العالم الإسلامي في بداية القرن الحادي والعشرين تمزّق بين الماضي والحاضر

العالم الإسلامي في بداية القرن الحادي والعشرين تمزّق بين الماضي والحاضر

هذه الأزمة الثقافية العميقة التي نراها عنيفةً عاصفةً في أكثر من بلد في عالمنا العربي الإسلامي؛ هذه الحُمّى المذهبية التي تفْتِكُ بالشعوب العربية منذ سنوات وتدفع بملايين المواطنين قسرا إلى هجْر الديار والأوطان بحثا عن ملاذات أكثر أمنا في أوروبا؛ هذه التحالفات الشيطانية التي نراها تتشكل هنا وهناك لتفرض واقعا جغرافيا وسياسيا يخدم مصالحها على حساب مصالح الشعوب وأمنها واستقرارها... كل هذا من نتاج التطرّف الديني  والتشدد العقائدي. فهل أصبح العالم الإسلامي بحق ذلك «الرجل المريض» - كما يقول بعض علماء الاجتماع - الذي أنتج «الدولة الإسلامية في العراق والشام»؟

حركات تتخذ الدّين مطِيَّةً لإزاحة الحاكم الأصلي والاستيلاء على مقاليد الحكم ومحاولة فرض أنماط من التّديّن و «التمذهب» بإيعاز من قوى وتيارات مختلفة. التشدّد الديني في عالمنا العربي حصرا أشعل فتيل الحرب هنا وهناك؛ في  الجزائر قبل ربع قرن، في ليبيا، في سوريا، في العراق، في اليمن ... لا شك أنّ جور الحاكم في هذه البلدان، وتفشي مظاهر الاستبداد والظلم والفساد، وتفاقم البطالة وانتشار الفقر الخ... قد ولَّدَ حالة من الاحتقان والغضب في عالمنا العربي دلَّتْ عليها الهَبَّات الشعبية القوية  التي حصلت هنا وهناك في بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، لكنّ هذه العوامل مجتمعة لا يمكن أن  تفسّر وحدها هذه الأزمات الوجودية التي حلّت بمجتمعاتنا، بما فيها ، وإن بدرجة أقل في الظاهر، المجتمعات الخليجية التي تنعم بحال من الرخاء والرفاه وطيب العيش، وحيث لا تشمل مظاهر التعسف والاستغلال والفقر إلّا العمال الأجانب.

ترى! هل من سبيل إلى دفع الضيم، والمطالبة بالعيش الكريم، وبإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومقاومة الظلم بشتى أشكاله... إلا سبيل المطالبة بالعودة إلى نظام دولة الخلافة، وإحلال الشريعة محل القوانين الوضعية والدساتير، والاعتقاد بأنّ ذلك هو الحل ، وأنه الكفيل وحده بإخراجنا من الحال المتردية التي هي حالنا راهنا؟

هنالك حديث عن «خصوصيات الدين الإسلامي»  وعن «خصوصيات الحضارة العربية الإسلامية» وعن واجب احترامها واتخاذها منهجا ونبراسا، فهل أنّ ذلك ينبغي أن يدفعنا إلى تبرير العودة إلى العقوبات البدنية من جلْدٍ وقطعٍ للساق واليد؟ هل أنّ ذلك يُجيزُ لنا أن نُنزل عقوبة الإعدام على كل من جاهر بالإفطار في رمضان، أو ترك الصِلاة، أو أن نعمد إلى الحط من شأن المرأة وإلزامها ارتداء الحجاب، وحرمانها من حق التعلم والعمل خارج البيت، واعتبارها كائنا على الهامش، وتصنيفها في مقام دون مقام الرجل، فلا تصلح إلاّ للخدر والإنجاب؟ هل يبرر ذلك تلك التصفيات العرقية التي راحت ضحيتها أقليات كثيرة هُجِّرَت من أوطانها لمجرد كونها تدين بغير الإسلام؟
في أكثر من بلد في عالمنا الإسلامي تُقطع الرؤوس، يُجَرَّم  الرأي، ينضم كثير من المفكرين وأصحاب الرأي إلى قائمة «مزدري الأديان» ، يُزج بهم في السجون، فقط لأنهم مارسوا حرية التعبير.. في أكثر من بلد عربي تطلق الجماعات الدينية المتشددة التهديدات بالقتل ضد كُتَّاب ومفكرين وباحثين بِتِعِلَّةِ «التطاول على الدين والأئمة ..» بعض هؤلاء اضطروا اضطرارا إلى العدول عن إبداء الرأي، والتّوقّف عن الكتابة، خوفا على حياتهم وحياة عوائلهم ... أصبحوا يعيشون حالا من الرعب والخوف جعلهم يعتزلون الفكر والكتابة قهرا وظلما.

لقد أصبح المسلم في أوطاننا يتملكه شعور عميق بالقرف والغُبْن وهو يشاهد هذا العالم الإسلامي ينحدر إلى أسفل الدرك، وتتألب عليه قوى الشر والظلام والجهالة، تشدّه شدّا إلى الخلف، وتَحُولُ بقوة السلاح والعدوانية وبوحشية متناهية بينه وبين مسايرة الشعوب والأمم الناهضة شرقا وغربا، الآخذة بأسباب العصر، التّوّاقة إلى تغيير حاضرها إلى الأفضل دائما بما يرفع من شأنها وبما يجعلها جديرة بالاحترام، والتي أنجزت خلال القرون الماضية تحولات تكنولوجية واقتصادية وثقافية وسياسية مهمة بعد أن تخلصت من معتقدات وخرافات وسلوكيات طالما كبّلتها. فلماذا لا نحذو حذوها؟

أصبح المسلم في كثير من بلداننا العربية الإسلامية تنتابه حيرة عميقة تجاه من يتألّبون ضدّه ويخضعونه إلى رهط من الهيمنة الدينية تُنيخُ  بكلكلها على جميع مظاهر الحياة بتعلة أنّ الإسلام جمع فحوى وأوعى، وينبغي بالتالي أن يأخذ بمجامع كياننا وضميرنا ووعينا، والحال أنّ القرآن نفسه يَنهى عن الإكراه في الدين، ويدعو إلى الاجتهاد وتغيير ما بالنفس والتّوق إلى الأفضل. فالدين يُسْرٌ  ورحمة وليس عُسْرٌ وشقاء. لقد وسع الله على خلقه كما جاء في كتابه: «... وما جعل ربّكم في الدين من حرج» - الحج / 78.

للإسلام من المقومّات ما يسمح له بالتّطوّر ومسايرة التغييرات التي تحدث حتما في المجتمعات، في تراشح وتفاعل مع القيم الكونية.  حري بِنَا نحن التونسيون في تونس، هذا البلد الذي كان له على مَرِّ العصور قصب السبق في مجال الإصلاح و الريادة (عهد الأمان في سنة 1857، إلغاء الرّق بين سنة 1842 و سنة 1846 ، الدعوة إلى تعليم البنات وتخليهن عن الحجاب منذ نهاية القرن التاسع عشر، امتلاك مقوّمات الدولة منذ بداية القرن الثامن عشر، التنصيص على حرية الضمير والمعتقد في الدستور...). حري بِنَا أن نواصل السير على نفس الدرب ونحرص على التوفيق بين تشبّثنا بقيم الإسلام السمحة - الإسلام الذي لا نريده «لايت «، كما لا نريده متشددا متزمّتا طاغيا - والعيش في زمن الحداثة  التي تعني الجرأة على كسر حدود المعرفة ومواكبة المتغيّرات والتطورات من حولنا والانخراط الفعلي في التاريخ  والتصدي بحزم لكل مظاهر التعصب والتطرف وتوسيع دائرة الحريات بما يسمح للمواطن التونسي، أي مواطن، كل مواطن، بالتمتع المطلق والفِعْلي وعلى أوسع نطاق بِحُرِّيَّةِ المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية في كنف القيم الجمهورية وحقوق الأفراد والانسجام الاجتماعي والثقافي والسياسي.

 يوسف قدية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.