أخبار - 2016.10.16

عبد الحفيظ الهرڤام : الفضيلة من أجل إصلاح أوضاع تونس

عبد الحفيظ الهرڤام :الفــضـيـلــة

تتالى الظواهر الصادمة التي أضحت جزءا من المشهد العامّ في تونس منذ أن استبدّت بالبلاد في السنوات الأخيرة أزمة سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية خانقة: جرائم قتل فظيعة يذهب ضحيّتها أحيانا والد الجاني أو والدته أو فرد من أسرته، ومربّون وموظّفون عموميّون منهم من هو رمز من رموز السلطة يتعرّضون للعنف ـ وآخر حادثة استفزّت مشاعر الرأي العام اعتداء إمرأة بالعنف على معتمد سيدي حسين السيجومي ـ وأملاك للدولة تستباح، منها ما يناهز 68 ألف هكتار من الضيعات الفلاحيّة منذ 14 جانفي 2011، واعتصامات واحتجاجات تلحق أضرارا جسيمة بقطاعات حيويّة كالفسفاط والمحروقات، وفساد يستشري في المصالح الإدارية وفي العديد من مفاصل الدولة... تلك هي بعض الظواهر، نذكرها على سبيل المثال لا الحصر، لأنّها ليست في الحقيقة إلّا غيضا من فيض.

ماذا تبطن هذه العلل التي تشكو منها البلاد اليوم؟ ومن هي الأطراف التي تتحمّل مسؤولية استفحالها؟ وأيّ طريقة ممكنة لمعالجتها؟

في البداية، لا مناص من الإشارة إلى أنّ تونس لا تختصّ بمفردها بما سبق تبيانه من مواطن اعتلال، فكلّ بلد يعيش مرحلة انتقال ديمقراطي وتحوّل اقتصادي واجتماعي يمرّ حتما بفترة تأزّم، نتيجة مخاض مرهق عسير، يقاسي خلاله كروبا مضنية ليطرح عنه أدران الماضي ويُقبل بثبات على عمليّة إعادة البناء والتأسيس. غير أنّ العديد من التونسيين أصبحوا اليوم يتوجسّون خيفة من استمرار وتيرة الانحدار والسقوط، أمام انتشار ألوان من الهدم والتخريب وتعثّر مسيرة الإصلاح المنشود. 
فعندما تتصدّع أركان الوعي الجمعي وتتراجع قيم ضرورية لتماسك الأمّة كالوحدة الوطنيّة والحسّ المدني والانسجام الاجتماعي والعمل والجهد والتضامن والصدق، فذلك بلا ريب مؤشّر لأزمة قيم وأخلاق قد تتحوّل إلى أزمة مجتمع. ولعلّنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ من معضلات تونس أزمة القيم والأخلاق هذه، وهي بُعد من أبعاد أزمتها الراهنة ذات الجوانب المتعدّدة، والمسؤولة عنها، في تقديرنا، أطراف ثلاثة على الأقلّ وهي:
أوّلا: المواطن الذي يتوقّف على مدى وعيه ونضجه كلّ إصلاح. في زمن الأزمات التي تضعف فيها الدولة وتعمّ فيها حالات الانفلات والفوضى، غالبا ما يفقد الفرد التبصّر والتعقّل فتتملّكه عواطف طائشة ويندفع مأخوذا بـ «سيكولوجية الجماهير» لا تردعه في ذلك سوى قوّة القانون.
أيّ دور أخطر من دور المواطن في تجاوز الظرف الذي تعيشه تونس، بالمساهمة، عن اقتناع ورويّة، في ما تعتزم الحكومة  تنفيذه من خطط وبرامج لإخراج البلاد من نفق الأزمة؟ إنّ إدراك المواطن لأبعاد مسؤوليته المجتمعية هو شرط أساسي من شروط الخلاص الوطني، وذلك من خلال القيام بواجبه المهني إلى جانب واجبـــاته الأخرى ومنها الواجب الجبائي، واحترام القــــانون وقــــواعــــد السلوك الحضاري والتحلّي بالحسّ المدني، علاوة على الحفــاظ على الممتلكات العامّة  وســــلامة البيئة.
ثانيا: فضاءات التنشئة الاجتماعية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام. فقد بات من الواضح اليوم أنّ الأسرة مسؤولة بقسط وافر عن هذا الوضع المأزوم بسبب تراجع دورها في تربية الأبناء ورعايتهم، شأنها في ذلك شأن المدرسة التي لم تُوفّق دوما في نشر ثقافة المواطنة وتأصيل التربية المدنيّة لدى الناشئة، وتلك نقيصة لا بدّ أن يتداركها الإصلاح التربوي. كما أنّ المؤسسة الدينيّة ظلت حبيسة خطاب تقليدي، عاجز عن مواكبة تحوّلات المجتمع، ممّا يصعب معه تعميق الوعي المواطني لدى الفرد وتبصيره بواجباته في مرحلة دقيقة كهذه. أمّا النسيج الجمعياتي، فقد بقي مقصّرا هو الآخر في النهوض بأعباء التوعية الاجتماعية، على الرغم من عدد الجمعيات الطائل، والذي يفوق ثمانية عشر ألف جمعية. ولعلّ ما يسترعي الانتباه الشبهات التي تحوم حول العديد منها من حيث أهدافها الخفيّة ومصادر تمويلها.وما سبق ذكره بخصوص هذا القصور في التوعية ينطبق كذلك على جانب من وسائل الإعلام التي شغلها البحث عن الإثارة وجلب اهتمام المتلقي بأيّ طريقة  كانت، عن الاضطلاع بوظيفتيها الاجتماعية والتربوية.
ثالثا: الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنيّة والتي تكمن مسؤوليتها في عجزها عن التأطير الجماهيري وبثّ الوعي المواطني بمقتضيات المرحلة الراهنة. وقد لمسنا هذا القصور زمن التوتّرات الاجتماعية، ولا سيّما إبّان أزمتي الحوض المنجمي و«بتروفاك» بجزيرة قرقنة. ولا خفاء أنّ جلّ الأحزاب اليوم -وعددها  206 - ليس إلّا مجرّد «باتيندات» لدكاكين  خالية من أيّ عرض سياسي. وباستثناء «حركة النهضة»، الحزب المهيكل الوحيد، فإنّ عددا من الأحزاب المشاركة في الحكومة أو التي تسعى إلى التموقع في الساحة لا تزال في حالة بناء أو إعادة بناء. أمّا «نداء تونس»، الفائز في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة والذي كان ناخبوه يعوّلون عليه من أجل إنقاذ تونس وتحقيق توازن في المشهد السياسي، فهو غارق إلى الآن في أوحال أزمته الداخليّة.
وغنيّ عن البيان أنّ للطبقة السياسية ضلعا في استفحال أزمة القيم والأخلاق، إذ حلّت الانتهازيّة والغوغائيّة و«الفهلوة» محلّ النزاهة والتعقّل وإيثار المصلحة الوطنية على المصلحة الخاصّة.
إنّ أزمة القيم والأخلاق التي تعيشها تونس اليوم، وهي تكابد من أجل استعادة عافيتها ونجاح مسار انتقالها الديمقراطي، لا تمثّل بالضرورة عارضا لانحدار المجتمع أو انحلاله، بل يمكن أن يكون مؤشّرا لحيويته، في فترة تحوّل مفصليّة.
ولا شكّ أنّ أهمّ قيمة ينبغي السعي إلى ترسيخها اليوم، سواء في مستوى الفرد أو في مستوى الجسم الاجتماعي  والمجتمع السياسي، قيمة الفضيلة (la vertu) التي يعتبرها المفكّر الفرنسي مونتاسكيو (Montesquieu) مبدأ أساسيّا من مبادئ الحكم الشعبي (gouvernement populaire)، مرادف الحكم الديمقراطي في عصرنا الحاضر.
عبد الحفيظ الهرڤام
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.