اقتصاد - 2016.11.01

صالح الحامدي: مؤتمر " تونس 2020 " حول الاستثمار, ضمانات النجاح ...

صالح الحامدي: مؤتمر " تونس 2020 " حول الاستثمار, ضمانات النجاح ...

يركز الجهد الوطني رسميا ومدنيا منذ أشهر على "مؤتمر تونس 2020 الدولي لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة" الذي سيلتئم في أواخر شهر نوفمبر. وإذ يأتي هذا المؤتمر متأخرا عن موعده (أي ست سنوات بعد الثورة وسنتين بعد انتخابات 2014) من جراء عدم توفر الظروف الملائمة على مستوى المناخ السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي فهو ينعقد بإرادة سياسية ومدنية شبه جماعية تحت حوكمة حكومة الوحدة الوطنية التي ركبت القطار وهو يسير ببطء فسرعت في نسق الترويج للمؤتمر في بعض الندوات والتظاهرات الدولية ولدى أكبر العواصم الدولية وخاصة لدى الشركاء التقليديين لتونس والإعداد له بما يتيسر من شروط النجاح مثل إصدار قانون الاستثمار (الذي أعدته الحكومة السابقة) واقتراح ما أصبح يعرف بمشروع قانون "الطوار ئ الاقتصادية" أو قانون "دفع الاستثمار" (وهي التسمية الأفضل) لأن مصطلح "الطوارئ" مرتبط بالحالة الأمنية غير المستقرة والتي ينفر منها المستثمر، وذلك رهان كبير لحكومة (المائة يوم) في مناخ لا يزال يشكو من مظاهر ضعف الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي بما جعلها تعلن عن التمديد في حالة الطوارئ حتى شهر جانفي المقبل تحسبا لما عسى أن يجد على الساحة من أحداث قد تؤثر سلبا على سيرورة التئام المؤتمر في ظروف عادية خاصة وأن ظاهرة عدم الاستقرار أصبحت عالمية ولا تخص تونس وحدها.

 

والرهان اليوم هو رهان تونس بكل مكوناتها السياسية والمدنية وكل الأطراف مدعوة للمساهمة في إنجاح المؤتمر خاصة من خلال إيجاد التوافقات السياسية الضرورية لتمرير مشروعي الميزانية وقانون المالية لسنة 2017 حتى لا ينعقد المؤتمر والتونسيون منقسمون حول موازنتهم المالية السنوية فما بالك إذا تعلق الأمر بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى. فمناخ العلاقات الاجتماعية يغلب عليه التوتر حول مقترحات مشروع قانون المالية خاصة فيما يتعلق بمقترح إرجاء الزيادة في أجور القطاع العام والإجراءات الجبائية المتعلقة بسلكي المحامين والأطباء والزيادة الاستثنائية في نسبة الأداء على المؤسسات الاقتصادية. ولكن عندما تكون الأوضاع الاقتصادية على هذا الحد من الخطورة بما يهدد الأمن الاقتصادي وحتى لا نضطر إلى "إكراهات" لا طاقة لنا بها وبعيدا عن أي مزايدة في المواطنة فإن كل الأطراف مدعوة إلى تحمل مسؤولياتها الوطنية في هذه الظروف الاستثنائية في إطار توزيع عادل لأعباء المرحلة حتى لا تصير الأمور إلى الأسوإ لا قدر الله .وفي الوقت الذي ندعو فيه الأطراف المعنية بتلك الإجراءات إلى توخي المرونة اللازمة في مناقشاتها مع الحكومة لأن الأمر يتعلق بتأمين الشروط الضرورية لتوفير التوازن في المالية العمومية وتجنب المزيد من الانزلاقات التي تؤدي إلى ارتفاع كارثي في عجز الميزانية بما يسيئ إلى توازنات الاقتصاد الوطني ويجعله غير قادر على استعادة عافيته ونحن نطوق إلى إعادة دفع عجلة التنمية من خلال تحريك نسق الاستثمار الداخلي والخارجي، فضلا عما قد يؤدي إلى مزيد ارتهان السيادة الوطنية بمواصلة اللجوء المفرط إلى الاقتراض الخارجي، نؤكد على أهمية أن تسعى الحكومة إلى استشراف كل الإمكانات الإضافية أو البديلة لتأمين التوازن المنشود للميزانية في إطار الحرص على التوزيع المتوازن للأعباء وتحقيق العدالة الجبائية بما في ذلك الإعلان عن التدابير اللازمة لتوسيع القاعدة الجبائية حتى تشمل الأنشطة والمهن والفئات المخلة بواجبها الضريبي ولتحسين أداء مصالح الرقابة الجبائية ومصالح الاستخلاص بإعادة توظيف الموارد البشرية المتاحة ودعمها كما وكيفا دون اللجوء إلى انتدابات جديدة تكبل الميزانية وذلك للحد من التهرب الجبائي ومقاومة التهريب وإدماج التجارة الموازية في الدورة الاقتصادية، فضلا عن تفعيل الإجراءات الخاصة بمقاومة الفساد في إطار العدالة وتطبيق القانون بكل شفافية، كل ذلك مع الحرص على التحكم في نسبة الضغط الجبائي لأن الارتفاع في نسب الضرائب لا يشجع على إنماء الأنشطة الاقتصادية بل قد يكون سببا في انتشار مظاهر التهرب والفساد التي نسعى للحد منها.

 

بالطبع ضمانات النجاح لا تقتصر على عقد المؤتمر في حد ذاته الذي سيلتئم بمشيئة الله في أحسن الظروف المتاحة على أمل أن يكون الحضور في مستوى الطموحات داخليا وخارجيا من حيث الكيف والكم والقدرة على استيعاب رهاناته ومدى الالتزام  بالتفاعل معها حاضرا ومستقبلا ، بل يتعلق الأمر أساسا بما بعد المؤتمر بالإسراع في استكمال كل التشريعات والتراتيب والإجراءات العالقة في علاقة مع رفع نسق الاستثمار الداخلي والخارجي لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستدامة من أجل دفع التشغيل وخلق الثروة والنهوض بالتصدير، وإذ ستكون المشاورات الجارية بين الحكومة والأطراف المعنية بالتوازي مع مناقشات الميزانية صلب لجان مجلس نواب الشعب فاصلة في هذا الشأن فالأمل كل الأمل أن تهتدي الأطراف المتفاوضة إلى التوافقات الضرورية قبل نهاية شهر نوفمبر حتى يطمئن التونسيون على الموازنات المالية والاقتصادية للسنة القادمة بدون حيف ولا ابتزاز لأي طرف على حساب آخر وفي ظل علوية القانون والحوكمة الرشيدة في إدارة الشأن الوطني في الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد .وقد يكون ذلك أحسن مؤشر سياسي واقتصادي واجتماعي تقدمه تونس لضيوفها وشركائها في مؤتمر الاستثمار ليزدادوا ثقة في مصداقية التونسيين وقدرتهم على تجسيد طموحاتهم في التعويل على قدراتهم الذاتية للنهوض ببلادهم وفي التعامل مع شركائهم الاقتصاديين بكل جدية في إطار من الشراكة المتكافئة والمتوازنة.

 

ويأتي قانون "دفع الاستثمار" كنظام استثنائي للتحفيز لفترة محددة بثلاث سنوات قد يكون بالتوازي مع التفكير في إعداد مخطط ثلاثي للتنمية عوضا عن المخطط الخماسي وهي مقاربة هادفة إذا تعلق الأمر بخطة إنقاذ اقتصادي (plan de sauvetage) ترمي إلى إعادة هيكلة التوازنات الكبرى للاقتصاد حتى تصبح مطابقة للمعايير المتبعة دوليا وحتى يوضع حد للانزلاقات المسجلة في هذا المجال ويستعيد الاقتصاد توازنه وعافيته ليصبح قادرا على تحقيق نسب نمو تستجيب لمتطلبات خلق الثروة وتوفير مواطن الشغل للعاطلين ودفع التصدير بما يعيد التوازن للميزان التجاري ولميزان الدفوعات ويسهم في دعم واستقرار قيمة الدينار بما قد يفتح آفاقا جديدة في علاقة مع الطوق على المدى المتوسط إلى اتخاذ خطوات لتحرير ولو جزئي في المعاملات الاقتصادية مع الخارج. المقاربة تنم عن براغماتية سياسية وواقعية اقتصادية تعتمد المرحلية في التعاطي مع الأزمة التي تمر بها البلاد على أن يتم بالتوازي الانكباب خلال الفترة المقبلة على تحيين منوال التنمية الشاملة والمستدامة انطلاقا من التقييم الموضوعي والمعمق للتجارب السابقة واعتبارا لمستجدات المرحلة الجديدة، ثم يتم على هذا الأساس الانطلاق في إعداد تصور عام لآفاق التنمية على مدى العشرية 2020- 2030، فالشروع في الإعداد للمخطط الخماسي 2020 – 2024. وفي نفس السياق قد يكون من الأفضل التفكير في الرفع من فترة قانون دفع الاستثمار حتى يشمل المخطط الخماسي المقبل في إطار تجسيد الإرادة السياسية لدفع التنمية في الجهات الداخلية والمناطق غير المحظوظة على أساس التمييز الإيجابي. وإذ تم التسريع في إصدار القانون المتعلق بمجلة الاستثمار (للضرورة) وبعد تأخير كبير فالأهم هو الإسراع في نشر النصوص التطبيقية للقانون مع الحرص كل الحرص على تأمين الدقة والوضوح وتيسير الإجراءات واختصار الآجال واجتناب مظاهر البيروقراطية حتى يعرف المستثمر التونسي والأجنبي ما له وما عليه بكل سهولة وبدون الحاجة إلى تأويل النصوص لا من طرفه ولا من طرف المصالح الإدارية لأن النصوص الغامضة أو المعقدة إلى جانب البيروقراطية والفساد لا تشجع على عودة الاستثمار. على صعيد آخر وباعتبار حجم مبادلاتنا الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي الذي يبدي حرصا كبيرا على إجراء نقلة نوعية "استراتيجية" في علاقاته مع تونس (تأمينا لمصالحه) من خلال اقتراح مشروع "اتفاق للتبادل الحر الشامل والمعمق" (أليكا) يحمل في طياته كما هائلا من السياسات والمبادرات والمقترحات النوعية التي تبدو مغرية ولكن يعوزها الغطاء المالي الضروري المرقم فيما عدا بعض المبالغ المتواضعة التي لا ترقى إلى مستوى الانعكاسات المالية المتوقعة للتنظيرات المقترحة. وإذ يشير المشروع في نثره إلى فكرة "خطة مارشال" فلا بد من تقييم الحجم المالي للخطة على مدى عشر سنوات على الأقل بما يكفي لتغطية برامج الإصلاح وإعادة التأهيل لعديد القطاعات الاقتصادية حتى تكون قادرة على تحمل منافسة القطاعات الأوروبية المماثلة في ظل التبادل الحروفي غياب هكذا خطة بحجم مالي كاف مع التنصيص على المرحلية المريحة لتطبيق السياسات المقترحة وعلى إجراءات تحفظية لفترات محددة إذا اقتضى الظرف الاقتصادي ذلك فإن المشروع سيكون غير متكافئ ولن يكتب له النجاح ولو لطرف واحد وبالتالي تضيع الفرصة أمام الطرفين لتحقيق النموذج المنشود للتعاون بين ضفتي المتوسط  حتى يكون مثالا يحتذى به في العلاقات بين الشمال والجنوبإلى جانب ذلك ومع المضي في تثمين فرص التعاون والشراكة مع الولايات المتحدة ودول أميركا الشمالية ومع الفدرالية الروسية والدول الاسكندنافية لابد من تفعيل كل مجالات التعاون والشراكة مع دول الفضاء المغاربي ثنائيا في انتظار إعادة الروح إلى الاتحاد المغاربي والعمل على بلورة كل الفرص الكامنة في التعاون مع الفضاء العربي (على حاله الراهن) وخاصة مع الأسواق الإفريقية الواعدة ومع الدول الآسياوية الصاعدة.

 

فيما عدا ذلك تبقى وثيقة قرطاج بمثابة خارطة الطريق في غياب ما هو أوفى وأشمل ولعل من أهم بنودها ما يتصل بمقاومة ظاهرة الإرهاب الذي لا يزال يمثل التحدي الأكبر والأخطر والأعسر على الرغم من النجاحات الحاصلة على مستوى المعالجة الأمنية الحينية التي تبقى هشة ما لم تندرج ضمن المقاربة الشاملة على المدى المتوسط والبعيد وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي بتناول القضية من جذورها على المستوى الوطني من خلال المعالجة الهيكلية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والصحية للحد من هشاشة النسيج الاجتماعي والقطع مع مظاهر التهميش والإقصاء الاجتماعي بتوفير البنى التحتية والتجهيزات والمرافق الجماعية وخلق مواطن الرزق وفرص التشغيل في إطار برامج مندمجة للنهوض بالمناطق المهمشة أو غير المحظوظة لقطع الطريق أمام مغريات الحركات المتشددة المتعاملة مع الجماعات الإرهابية. وأمام هشاشة الأوضاع الداخلية أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا في الظرف الراهن لا مناص من استشراف وتفعيل كل فرص التعاون الإقليمي والدولي للمساعدة على تنفيذ السياسات المسطرة على الصعيد الداخلي وللتوقي من التهديدات الإرهابية في إطار التعاطي اليقظ مع الأوضاع الجيوسياسية المحيطة بنا مع الحرص على تأمين السيادة الوطنية.

المعادلة صعبة طبعا ولكن لا خيار لنا في خوضها من عدمه لأن الأمر يتعلق بمصير أمة بأكملها وبهيبة الدولة وبقائها في ظل ديمقراطية ناشئة وذلك خط أحمر بالنسبة لكافة التونسيين بمختلف أطيافهم وانطلاقا من هذا القاسم المشترك فلا مناص من الإقدام بكل جدية وبإرادة قوية على معالجة سياسية جذرية للوضع الراهن في البلاد من كل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها انطلاقا من وثيقة قرطاج لتطويرها إلى ميثاق سياسي-اقتصادي-اجتماعي شامل يجمع حوله التونسيون في إطار ندوة عامة للحوار الوطني تعقد تحت شعار "المصالحة الشاملة من أجل الوحدة الوطنية" في غضون الأسابيع  المقبلة وتتمحور مخرجاتها حول المعالجة الشاملة للإشكالات العالقة في إطار توافقات وطنية تجنب البلاد ويلات الفرقة والصراعات الداخلية بهدف تنقية المناخ العام في البلاد وتقوية الجبهة الوطنية في تضامنها وتآزرها من أجل استكمال إعادة بناء الدولة وتفعيل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتفق عليها مع التأكيد كل الـتأكيد على إعادة الاعتبار لقيمة العمل فالعمل ثم العمل لأنه لا خير في شعب لا يأكل مما ينتج ولا كرامة ولا حرية لأمة تأكل من يد غيرها وذلك فضلا عن تأمين الإستقواء على مجابهة التحديات الجيوسياسية المحيطة بنا وما تحمله من تهديدات إرهابية خطيرة قد لا نقوى على التعاطي معها بنجاح في ظل أوضاعنا الراهنة. وتبقى كلمة السر لكسب الرهان وتجسيد الاستثناء التونسي أو الربيع التونسي هي المصالحة الشاملة في إطار الحوار والتوافق في ظل الوحدة الوطنية الحقيقية وفي مناخ حضاري يسوده التضامن والوئام والتسامح والعدالة الاجتماعية في إطار نظام سياسي تحكمه الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات.

صالح الحامدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.