عامر‭ ‬بوعزة: من‭ ‬معاني‭ ‬فِعلِ‭ ‬جَمْجَمَ

الجَمْجَمَةُ أنْ لا يبِين كلامُ المَرْء من غيْر عِيّ، ذلك ما انتهى إليه علمُ ابن منظور في لسان العرب ضمن باب «جَمَمَ»، الأصلِ الثلاثي الذي اشتُقّ منه هذا الفعل، أما الجَمْجَمَةُ في عصرنا فهي: وضعُ «جامٍ» على منشور في حائط الفايسبوك، ومن غرائب الصُّدف اللّغوية أنْ ليس ثمّة فارق كبير في الدّلالة رغم اختلاف العصور وتبدّل الأوقات.

جمجم أي وضع «جاما» على منشور قرأه أو صورة رآها، واسم الفاعل منه مُجَمْجِمٌ، أما اسمُ المفعول فله صيغتان: مُجَمْجَمٌ له ومُجَمْجَم عليه، الأولى للشّخص والثّانية لما وقعت عليه الجَمْجَمَةُ مباشرة. ويقال فلان جَمْجَامٌ أيْ كثيرُ الجَمْجَمَة، وهي صيغةُ مبالغة تطلَق على الشّخص سخيّ العواطف الافتراضيّة كثيرِ التّردّد على صفحـاتِ الفايسبـــوك لا شيء يُلهيه عن شواردها، ولم تسعفنا اللّغة العربيّة على ثرائها حتى السّاعة بوصف مُفْرد للشّخص المقتّر في الجامات تقتيرا يصرفها كما لو كانت من حُرّ ماله، الاّ أن تقول فلانٌ قليلُ الجَمْجَمَة.

الجَمْجَمَة فعلٌ افتراضي له امتدادات واقعية جَمّة، فمن معانيه الأصليّة أن يكون المُجَمْجِمُ مُعجَبا حقّا بما جَمْجَم عليه مُوافقا من جَمْجَم لهُ الرّأي، وأحيانا أخرى يكون المُجَمْجِمُ مُعجبا بمن جَمْجَم لها غير معني حقا بما جمجم عليه إذ يكون له في الجَام مآربُ أخرى، ومن معانيه الفرعية أن يُجَمْجِمَ المُجَمْجِم اقتداء حتى لا يقال فلان لم يُجَمْجِمْ على هذا! والجَمْجَمَةُ على وجه الفضل لمن كانت جاماتُه قليلة، والجَمْــجَمَةُ على وجه الفضول لمن كانت جاماتُه مثـيرة، والجَمْجَــمَةُ قد تصــل ما انقطع من روابط الناس في الحقيقةكما قد تكون مطيّة لقطع ما اتّصـــــل، ألمْ تَرَ إليهــم يختصـــــمون في الجامات الطائشة والجامات الصديقة؟ وللجمجمة في هذا تقاليد عريقة منها ألاّ يُجَمْجِمَ المرءُ لنفسه حتى لا يكون كمن يقبّل صورته في المرآة أو كمن يجري وراء صوته ليسمعه!

الجَمْجَمَةُ عند أجدادنا الأُوَل هي التّكلم قصدا دون إفهــام، وجمــجم في صـدره شـيئا تعـني في اللّسان أخفاه ولم يُبْده، وإذا شئت فالجَمْجَمَةُ مرادفة للغمغمة، يلجأ إليها المرءُ في موضع يتحرّج فيه من الإفصاح، فيتعمّد التّكلّم دون إيضاح، وهي كما قد رأيت معانٍ تُطلب في الجَمْجَمَة الحديثة فتُدرك!

عامر بوعزة