ساعات الوقوف الطّويل أمام البحر منتظرا بقلب ساذج عودة أبي بالسمكة التي التقمت خاتم السلطان في خرافة جدّتي... انقشع ضباب الذّكرى وأعادني إلى القفص قربُ سيجارة الآسيوية من نهايتها.. ستخرج الفتاة وأعود إلى رتابة واقعي كخبير بترول وكان يسعدني أنّ أتحوّل ببارقة من عينيها السّاحرتين إلى  خزّاف أو أو نسّاج أو صانع سلال. ازدريت وضعي كإنسان تائه يعبر مطارات السّأم مرّتين أو ثلاثا في الشّهر ليعود إلى اللّقاءات العائلية التي تحوّلها زوجتي إلى منابر للتّبشير بمجتمع المعلومات...

يجب أن أفعل شيئا ما وإلاّ ذهبت الآسيويّة وبطل السّحر! خاطبتها بالإنجليزية: «إسمي أحمد... تونسي ... أشتغل مهندسا» فاجأتني بلغة عربية:

  • وأنا لودميللا، أدرس علم الآثار من سنغفورة . قلت دون تفكير وقد فاجأتني عذوبة لهجتها ذات اللّكنة الخفيفة:
  • سنغفورة  مدينة نظيفة...
  • ربّما ولكنها تحوّلت إلى سوبرماركت كبير.. لا شغل للنّاس هناك سوى الأعمال والشوبينغ!

إذا كانت تزدري الشوبينغ فالأرجح أنّها تكره أيضا البيتروكيمياويّات! قلت لها: «أنت تجيدين العربية، كيف عرفت أنّني من النّاطقين بها ؟!» رشقت عينيها في عينيّ بعد أن أطفأت عقب سيجارتها في المنفضة وقالت: «عرفت ذلك بالفراسة!... درست اللّغة العربية في القاهرة  وأعدّ الآن دكتوراه في علم الآثار ..أشاركُ أيضا  في بعثة تنقيب عن مدينة قديمة في صحراء الجزيرة.. سوف أقضي إجازة قصيرة في سنغفورة ثمّ أعود إلى العمل بموقع أثري في «وبَار»..

إنّها تستفيض في الكلام حيث أقتضب.. الآن أعرف اسمها وبلادها ومراحل دراستها ومهنتها كعالمة آثار.. بديع! .. إن أردتُ استمرارَ الحوار معها فعليّ أن أحدّثها بدوري عن دراستي وبعض التّفاصيل عن حياتي ولكنّي استحييت، فشتّان بين التّنقيب عن الآثار وبين التّنقيب عن البترول ! شتّان بين من ينفض الغبار عن معالم الحضارة الإنسانيّة وبين من يُساهم في الاتّجار بأحشاء الكوكب ويخنق الحياة بغازات الهيدروكربون! باغتتني بسؤال: هل سمعت عن «وبار»؟.. شعرتُ بالخجل من جهلي لأنّ دراستي للعلوم أذهلتني عن كثير من المعارف النّافعة. لو كان لي حظّ أوفر من معرفة التاريخ مما رسب في ذاكرتي من الجُذاذات المدرسيّة لتوسّعت في الحديث معها فيطول اللقاء،  لكنت استدرجتُها إلى الغداء بأحد المطاعم ممدّدا حالةَ الانجذاب التي أعيشُها؛ لكنّني من جيل ضعيف التأهيل في الإنسانيات دفعته سياسات تربويّة خاطئة إلى إهمال الإنسانيّات والتّركيز على الموادّ العلميّة لا حبّا في العلم بل طمعا في أوضاع ماديّة مريحة... لعنتُ أمّ الهندسة البتروكيمياويّة!

«وَبَار»... «وَبَار»!.. إسم جميل!.. لعلّ فراسة الآسياويّة التي دلّتها على أصولي، قد أنبأتها أيضا، بأنّني إنسانٌ مهزوم خرّب البترول بيته.. أخشى أن تتسرّب إليّ الآن رائحتُه الكريهة فتفسد عطر النّعنع الذي تبثّه مع التّبغ أنفاس الفتاة!

أجبتُها متردّدا: «قرأت أشياء عن أقوام ثمود وعاد .. أمّا وبار.. الواقع أنّ تخصّصي العلميّ حرمني من الالتفات إلى معارف كثيرة» و... أجابت بابتسامة متسامحة ضاعفت من شعوري بسخف ما برّرت به جهلي ثمّ أشعلتْ سيجارة أخرى ففعلت مثلها يغمرني ارتياحٌ  لفكرة أن حديثنا سيستمرّ لبعض وقت. قالت: «لعلّها إرَم ذات العماد مدينة قوم عاد المذكورة في القرآن.. يُقال إنّها تظهر وتختفي  كما يحلو لها .. أرجو أن لا تكون كذلك حتّى يسهل العمل فيها..  إنّها تقع على طريق القوافل من ظُفار إلى الرّبع الخالي».

أشرب كلماتها مأخوذا... الفارس الأفغاني أو البلوشي يتّخذ فجأة ملامحي وينطلق كالرّيح  ضامّا السّبية إلى صدره وتمتزج في أنفه رائحة السّباسب بعطر النّعنع وأنفاس التّبغ... فجأة تظهر أمامه مدينة عالية الأبراج والأسوار ...

خجلت من الذّكورية الفجّة في الخاطرة الأخيرة. أخذني دوار متسارع وأراني تائها معها في مفازة على طريق «وبار». تمتمت: «لم يذكروا لنا شيئا عن هذه المدينة في دروس الجغرافيا... ومع ذلك ليتها تكون فعلا مدينة تظهر وتختفي لتغالط شغف الإنسان بالمنطق البارد والحقائق الحسّية. ليتني أصبح منقّبا عن الآثار وأظفر في النّهاية بمدينة تتوارى بمكر..». قطعت حديثَنا فترةُ صمت قصيرة استعضنا خلالها عن الكلام بالنّظر والابتسام. وصلت سيجارتها الثّانية إلى النّهاية فأطفأت عقبها في المنفضة قائلة: «من السّهل أن تصبح عالما للآثار ...أتركك الآن، طائرة سنغفورة ستقلع بعد نصف ساعة». قلت محاولا إخفاء جزعي لنهاية اللّقاء: «لولا إنّي من المدخّنين ما كنت سعدتُ بمعرفتك». ابتسمت فبلغ وجهها منتهى إشراقه:

  • لعلّي أحظى برؤيتك ثانية ... وأضافت: «قد نلتقي يوما في إرم ..أراك بخير!
  • أراكِ بخير! ...

خرجت لودميللاّ بعد أن ألقت عليّ نظرة طفولية ضاحكة وخرج مسافرون آخرون  فخفّ الازدحام داخل القفص. بقيت في مكاني رغم الجوّ المشبع بالدّخان، انظر ساهما إلى المنفضات الممتلئة أعقابا. دخل العون المكلّف بتنظيفها فابتسم لي بأدب فابتسمت لصورة لودميللاّ في خاطري. لا تزال بسمعي نبرتها المنغّمة... لغة الضاد تنطقها شفتان من سنغفورة أمر مثير... لبثت ساهما للحظات أحاول تثبيت صورتها في خاطري. خرجت من منطقة المدخّنين أجرّ الخطو سائرا على غير هدى... السّاعة الحادية عشرة والنّصف...رفعت بصري إلى لوحة الإعلانات وهي تشير إلى قرب إقلاع الطّائرة السنغافورية.

طارت النّشوة وبقيت مرارة بالفمّلا تزال أمامي ساعة ونصف قبل إقلاع طائرتي إلى بيروت. اتّجهت نحو محلاّت السّوق الحرّة وسط الزّحام إذ لابدّ الآن من شراء شيء ما للدكتورةرغم علمي مسبّقا أنّها ستقبله بحركة رخوة وابتسامة باردة؛ من المؤكّد أنّها لن تعفيني من التّأنيب على نُدرة اتصالي بها هاتفيا خلال سفري...

لعلّ لودميللاّ تتّخذ الآن مجلسها في الطّائرة الجاثمة على أرض المطار مسرّحة النّظر في البادية المسلوقة في مرجل الصّحراء.

أيّة هديّة لولدي مؤيّد الشّبيه في الملامح والسّلوك بجدّه حديث النّعمة؟. ما عسى يعجب ذلك اليافع المدلّل الغارق في الهدايا، الحالم أبدا بالسيّارة السبورت التي لا يفتأ الجدّ يعده بها حال نجاحه، بعد سنتين، في الباكالوريا؟... هل أشتري له عدّة غطس لعلّه ينجذب إلى عالم البحر؟... ولكن أمّه ستظنّ أنّي أتعمّد إثارة قلقها على حياة الولد ... ربّما تعلّق على ذلك بـعبارتها المعتادة: «قرفت من حديث الصّيادين وقواربهم!».

لودميللاّ إسم أوروبي... هل تكون خُلاسية؟... لم تسعفني البديهة بسؤالها عن ذلك في حينه.

ماذا سأشتري لبَكْر الرّضيع الذي وُلد بعد أزمة نفسية توهّمتْ الدكتورة خلالها أنّها بلغت سنّ اليأس قبل الأوان؟ ... وبَكْر هذا له قصّة ! عند ولادته وددت تسميته «أبوبكر» وهو اسم المرحوم والدي فقامت قيامتها بحجّة أنّ الولد قد يُصاب في كبره بعقدة من هذا الإسم «البلدي». أصررت على موقفي وانزلقت هي إلى الإكتئاب فتدخّل أبوها ثهلان بالحسنى ووصلنا  إلى حلّ وسط بطرح «أبو» وإبقاء «بكر»!.. الأمر أسهل مع ابنتي رباب التي بلغت الثانية عشرة منذ شهرين. اشتريت لها في هذه الرّحلة عقدا فضّيا من صنعاء اليمن. ستتعلّق بعنقي شاكرة وتذكّرني بوعدي أن آخذها إلى والدتي في قريتي السّاحلية بتونس؛ سوف أجدّد وعدي لها وترفض أمّها متعلّلةً بأنّ الطّقس هناك ـــ ولا أدري من أفادها بذلك ـــ غير ملائم لصحّة البنت وننطلق في لجاج عقيم أصبح من أدبيّات بيتنا المملّة.

قالت لي مرّة: «لتزر أمّك بمفردك. أنسيت الطفح الغريب التي عانت منه رباب خلال زيارتنا الأخيرة؟». أجبتها:

  • لا ذنب لأمّي في الأمر... الطفح سببه تناول الفطر الذي طبختِه أنت بيدك...
  • لا تكابر أكلنا جميعا الفطر ولم نشْك من شيء ... هذا رأي طبيّ! ...

قلت لها إنّ رأيها الطبّي محض ذريعة لقطع صلة أبنائي بجدّتهم. لم أفرغ من كلامي حتّى اعترتها النّوبة المعتادة وسقطت على الأرض شاحبة  الوجه. في مثل تلك الحالة كنت أحملها بين ذراعيّ إلى حيث أمدّدها على السّرير حتّى تفيق من النّوبة وكانت تغتنم الفرصة لتئنّ في أذني معاتبة بأنّي لا أفهمها بل أكرهها وهي التي لا حبيب لها سواي، وينتهي بي الأمر إلى الاعتذار... ياله من سيناريو ممجوج!...

فاجأتني ابنتي رباب ذات مرّة بقولها: «ألم يخطر ببالك مرّة أنّ ماما تمثّل عليك دورا». قالت نهلة يوما إثر نوبة مماثلة وهي تمسح دمعة: «لماذا لا تأتي بأمّك لتقيم معنا في البيت؟... الأولاد، بل نحن جميعا، نحتاج إليها»؛ أمسكتُ عن الجواب لمعرفتي الجيّدة بما تضمره... هراء! .. ما حدث بين الحماة والكنّة لا لا يسمح بأيّ صلح بينهما حتّى تقوم السّاعة!

أتخيّل الطّائرة السّنغافوريّة وهي تنعرج الآن فوق مياه الخليج متّجهه بلودميللا نحو بحر العرب...

نصف ساعة من التّجوال في محلاّت السّوق الحرّة أرهقتني. لن أشتري بدلة غطس لمؤيّد ولن يكون رجلا على النّحو الذي حلمت به... لن أجدّد وعدي لرباب بزيارة جدّتها وعليّ أن أخترع ذريعة لذلك لئلاّ أفقد اعتباري لديها... سأشتري حلويّات للجميع. ولكن  كيف سأقضي السّاعة التي تفصلني عن الإقلاع؟. لو آكل شيئا. يوجد بالقاعة مطعم «ماكدونالد» ومطعم آخر يبدو حسن الخدمة. هممت بالدّخول إليه ثمّ أحجمت بسبب لودميللا التي أشرق وجهها فجأة في خاطري وكرهت أن أنشغل عنه بتقليب النّظر في قائمة الطّعام. واصلت التّيه وراء وهمي في القاعة المزدحمة. لم يكن لقائي بها مجرّد حادثة عابرة مثلما حاولت إيهام نفسي، بل لن يكون هيّنا بالمرّةسأعود إلى بيروت بصورتها المنشورة على أسوار مدينة تظهر وتختفي ولن يزيد ذلك وضعي مع الدّكتورة إلاّ توتّرا!

منذ ثمانية عشر سنة وأنا حبيس نظام نهلة: السّفر الجماعي إلى لندن في الرّبيع لزيارة أمّها الإنجليزية المطلّقة والمستمرّة مع ذلك في توجيه شؤون الأسرة عن بعد؛ الإجازة صيفا في لبنان أوتركيا، ثمّ الرحلة الخاطفة بمفردي، في الخريف، إلى قريتي الساحلية في تونس التماسا لبركات الوالدة العجوز التي تقترب من النّهاية في غربتها القصيّة. الأسبوع القادم موعد عيد ميلاد صهري الكريم ثهلان... ثهلان إسم جبل وللرّجل من الجبل صفات ليس أقلّها  الوعورة والقسوة ...سيكون عيدا للتّزلّف والرّياء يقيمه عملاؤه ومعارفه فيتبارون في تملّقه ناسبين له ما شئتم من كريم الخصال ورفيع الشمائل ممّا يندى له الجبين. حدث في إحدى تلك المناسبات أن أهداه أحد متملّقيه جوادا من عتاق الخيل راجيا منه أن يركبه ففعل وجال به حول حوض السّباحة شاهرا سيفا ذهبيّا تحت وابل من فلاشات المصوّرين. في الحفل القادم قد يهديه أحدهم جملا وكالعادة سينبهر المدعوّون بطلعته البهيّة ويمتدحه شاعر مأجور جاعلا منه رمزا فذّا  للفروسية العربية. ستكون مناسبة لطيفة ليفقأ كبد الأعداء المجترئين عليه بنسبته إلى صُلُبّة البادية أكلة الميتة في الزّمن القديم. عليّ أن أقف إلى جواره ليلة الحفل ليقرع سمعي مردّدا أمام الملأ بأنّي صهره المقرّب من قلبه، بل ولده الذي لم تشأ الأقدار أن يُولَدَ له،  مذكّرا ــ أمام الملإ دائما ــ بأنّ له صهرا آخر ابن عاهرة عطف عليه ورفعه بعد وضاعة وزوّجه ابنته الكبرى فأنكر معروفه وهاجر بحشاشة كبده إلى أستراليا.

سوف يؤجّر ليلتَها بآلاف الدّولارات مطربين ومطربات من النجوم ــــ الفقاقيع الذين تفرّخهم الفضائيّات ويُجري أنهارا من الوسكي في حديقة قصره المنيف ببيروت وتبثُّ مضخّمات الصّوت الأغنية التي ستُؤلّف وتُلحّن  لمجده، مشيدة بكرمه وبذله المعونات للاجئي  فلسطين، مبتهلة إلى الله أن يحفظ حياته كواحد من أكبر رجال الأعمال في الشّرق الأوسط ويكلأ بعين رعايته أمبراطوريته  المالية المؤسّسة على التّقوى وعلى أحدث أساليب التّصرّف والمستندة إلى أخوّة المال الكونية وشبكات المصالح السرّية والمعلنة للاقتصاد المعولم.

لا أزال أذرع قاعة المطار طولا وعرضا. تنزلق عيناي على واجهات المحلاّت... السيّارات المعروضة... شاشات الإعلانات التّجارية... دخلت كشكا للكتب والمجلاّت وبحثت دون جدوى عن أيّ شيء يتحدّث عن وبار أو إرم... أسفت لعدم وجود مطعم صيني أو تايلندي أو ياباني أطرد بمذاق مأكولاته الغريبة طعم الضّان بالبطاطس الذي طاف فجأة بفمي وأنا أذكر حماتي الإنجليزية التي سنزورها بعد شهر. في زحمة القاعة أصبحت أكثر انتباها للآسيويات ذوات العيون المشدودة، بل للآسيويين جميعا رجالا ونساء وأطفالا. كلّ هذا لا ينبئ بخير!. دخلت خواطري منطقة اضطرابات غريـبة لم أعهدها من قبل... قلّبتُ صورا تراكمت بداخلي عن الشّرق الأقصى... سور الصّين.. حرب الأفيون... معابد بانكوك...اليكترونيات تايوان...  صور باهتة جمعتها من مطالعاتي أو من أسفاري المهنية... ركام من الكليشيهات المستهلكة عليّ الآن الجوس خلالها لأنفذ إلى عالم لودميللاّ ...

اكتشفت مذهولا أنّني لم أعرف في حياتي حبّا حقيقيا. بوسعي الآن أن أثبت لكلّ النّاكرين لوجود الحبّ أنّه حقيقة باهرة تفجأ أيّ إنسان في أيّةّ لحظة من حياته ـــ وإن كان ذلك في قفص مدخّنين بمطارـــ فتسقطه في هذاء صبياني جميل وإن شارف الأربعين مثلي... قبل ساعة كنت أحسبني رجلا واقعيّا خَبِرَ الدّنيا ونال نصيـبه منها بمصاهرة شخص مهمّ مثل ثهلان. كنت رجلا ناجحا بمقاييس العصر، أعقد الصّفقات البتروليّة بالملايين لحساب صهري واحتمله بحكمة وصبر رغم عادته السّيئة في غسل وجه مخاطبه بطشيش لعابه. كان ذلك إلى اللّحظة التي دخلت فيه لودميللاّ عالمي الباهت  فقذفتني إلى سباسب مراهقتي المنسيّة. رنّ هاتفي الجوّال وكان المخاطب زوجتي نهلة:

  • هالو أحمد كيف الحال؟...
  • الحمد لله... كيف الأولاد؟...
  • طيّـبون ويسلّمون عليك... أنا أيضا طيّبة إن أردت أن تعرف...  «دادي» سألني متى تعود...؟
  • لا أعرف.. قد أبقى أيّاما أخرى...
  • خابرنا يا أخي، صار لك زمان ما اتّصلت.. لاتطل، الأولاد أزعجوني بالسّؤال عنك.
  • من المحتمل أيضا أن أمرّ على «وبار»...
  • حلوة القصّة! .. سلامتها من تكون «وبار»؟!
  • لا تخافي.. إنّها منطقة حقول بترولية في الصّحراء ...
  • أنا والأولاد ضقنا بأسفارك التي لا تنتهي... الأفضل أن تمسك إدارة إحدى الشّركات في بيروت... عند عودتك نحكي مع «دادي»...
  • لا داعي لإزعاجه.. لا أريد أن أمسك أيّ إدارة.. أفضّل التّنقيب في «وبار»...
  • نحكي عند عودتك... باي...

أيّ قصّة هذه؟ ...  إنّي أتهيّأ للقفز فوق هاوية سحيقة! ... قطعا أنا بصدد التّحوّل إلى شخص آخر وإلاّ لما أفضيـــت بذلك التّخــريف إلى نهلة!... ما العمل؟ ... هل أهاتفها بعد قليل مدّعيا أنّ مشروع الرّحلة إلى «وبار» قد أُلغي؟!... المفروض أن أخجل من كذبة بهذه الرّقاعة، ومع ذلك فهي ليست كذبة تماما، لأنّني أضرب الآن في سبل مجهولة في بعد خامس.. بينما كنت أسير بين إشهار ضخم  لكوكا كولا وبين طابور سريلنكيين يغادرون مطعم الماكدونالد، لمحت طريقا حجريّة وعرة فسلكتها وكان في نهايتها مدينة تغرق في السّراب.. حثثت السّير إليها فرأيت على جانب الطّريق شجرة لبان عظيمة تنام في ظلّها أميرة حميرية مثقلة بعقود من الفضّة والعنبر... كفى! ...  لن أترك الأميرة تتحوّل إلى لودميللاّ ولن يأخذني الوهم من نهلة والأولاد!..فات الأوان!... الأميرة تستوي جالسة تحت الشّجرة وترمقني بعيني السّنغافورية وفجأة ينحشر في الصّورة وجه نهلة الأبيض ذو التقاطيع الجامدة... أطرده فيأبى التّلاشي وتقسو قسماته! ... ماذا أفعل بهذا الوجه المتطفّل على رؤياي؟! ... فلتبقي يا نهلة ولكنّك ستكونين وصيفتها وتغسلين رجليها تحت الشّجرة! ...

عاودتني الرّغبة في التّدخين فاتّجهت نحو القفص كطائر يحنّ إلى وكره. بدا لي قفص المدخّنين من بعيد مزدحما كالعادة. اندسست بين الواقفين. أحسست برعدة تهزّني إذ لمحت بينهم لودميللاّ ساهمة النّظرات. اندفعت نحوها وانتصبت أمامها منعقد اللّسان مُتَدَافَع الأنفاس. انفرجت أساريرها وقالت بهدوء:

  • تأخّرتْ طائرتي إلى موعد غير مسمّى؛ عاصفة رملية قويّة على المنطقة،  ألم تسمع الإعلان؟
  • لا...
  • لو تدوم العاصفة فسنبقى هنا ساعات أخرى...
  • سيكون أمرا مزعجا بالنّسبة لكِ...
  • ليس بالضّرورة... كنت على يقين أنّك ستأتي إلى هنا ككلّ مدمن... سعيدة بلقائك مرّة أخرى...

ضممتها في خيالي وأنا أركض في سباسب وهمي البعيدة... ما الذي يمكن أن أضيفه لدفع الحديث قدما...لا بدّ أن أتخيّر الكلمات... استجمعت شجاعتي:

  • قد يطول انتظارنا هنا.. ما رأيك لو نتغدّى؟
  • كنت سأعرض عليك ذلك... لكن لا تأخذني إلى الماكدونالد!
  • أكون عديم الذّوق لو فعلت.

دخلنا مطعما فطلبتْ القمبري المشويّ وطلبتُ رزّا مع الهامور . كانت تأكل وتتحدّث بنبرتها المنغّمة قافزة من العربية إلى الإنجليزية بخفّة سنّور مرح. تحدّثتْ عن مدرسة الكرمليات التي جفّفتْ سنوات مراهقتها؛ تحدّثت عن دراستها للّغة العربيّة بالقاهرة، عن ولعها بصوت ليلى مراد. وددت لو أظلّ مصغيا أبدا إلى موسيقى كلماتها المتناثرة كمطر ذهبي على جسدي المجدب. كنت من حين لآخر ألقي بملاحظة مقتضبة حتّى لا تتفطّن إلى انبهاري بمونولوجها الجميل. علمت أنّها من أمّ إيطالية وأب صينيّ الأصل واسع الثّراء وأنّ سنّها ثمان وعشرون سنة. استنفدت العبارات والألفاظ الإيطالية القليلة التي أعرفها في حديث أضحكها حتى شرقت بالطّعام وأخذتها نوبة سعال، ثم قالت: «أبدو لك ثرثارة ولكنّي في الواقع كثيرة الصّمت مثلك.» ثمّ أضافت مبتسمة بمكر:

  • كيف استدرجتني بهذه السّهولة إلى المطعم؟
  • بل كان ذلك في منتهى الصّعوبة .. كاد يُغمى عليّ وأنا أدعوك إلى لغداء!
  • صرت تعلم عنّي الكثير ولا أكاد أعلم عنك شيئا.. لو تحدّثني عنك؟!
  • أنا ابن صيّاد بسيط من السّاحل التّونسي بشمال أفريقيا، ضللت الطّريق إلى البحر وأصبحت مهندس بتروكيمياويّات... عدا ذلك لا شيء يستحقّ الذكر...
  • شمال أفريقيا... لا أعرف من تلك المنطقة سوى طنجة... مدينة جميلة بين البحر والمحيط... ألا يزال والدك يشتغل صيّادا؟!
  • بل مات منذ زمن بعيد ولكن قاربه لا يزال في فناء البيت تبيض تحته دجاجات الوالدة... في مثل هذه الفترة من السّنة كنّا نصطاد أنثى سمك البوري ونجفّف بيضها ...
  • القمبري ممتاز... هل تذوق منه؟

فاجأني منها هذا العرض ولكنّي أجبت مسرعا: «بكلّ سرور!» .أخذَتْ قطعة قمبري من طبقها ووضعتْها أمامي فرفعتُها إلى فمي في حركة بطيئة بينما ظلّت ترقبني مبتسمة. طافت بذهني طقوس المائدة الصّارمة في بيتي وخلوّها من الحبّ... حبّذا لو تدوم العاصفة الرّمليّة إلى ما لا نهاية... قلت هامسا: «قمبري مذهل لم أذق مثله قطّ!» كبحتُ جماحي كي لا أسترسل في مثل هذه المبالغات المضحكة وعرضت عليها بدوري قطعة هامور من طبقي. أصبحت المائدة  حلبة ألعاب طفولية والحديث ذريعة  لنظرات وحركات ذات دلالات غامضة.

في سياق الحديث أخبرتها بتفاصيل عن حياتي المملّة، عن شوقي إلى شطآن السّواحل الإفريقية، عن صبر أمّي وكدّها في تنشئتي، عن تجفيف الفلفل الأحمر منشورا على الجدران البيضاء في قريتي، عن زوجتي الدّكتورة وفشل حياتي معها، عن الأطفال، عن ثهلان وضلوعه في فضيحة بيع الخرسانة للجدار العازل في الضّفة الغربية؛  وصارحتني هيّ بنفورها من أساليب أبيها في إدارة أعماله، بكرهها للّبيرالية، بعشقها لصوت نصرة فتح علي خان وأنشدتني قصيدة «المستحمّة» ممّا حفظته من زمن الدّراسة في القاهرة.

جاوزت خطّا أحمر وشبّهت عينيها بعيني ذئبة فسرّها ذلك قائلة إنّ الذّئبة رمزٌ للأنوثة والأمومة عند الأقدمين. طبعا لم أفكّر في شيء من ذلك ومن أين لي معرفة موقف الأقدمين من الحيوانات؟! جاوزت خطّا ثانيا وأمسكت بيدها فارتجفت كطائر حبيس ثمّ استسلمت في همود نديّ بين راحتيّ. مرّ علينا وقت لم أحتسبه، آل الحديث خلاله إلى جمل متقطّعة وعبارات مبتورة تكمّلها النّظرات الملتهبة في صمت، إلى أن أتى النّادل بورقة الحساب جالبا معه زمن المطار وأصداء إعلانات الهبوط والأقلاع ونبأ هدوء العاصفة الرّملية... طائرة سنغفورة تقلع بعد نصف ساعة وبعدها بدقائق طائرة بيروت ...بعد إطراقة  واجمة رفعت لودميللاّ بصرها إليّ:

  • لا رغبة لي في السفر إلى سنغفورة والأفضل أن أعود إلى «وبار».
  • ألستِ في إجازة؟ .. أنت في حاجة إلى الرّاحة.
  • كنت أريد لقاء والدي السّيد تونغ لأسألهُ هِبةِ مالية لفائدة أشغال التّنقيب.. لم أعد أفكّر في ذلك.. في الواقع لا أعرف الآن أيّ وجهة أختار.. قد أُرافِقُ قافلةً بدويةً في رحلة إلى نجد  أو إلى مدائن صالح...أو ربّما أصعد إلى مأرب لدراسة الكتابات الحميرية المكتشفة حديثا هناك.. أو..رحلة طيّبة سوف أفتقدك!
  • أنا أيضا لم تعد بي رغبة في العودة إلى بيروت .. اشتقت كثيرا إلى رؤية والدتي.. الأفضل أن أسافر إلى تونس. قالت بأسى:
  • لك أمّ تحنّ إليها، أنت محظوظ ..

أخذتُ يدَها بين يديّ وقلت: «لعلّك في حاجة إلى رؤية الشّاطئ الإفريقيّ.. بوسعك أنّ تنقّبي هناك كيف شِئتِ عن الصّدفات». ضغطتْ بكفيّها على راحتي وأشرق وجهها بابتسامة تلاشت في أَلَقِها بيروت وإرَم.

علي‭ ‬اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.