أخبار - 2016.11.28

آمــــال‭ ‬مـــوسى: فنجــــان‭ ‬الثّـــــأر

آمــــال‭ ‬مـــوسى: فنجــــان‭ ‬الثّـــــأر

إنّ قــراءة مسترخية لبعـــض الوقـائع، تجعلنا نقر بأن العشـــائريّة لاتزال قائمة الذات وتتحكّم في نمط التفكير وفي مختلف أشكال السلوك سواء الخاص بالأفــراد أو بالمجموعات أو بالشعوب وليس صحيحا  اعتبارها ظاهرة ذات سياق تاريخي لا حضور لها خارجه.

تقتضي تقاليد العشيرة ضرورة أخذ الثأر، وذلك كشرط لا رجعة فيه كي تستعيد العشيرة شموخها وهيبتها أمام محيطها العشائري. ولهذا التقليد طقوس خاصة ،يقوم ضمنها شيخ العشيرة في جلسة استثنائية وعاجلة بصب فنجان من القهوة ويعلن أن من سيرتشف فنجان القهوة سيكون ملزماً بالأخذ بالثأر. ويعرب الجالسون، وهم من أفراد العشيرة، عن رغبتهم في شرب هذا الفنجان. ومن يختاره الشيخ يعتبر منذ لحظة تناول فنجان القهوة أمل العشيرة في محو عارها وفارسها الذي سيحمل لها البشرى الموعودة.

هكذا كانت تسير حياة العشيرة التي ما إن تأخذ بثأر اعتداء ألمّ بها حتى تستعد لثأر آخر ويجري هذا الكرّ والفرّ تحت صرامة عقل عشائري متغلغل، يُعادل بين الشرف في مفهومه الخاص والمطلق والأخذ بالثأر وهي معادلة لطالما أهدرت دماء بالباطل . وقد رصد عديد من العلماء أصحاب الأقدام الراسخة في ميدان علم الاجتماع بمختلف فروعه، كيف أن العشائرية كمنظمة قيمية متجذرة في المناطق ذات التاريخ القبلي كأفريقيا والخليج وبعض بلدان المشرق والمغرب، حيث ما زال يجري توظيف قيم  القبيلة وتنسج علاقة قائمة على الاعتراف الضمني والمتبادل بين القبيلة والدولة. ويصل الأمر في بعض الأقطار إلى أن القبيلة تمثل وسيلة حماية للفرد من الدولة.

فنجان قهوة الثأر

ولكن ما لم نشر إليه مباشرة، هو أن العشائرية قيمة رئيسة في كافة أرجاء العالم الإنساني، أي أن النزعة القبلية بكل ما تحمله من تقاليد وأعراف تشمل حتى المناطق التي لم تعرف القبيلة والعشيرة في تاريخها، هذا بالإضافة إلى أن العشائرية تسود قيم الحاضر وتتصدرها تماماً، كما كانت ترأس عشائر الماضي وقد اختارت العشائرية أثوابا جديدة، بحيث أصبحت تتمظهر في أشكال وقوالب وكيفيات تعتمدها كأقنعة تنكريّة لها. إن العالم الذي نتحرك فوق أديمه، أشبه ما يكون بعشيرة كبيرة أو بفضاء عشائري تعبق فيه روح الثأر وفورة الدم التي لا أجل لاستكانتها وكأن كل العالم يشرب فنجان الثأر، الواحد تلو الآخر وأحيانا في جلسة جماعية يكون فيها فنجان الثأر سيّد العقول، ومحرّك «القوى الدوليّة»!.

ويعتبر إبليس أول شارب لفنجان الثأر، عندما رفض أن يسجد لآدم وقرر الانتقام منه ونجح في إغوائه وفي أن يتسبب له في الطرد من الجنة والنزول إلى الدنيا، حيث الخطيئة، ومن يومها إلى اليوم وآدم ومعه حواء يبتلعان مرارة ذلك البن وذلك إلى حين.

ولأن الوجود الإنساني انطلق بارتشاف فنجان الثأر، فقد قامت العلاقات طيلة الصيرورة التاريخية على مبادئ العداء المتواصل، من صراعات فجر التاريخ إلى الصراع بين الإسلام وإمبراطوريتي الفرس والروم، إلى العداء بين العرب والغرب، وبين العرب المسلمين واليهود، وبين المحافظين والتقدميين، وبين أمريكا والاتحاد السوفياتي (سابقا)، وبين أمريكا وليبيا، وبين جورج بوش الأب والابن والعراق، وبين الصربيين والمسلمين البوسنيين، وبين.. وبين..!. 

كل هذه العلاقات العدائيّة وغيرها في عدد أوراق الشجر، تتغذى من روح الثأر وتطلق العنان لما هو عشائريّ حتى يستفحل ويفعل في الخصم المقابل كل الأذى المرتقب ومثله الذي يفوق الخيال ابتكارا.

صراعات في تعارض مع العقلنة

لقد أصبحت العشائرية بدورها تتعدى ما هو سياسي واجتماعي وأخلاقي لتشمل الاقتصاد والإعلام فظهرت عشائريات اقتصادية وعلمية وإعلامية، وكلّ يغني على عشيرته السرية التي لا يدركها وإن كانت تدركه وتحرّكه وتوجّهه وتحوّل له وجهته.

فهل يعني هذا أن فنجان الثأر هو الذي يحرك عجلة الزمن وهو الذي يدفع بدورة الحضارات؟ وهل أن فنجان الثأر يضاهي في القيمة الحياتية الماء، حيث لا قدرة للجسد الضعيف الهش على الاستغناء عنه.

أغلب الظن أن العقلنة كظاهرة مرتبطة بالحداثة وأحد مظاهرها وشروطها لم تستطع التأثير في العقل الاجتماعي الثقافي السياسي الإنساني وذلك لأن قيم القبيلة تقف ضدها بقوة.

لا شك في أن التاريخ البعيد والقرون الماضية، تعج بأطباق تتراصف فيها فناجين الثأر وتكتظ إلى درجة قد لا يحتوي المطبخ الإنساني غيرها من أدوات منزليّة ونفسيّة. ولكن ما يحرك الفناجين في الماضي هما قنبلتان، الأولى قنبلة الشرف.. وبالتالي لا بدّ من محو العار. والقنبلة الثانية تتعلق بمعطيين اثنين هما العقيدة والغنيمة كما أبرز بذلك المفكر الراحل محمد عابد الجابري.

وفي أغلب الحالات، كان وجدان الجماعة هو الذي يصبّ القهوة في فناجين معدّة خصيصاً للأخذ بالثأر. ولقد حافظ منطق الثأر على أهم الميكانزمات التي تحركه وتبرره، حيث لا تزال الغنيمة كبعد هام في العقل السياسي العالمي تفعل فعلها، وهو ما أصبح يُعبّر عنه اليوم بلعبة المصالح الحيوية، التي جسّدتها بوضوح تام القوى الدولية الكبرى في العالم. وشاهد العالم طبعا في الحرب العالمية الأولى ما فعلته ألمانيا في شخص هتلر عندما قرر الانتقام بدوره وأن يثأر وأن يحرق اليهود وأن يحتل أراضي فرنسية وأن يشعل لهيب الحرب العالمية الثانية التي أخرجت العرب من دائرة نصاب الأمور.

أما الصراع العربي ـ الإسرائيلي فهو الصراع الأكثر شربا لفناجين الثأر.

صراع قيم متفاوتة العضلات

إن هذا الجو العالمي، الذي لم يتوقف لحظة عن شرب فنجان الثأر، أصبح من التجذر إلى درجة يستحيل فيها قطع هذه العادة القديمة المتجددة، لذلك فكل مساعي السلام ذات الأهداف الإنسانية المثالية كثيرا ما تسقط في ماء الخيبة وهو أمر طبيعي جدا، إذ كيف يمكن لثقافة فنجان الثأر أن تفسح رواقاً لإحلال ثقافة السلام. بل إن من يقدّمون أنفسهم باعتبارهم عقلاء العالم لا يتصورون قيام مجتمع عالمي دون أن يتم فيه تناول فنجان الثأر كبروتوكول أصبح من التقاليد الصارمة والتي دونها تسقط أسطورة الوجود بأكمله.

ولقد صدّق العالم بدوره هذا التصور واعتبره مرآة كاشفة لطبيعة النفس البشرية، التي يسكنها الخير والشر وتحيط بها الملائكة والشياطين واستند الكثير إلى أول جريمة ارتكبت في الأرض كحجة دامغة وهي جريمة قابيل وهابيل، الشيء الذي جعلنا أجيالا بعد أجيال نقبل بهذه الحقيقة المنقوشة في الألواح الخالدة.

وتناولنا جميعا هذا الطعم التاريخي بشربنا فنجان الثأر وتحمّل مضاره وآثاره، التي لا تنتهي، حيث إن كل العالم أصبح يتناول نفس الفنجان ويتهافت عليه ويبدو أن ما حققته الإنسانية من انتصارات وانكسارات على نخب فنجان الثأر لم يجلب لها سوى الغبن الحضاري والفقر الإنساني والخواء الروحي، بحيث إن من يمسك بفنجان الثأر هو الذي يملي على العالم قانونه وذلك إلى أن ينتقل نفس الفنجان إلى يد أخرى وهكذا دواليك إلى أن تتهشم كل الفناجين وينفذ البن من هذه الأرض!

فهل يمكن أن نتحدث عن حداثة فكرية ذهنية حقيقية والحال أن قيم القبيلة والعشيرة تتحكم فينا وتفعل فعلها حتى اليوم وأكثر من أي وقت مضى في جمهوريّات ودول تدّعي التحديث والحداثة وما بعد الحداثة؟

آمــــال‭ ‬مـــوسى

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.