أخبار - 2016.12.22

د. احميده النيفر: "الوهـّـــــابيّـة"‬ونُخــبنــا‭ ‬حيــــــن‭ ‬تُـــراوح

د. احميده النيفر: "الوهـّـــــابيّـة"‬ونُخــبنــا‭ ‬حيــــــن‭ ‬تُـــراوح

1- لا توحي إقالة الدكتــور عبد الجليل بن ســـالم من منصـــب وزير الشؤون الدينية الذي لم يتجاوز توليه له الشهرين إلا بوجود أزمة عميقة تكتنف طبيعة هذه الوزارة وتشمل مهــــامّها ومــا يُنتظر منــها وذلك منذ تـــأسيسها في مطلع التسعينـــات مـــن القــرن الماضي.

2- ما أعلنته المصادر الرسمية من أنّ الإقالة نجمت عن تصريحات الوزير التي لم تحترم «ضوابط العمل الحكومي» والتي مسّت «بمبادئ وثوابت الدبلوماسية التونسية» يؤكد وجود تلك الأزمة الحادّة لما يشي به الإعلان الرسمي من حرج واضح إزاء ما صرّح به الوزير. للتذكير فإن هذه التصريحات كانت ضمن جلسة استماع بلجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب اعتبر فيها الوزير أن «المدرسة الوهابية هي سبب الصراع وما يشهده العالم الإسلامي من تشدد وإرهاب»، مضيفا أنه سبق له أن طالب السفير السعودي بالإصلاح في هذا الشأن. لا شك أنّ ما أورده الوزير السابق من تحميل «المدرسة الوهابية» مسؤولية الصراع الدائر حاليا في العالم العربي وما واكب ذلك وسبقه من تطـــرّف عنيف فيـــه قدرٌ كبير مـــن التعميــم البالغ حَدَّ التّجَني. ذلك أمرٌ مُستغربٌ صدورُه من قامة علمية زيتونية ذات اطلاع جيّد على السياقات المعرفية والتاريخية والسياسية المتعلقة بالمسألة الوهابية في هذا الزمن وفيما سبق من الأزمنة.

3 - في الزمن السابق وقبل قرنين تقريبا سجّل المؤرخ الرسمي للدولة التونسية أحمد ابن أبي الضياف أنه في الرابع والعشرين من جمادى الثانية سنة 1229 الموافق لـ 13 جوان 1814 «ورد البشير من الدولة العليّة العثمانية بأخذ الحرمين الشريفين من يد الوهابي وأعلنت مدافعُ الحاضرة سرورا بذلك». يعرّف صاحب الإتحاف القائم بالدعوة الوهابية بصيغ منحازة ليقول عنه إنّه «منع زيارة القبور حتى قبور الأنبياء ومنع التوسّل بهم إلى الله تعالى ...وصرّح بكفر من يفعل ذلك وسمّاه مشركا... [وإنّه] صادف آذانا واعية وقلوبا من العلم خاوية». يواصل ابن أبي الضياف أنه لمّا عظُم أمر الوهابي«نصب حربا للمسلمين عموما ولأهل الحجاز خصوصا...وأطلق يد القتل والنهب فيهم ...واشتدّت عصبيتهم وقويت فطلبوا غايتها وهي الملك والسلطان». ليختم بما أرسله الوهابي داعيا أقطار المسلمين إلى مذهبه مما جعل الباي حمودة باشا يكتب إلى علماء الزيتونة يطلب منهم «أن يوضحوا للناس الحق».

جاء الجواب ردًّا من الشيخين عمر المحجوب وإسماعيل التميمي فيما عنونه الأخير بـ «المِنَح الإلهيّة في طمس الضّلالة الوهابية» ناقضا ما ورد من الحجاز جملة وتفصيلا.

4 - من غير الممكن أن تكون قد غابت عن الوزير السابق وهو يجيب عن أسئلة النواب تلك الحادثة المفصلية بملابساتها ومضامينها ومن الواضح أنه لم يكن بصدد إعادة إنتاج نفس الخطاب السجالي للشيخين الزيتونيين في موقفهما من الوهابية. أكثر من هذا، من المرجّح أنّ الوزير كان مستحضرا أنّ الوهابيين الذين راسلوا حمودة باشا في القرن التاسع عشر يحملون خطابا مختلفا عن نظرائهم الآتين في القرن الحادي والعشرين إلى تونس بمداخل شتّى. لقد جدَّت، في القرنين اللذين يفصلان هؤلاء عن أولئك، أحداثٌ جِسام ممّا لا يمكن الذهول عنه وادعاء أنّ الوهابية ضمن الظاهرة السلفية العامة ذات دلالة واحدة ووحيدة في كل آن ومكان. في سياق القرن التاسع عشر أساسُ خطاب الفقيه الزيتوني كان قائما على مناهضة الدعوة الوهابية لأنه يعتبرها ضلالةً يستحقها من حاد عن سبل الهداية الإلهية. هو حكم عَقَديّ تصحيحي لا يرى في السلفية سوى هَبّةٍ طُهورية (puritaine)، معروفة في ديانات التوحيد، تدعو إلى التشبث بالفضائل والاقتداء بالسلف الصالح من خلال التمثّل به في العبادة والسلوك وبمقاومة البدع الخاصة بالمعتقدات.

هو موقفٌ تَفرَّد به علماء تونس ولم يقاسمهم فيه أيامها علماء المغرب والجزائر وطرابلس الغرب بالخصوص حيث كان القطر المغاربي الأكثرَ تأثرا بالدعوة السلفية بنشأة الحركة السنوسية.

ما يحصل اليوم من صراع دامٍ ومدمّر في المجال العربي خاصة مغاير نوعيا للدعوة القديمة وإن تَزيّّى بزيّها واتَّسَم بسِمَتِها.

5 - ما يَمْثُلُ الآن أمامنا باسم الوهابية هو تبدّلٌ ( mutationناجمٌ عن تضافر عوامل حاسمة متراكبة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي معولم. مع القسم الأول تحوّلت طُهورية الاقتداء بالسلف في مستويات العقيدة والعبادة لتصبح تيارا متشددا يحمل فكرا إحيائيا. خصوصيةُ هذا الفكر تحويلُ حِقبةٍ من الحقب التاريخية إلى منظومة فكرية واجتماعية أي إلى عصر ذهبي للدفاع عن الهوية التي يعتبرها مُهدَّدةً جديّا. هو لذلك يؤسس فكرا ومنهجا يحصر مرجعية النص القرآني في فهمه حسب المعاني التي ضُبطت زمن نزوله وما تلا ذلك بقرنين معتبرا التقاليد الشعبية والمذهبية الفقهية ابتداعا وتنكرا لصحيح الدين.

ما ينبغي التنبيه إليه أن هذا التبدُّل بهذه الخصوصية الرافضة للتأويل والمُعرضة بذلك عن التجربة التاريخية للأمة وما صنعته من سردية كونية بأفهام وتصورات ومؤسسات نحتتها في تعاطيها مع الشأن الديني إنما هي تجفيفٌ لمنابع المُمْكِنات والإجْماعات المستقبلية التي تستدعيها حاجة التغيير في الأزمنة الجديدة.

أهم ما في هذا التبدّل تقاطُعه واستفادتُه مما انتهت إليه مسيرة القرن التاسع عشر والعشرين عبر ما حقّقه الإصلاحيون في المجال العربي عامة والتونسي خاصة بمقاومتهم «التقليد» بكل أشكاله الفقهية والسياسية وتعبيراته الاجتماعية والثقافية. هذا التوجه المُعادي للتقليد الذي اعتُبر مساويا للانحطاط ركّزه بعد ذلك نظام الدولة الحديثة مُستغنيا بصورة كليّة عن المؤسسات التقليدية الأهلية لترسيخ نموذج الحداثة الغربية التي «لا يُقاوَم سيلُها». مع انتكاسات الدولة الحديثة نهايةَ سبعينات القرن الماضي وسقوط «الدولة الحديثة» الإيرانية سنة 1979 تأكد صعود الإحيائية الجديدة بصيغتيها الشيعية والسنيّة المستقوية بالانهيارات الكبرى التي جعلت المجالات الوطنية مُفتَقِدةً لمشروع معاصر وجامع.

6 - حين يصرّح رئيس الوزراء البريطاني الأسبق «توني بلير» بأن الإسلام الراديكالي العنيف هو أكبر تهديد للأمن العالمي لا نتمالك من التوقف عند هذا النوع من تجاهل العارف. ذلك أن هذه الدعوى رغم ما فيها من صحة فهي تتغافل عن الجانب الأهمّ من الحقيقة لأن صاحبها هو ممن نظّر لـ«استعادة الشرق الأوسط» بحربي أفغانستان والعراق اللتين نشرتا الفوضى والدمار الشاملين. لا تختلف مقولة «الاستعادة» عن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» في تجسيد أبرز العوامل الخارجية التي ساهمت بقوّة في فتح أبواب البلاء الذي مكّن من تنامي الإحيائية السلفية العنيفة بحملات الغزو الاستعماري الجديد وسياسات الاستتباع المفرِّقة. إذا أضفنا إلى هذا ظاهرة العولمة في بعديها المتكاملين الاقتصادي والتكنولوجي وعبورها للحدود والسيادات الوطنية وما يصنعانه من مفارقات عجيبة تتيح للتيار الإحيائي القتالي مجالات الاستباحة بإمكانيات غير مسبوقة. أكثر من ذلك فقد صارت الإحيائية تستفيد من التحاق شباب من دول غربية عديدة للقتال في العراق أو سورية وليبيا والعودة إلى بلدان غربية للترويع والتدمير مما يؤكد وجود انهيارات قيمية واجتماعية سياسية شاملة.

7 - كل هذه العوامل لا أحسبُها غابت عن وزير الشؤون الدينية المُقال وهو يجيب عن أسئلة نواب الشعب الخاصة بأسباب التطرف العنيف. مع ذلك فقد انساق نحو الجواب الأسهل الذي درجت عليه عموم النخب عند معالجة مصاعب الشأن الديني في تونس. اختار الجوابَ السياسي الذي يُلقي المسؤولية على الآخر متجاهلا المهمة الاستراتيجية التي ينبغي أن تعمل على تأسيس المرجعية الدينية العلمية المعاصرة المفقودة. تلك هي المهمة التي تراوح دونها نخبُنا رغم أنها هي القادرة على بناء نهوض معرفي وفكري أصيل ليس تكرارا للأصل وإلاّ غدا نسخا أوتشويها أومـسخا بل نَـسْغٌ يتخلّق من الأصل ويندفع بالعلم والوعي والمثاقفة ليَسْمُوَ في صور حياة منيعة ومتوثِّبة.

د. احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.