أخبار - 2016.09.27

د‭. ‬عمّار‭ ‬المحجوبي: البلاد‭ ‬التّونسيّة‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الرّوماني

د‭. ‬عمّار‭ ‬المحجوبي: البلاد‭ ‬التّونسيّة‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الرّوماني

لئن تعدّدت المؤلّٓفات والدراسات حول الحقبة الرومانية في تاريخ تونس، فإنّ كتاب «البلاد التونسية في العهد الروماني» للأستاذ المتميّز بالجامعات عمّار المحجوبي، الصـادر بتونـس سنــة 2016 عن «تبر الزمان»، يختلف في مضمونه وفي مقاربته للحدث التاريخي عمّا سبق نشره في هذا الشأن. ذلك أنّ الكاتب الذي يعدّ من أبرز المؤرخين التونسيين  وأحد أعمــدة الجامـعة التونـسيّة اخـــتــار أن يلقي الضوء في الفصل الأخير من مؤلفه على مسألة الخواصّ ونمط عيشهم في العهد الروماني، إذ يرى أنّه كان لزاما عليه أن يتناول هذه المسألة في ضوء الاهتمام المتعاظم اليوم بقيم المواطنة ومكانة المواطن في المجتمع، منذ أن شهدت تونس مع مطّلع سنة إحدى عشر وألفين «فجر عهد جديد لم تشهد له مثيلا ولم تألفه، كما لم تشهده سائر البلدان العربية ولم تألفه. عهد وهب التونسي حرية التعبير عن رأيه والإصداع به في المجال العام، وحرية الاجتماع والتحزّب، وحرية الضمير والمعتقد، فمنحه ملكة الارتقاء من وضعية الرعيّة إلى منزلة المواطنة وكرامة المواطن، وأهّله للإسهام في حكم بلاده وفي تقرير مصيرها»، كما يوضّح ذلك في التمهيد. يدرك القارئ الجهود المضنية التي بذلها الكاتــــب من أجـــل انتقـــــاء مادّتــه من بين المصادر العديدة والمتنوّعة والمعطيات المبعثرة، في النصوص الروائية والحقوقية وفي النقائش التشريفية والمأتميّة وفي النحوت ولوحات الرسم والفسيفساء، لعرض لوحات حيّة عن الخواصّ ونمط عيشهم في العهد الروماني، وذلك بأسلوب جذّاب وبلغة راقية سلسة وبمنهج بحثي صارم، ممّا شكّل أوجه تميّز الكتاب وطرافته. من هذا المؤلّف القيّم الذي جاء ليثري المكتبة التاريخية، ننشر مقتطفا من فصله الخامس والأخير.

التربية ومراحل التعليم

ما أن يُولد للأسرة الميسورة ابن أو بنت حتّى يودع إلى حاضنة ترضعه وتسهر على تربيته، ومعها مربّ يلقّنه العناية بنظافته وهندامه، فيقضي معهما الرّضيع يومه ولا يعود إلى أمّه إلاّ في المساء، عندما تتناول الأسرة العشاء مجتمعة مع بعض الأقرباء والضّيوف. فكانت علاقة الطّفل بحاضـــنته ومربّيه عــادة حميــــمة لما يلـقاه منهـا من ودّ ورعاية وتساهل، رغم استياء بعضهم من تذكّر ما لاقاه من قسوة حاضنه وسوء معاملته كلّما أخطأ أو اقترف ذنبا. وكثيرا ما كان الوجيه يســهــر علـى تربـــية ابنـه بعيـــــدا عن مــنزلـه في المدينة حيث تعجّ الدّار بالخدم والأقرباء، ويلحظ الطّفل ويسمع ما قد لا يليق بحسن تربيته وتهذيبه، فيرســله إلى الرّيــف ليُقيـــم في ضيعته حيث تقطن جدّة ترعى الطّفل وتراقب حاضنيْه. ولنا كذلك عن لهو الأطفال وألعابهم عدّة أمثال رسمتها النّحوت البارزة على واجهات التّوابيت واللوحات التّي ازدانت بها جدران بعض البيوت. فهذا طفل يركب عربة صغيرة تجرّها دابّة قصيرة وبيديه سوْط ومقود، وهاته فتيات وهؤلاء أطفال يتلقفون كرة صغيرة أو يتنافسون على حسن رمايتها، وهذه صبية بيد كلّ منهم جوزة يسعى برميها إلى إصابة كومة من الجوز.

ومهما كان حجم المدينة ومهما كانت منزلتها ففئة الوجهاء المهيمنة فيها تحرص دوما على أن يكون البون شاسعا بينها وبين الفئات الدّنيا. فلا نرى رسما أو نحتا لوجيه إلاّ وفي يده كتــاب ملفــوف يقيـــم الدّليـــل على وجاهته وانتمائه إلى الفئة المحظوظـة. وفي مسكـه للكتــاب كــذلك دليـل على توظيف الثّقافة توظيفا اجتمــــاعيــّا، وعــــلى تحويلـها إلى ثقافة خاصّة بأهل الجاه، ونـمط من الأخــلاق ومن المعاملات فيما بينهـــم يميّزهــــــم عن العامّة. ولذا فما أن يبلغ الطّفل سنّ السّابعــــة حتّى يُســارع المــــــربّي إلى اختيار الأماكن والأوضاع التّي تجعله يثق بضرورة التّـرفّع عن العامّة، ويَقنع بجاه ومرتبة الفئة التّي ينتمي إليها. فيقوده إلى ساحة الفُورومْ، ويُــــدخله قــاعة تفــتح على السّاحـة حيث يقـــدّمـه إلى أساتذتــه وإلى نُظـرائه اجــتماعيا وأقـرانه في الدّراسة، ليتلقّى دروسا ويُلَقن سلوكا ومعاملة تأهّله للحياة العامّة واتّخاذ المواقف اللائقة بمقام فئته الاجـتماعية. لكنّ الحياة العـامّـة كانت مليـئــة بأشكـــال من الرّذائل وألوان من المنكرات، فيحرص المربّي على تقوية شخصيّة الطّفل وتثبيتها، حتّى تكتـسب من قوّة الجـأش ومن العزيمـة ما يمكّنه من الصّـمود والثّــبات والمثـابرة في مقاومة الغريزة الأمّارة بالسّوء والميّالة إلى التّرف والميوعة.

وفي تلك المدارس المطلّة على ســـــاحة الفــوروم يتــــلقّى الطّـفــل والطّفــــلة مع أقرانهما تعليمـا لم يكن في حقيقة الأمر حكرا على أنجال الأغنياء. ففي كلّ مدينة، وكذلك في كلّ قرية سعت إلى بلوغ منزلة «المدن» بوجود ساحة صغيرة تتوسطها مع حدّ أدنى من المعالم العموميّة، يتولّى «معلّم الابتدائي» تلقين أطفال «الطبقات الوسطى» القراءة ومبادئ علم الحساب والكتابة بقلم من قصـب على لـوح صغـير، أو بسنان على صحيفـة من الشّمع. و«الطبقات الوسطى» مصطلح يجمع الغنيّ والميسور صاحب الضّيعة الشّاسعة والضّيعة المتوسّطة، وكذلك في ذيل التّرتيب صاحب الحقل المتواضع والدّخل البسيط من سكّان المدن الصّغيرة. لكنّ «الطبقات الوسطى» فئة قليلة في كلّ مدينة، ولا شكّ في تفشّي الأميّة رغم حفظ بعضهم، في أقصى مدن الولاية وأصغرها، للأبيــات الشّائــعة من الأشعار. وربّ عبد من رقيقها ذكرت المصادر أنّه كان يحسن قراءة العناوين واللاّفتات، كما كان يحــسـن بعــــض من كــان ينتـــمـي إلى الطبقات الدنيا القراءة والكتابة. وفيما كتب على شـواهد القــبور، في عديد المدن الصّغرى، دليل على دراية محرّرها ببعض النّصوص الأدبيّة الكلاسيكيّة، بإملاء أديب المديـنة أو بإملاء معلّمها. وفي أهمّ المدن وأكبرها كما في أقلّها أهميّة وأصغرها حجما تزخر النّقائش، على واجهات المعالم وعلى التّماثيل والأنصاب، للإشادة بالأباطرة والــوّلاة، ولتمـجيد النـبلاء والوجهاء وذكر مراتبهـم ومـناصبهم وألقابهــم. كما تزخر المقابر بالشّواهد التّي قد تـــورد في نصـوصها أبيـــاتا من شعر ورجــيليوس حفظها المحــــرّر في صبــاه ولا زالت تتناقلها الألسن. علاوة على كلمات متناثرة وملاحظات ساذجة نُقشت على الجدران، ونقائش أخرى أعدّها بعض العرّافين لوقاية زبونه من العين الشّــريرة، أو للتـوسّل إلى الشّياطين كي تكيد لأعدائه وتفتك بهم. وفي غزارة هذا الكمّ من النّقائش تأكيد على أنّ عددا هامّا من الصبية، ذكورا وإناثا، كانوا يراودون معا مدرسة «معلّم الابتدائي». لكنّ هذا العدد يتضاءل عندما يبلغ الصّبية السّنة الثّانية عشر من عمرهم. عندها تصبح الدّراسة حكرا على أنجال الأغنياء وعلى الذّكور فحسب، باستثناء بنت بعض الأثرياء، إذا ما حظاها والدها بتكليف مدّرس  يتردد على بيتها لتلقينها النّصوص الأدبيّة الكلاسيكيّة.

والبنت عند الخــاصّة تقبــع لا محــالة في البيت، إذا ما بلغت هذا السّن وصارت على أهبة الزّواج. فلا شغل لها سوى العمل المنزلي وغزل الصّوف الذي تردّدت صورته على لوحـــات الفسيفــساء، مع تكريس وقت طويل للتجميل والتبرّج. لكنّ الرّغبة قد تطفو، عند بعضهّن أحيانا، ممّن كان لهنّ قدر من المواهب، لتعاطي التّدريـــب على ممارسة الغناء والرّقص والعـــزف على آلة موسيقيـــّة. فلا حرج علــيها في تعاطي هوايتها، إذا ما قيل أنّها امرأة شريفة عفيفة، تتحلّى بمتطلّبات التّحفّظ والحياء. وفيما كتبه زوج على قبر قرينته في مدينة مَقْتاريسْ (مكثر) ضرب من هذه الخصال التّقليديّة التّي تتحلّى بها أو تتظاهر بها الزّوجة عند الوجهاء: «طيـلة الثّلاثين سنة التّي مُنحت لها عاشت هذه المـرأة مع زوجها بلا لوم ولا عتاب، لا شيء تريده سوى فرحة بيتها. كانت أمّ شابّ لطيف وعاشت بروح بريئة، لا تقطع من خيراتها وخيرات زوجها للوازم الزّينة إلاّ القليل. كانت أمّا لأسرتها، على قدر كبير من الوفاء لزوجها، ومن فرط الحيـــاء لذاتــها، لا غضب يساورها ولا شتم يصدر منها لينال الغير أيّا كان. تحلّت بالأخلاق الحميدة فأهمــلت زينتها واتّخــذت من الحيــاء رفيقا لروحــها الورعـة ». والزّوج لا محالة هو الذي يتولّى فعلا تربية زوجته الصّغيرة التّي تزّوجها عند بلوغها سّن الرّابعة عشر أو قبلها بقليل. لكنّ عناية جلّ الأزواج بتثقيف قرينتهم وتعليمها كانت نادرة. ولا حرص عندهم عــادة إلاّ على وفائها وطاعتها.

وبينما كانت البنت تتأهّب للزواج كان الولد قد انتقـل إلى المــرحلة الموالــية من التّعليم ليلقّنه القَرَمَّاتِيقُوسْ (grammaticus) خلالها بصرامته المعهودة نحو اللّغة اللّاتيــنيّة وصرفــها، والكلاسيــكي من نصوص الأدباء، وكذلك المألوف تداوله من قصص الميثولوجيا. وقد كان على كلّ مثقّف أن يُلمّ بقصصها إجمالا، بينما كان بعضهم يفخر بمعرفة أدقّ تفاصيلها. دون أن يصحب المعرفة اعتقادا وإيمانا بآلهتها أو قناعة بصّحة قصصها، وعجيب رواياتها.

وكان على الطّــفل أن يحفـــظ قـــدرا من شعر وِرْجِيلِيُوسْ (Virgilius) وأن يشرح نصوص قِيقِــرُو (Cicero) وأن يطّلــع على ما ذاع صيته من نتاج معــاصريه. وإذا ما كانت أسرته ميسورة ورام الانتماء إلى معشر المثقّفين فدراسة اللّغة الإغريقيّة وآدابها كانت تعدّ من اللّزوميات، لأنّ الإغريقيّة كانت طيلة العهد الرّوماني لغة الثّقافة والعلم، ولغة الكنوز الأدبيّة والمذاهب الفلسفيّة، ولغة تدريس الطّب والعلوم. وفي القرنين الثّاني والثّالث كان تعلـــيم الإغريقــــيّة رفيع المســــتوى في بعض مدن الولاية الإفريقيّة، ومن بينها مَادُورُوسْ (Madauros) موطن الكاتب الإفريقي الشّهير أَبُولِيُوسْ (Apuleius)، لكنّه تدهور وانحطّ في القرن الرّابـع، في عهد أَوْغُسْطِينُوس (Augustinus) الذي كثيرا ما اشتكى صعوبة تمتّعه مباشرة بنفائس أدب الإغريق وفلسفتهم لقلّة زاده وقصر حذقه للغتهم.

وعندما يبلغ الطّفل سّن الرّابعة عشر يترك ثياب الطفولة وينزع قلادة العنق وتمائمها ويتهيّأ لفترة المراهقة. فينتقل إلى آخر مراحل التّعليم، مرحلة الرِّيتُورْ (rhetor) الذي يتولّى تلقينه نهج الفصاحة وفـــنّ الخــطابة، مستــشهدا بالبلـيــغ من النّصوص الأدبيّة وبالفصيح من الخطب الشّهيرة. وللبلاغة عند فئة الوجهاء بالغ الاعتبار. فيفخر بكسبها الطّفل الذي يُلَقّن وصفةً تُلخّص قواعدها، وقد تصوّره نحوت التوابيت وهو يُلقي خطبة بين يدي والده، ماسكا باليسرى كـتابا يرمـز إلى ثقافة الفئات الوجيهة، ورافعا يده اليُمنى اقتداء بحركات الخطباء، عند تأكيدهم بالإشارة والصّوت على أهمّ مـقاطع الخــطبة. والنّجــيب من التّلاميذ كان من استطاع منهم محاكاة نماذج مثاليّة من الخطب، سواء كانت سياسيّة أو قضائيّة، وأحسن استعمال بيان تعابيرها وتعلّم تطبيق قواعــدها، مكتسـبا بــراعة فائـــــــقة في كيفـــيـة طــرق مواضـــيع لا صلة لها بالواقع، لكنّها مليئة بالمتناقضات والمواقف العاطفيّة المثيرة. فكان تعليم الريتور غاية في حدّ ذاته، وتمرينا واجبا على كلّ طفل، لكنّه كان دون أيّ صلة بالواقع المعيش، ولا أيّ اهتمام به، ولم تكن له أيّ صلة بالحياة الاجتماعيّة. وممّا كتبه الأسقف أَوْغُسْطِينُوس في اعترافاته متذكّرا دروس الرّيتورْ: « ما حاجتي منها؟ ألم تكن بتمامها بمثابة هبّة الرّيح أو نفحة الدّخان؟ ». وأمّا برامـج هذا التّعلــيم في مرحلته الأخيرة، فهي باستثناء البلاغة مختصرة محدودة، فلا يُدرّس من الأدباء إلاّ قيقِرُو، ومن الشّعراء إلاّ تِرَنْسِيُوسْ (Terentius) ووِرْجيليوس الذي قد يحفظ بعض التلاميذ شعره عن ظهر قلب تلبية لنصيحة القرمّاتيقوس، ومن المؤرّخين إلاّ سَلُّوسْتِيُوسْ (Sallustius). ومهما كانت عيوب هذا التّعليم، فإنّ فئة وجهاء المدن وأثريائها كسبت بفضله زادا من الثّقافة اللاّتينيّة سمح لها بالتّميّز والسموّ عن العامّة.

عمّار‭ ‬المحجوبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.