أخبار - 2016.08.24

حاتم مراد: الدّيمقراطيّة‭ ‬التّونسيّة‭ ‬تتخطّى‭ ‬الصّعاب

حاتم مراد: الدّيمقراطيّة‭ ‬التّونسيّة‭ ‬تتخطّى‭ ‬الصّعاب

كثيرا ما يجري الحديث عن صعوبات الانتقال الديمقراطي، أو ما ينطوي عليه من غلو ومجاوزة للحد، دون الخوض بما فيه الكفاية فيما يكتنزه هذا الانتقال من وعود. فلكأنّ التونسيين قد نأوا بأنفسهم عن الاعتدال والتوازن، مغالين في العدمية ومغرقين في السلبية بعد حال من الصمت التام والشامل على مدى نصف قرن. هم يعتقدون أنّ فترة الانتقال الديمقراطي على قصرها لم تجرّ عليهم إلا الويلات المتتالية، غافلين عما تنطوي عليه الديمقراطية التي أصبحوا يتفيؤون ظلالها من أشياء جميلة لا تخفى على عين بصيرة. بل يمكن القول إنّ الديمقراطية في تونس آخذة في الترسخ، رغم وجع المخاض، بعد مرور خمس سنوات عن سقوط الدكتاتورية والحكم الاستبدادي.

لقد أصبح التونسيون يتمتعون منذ الثورة بحرية التعبير وبحرية التفكير وهم يمارسون هذه الحرية بدون حد وحتى بشيء من المغالاة والإفراط. لقد أرادوا دستورا ديمقراطيا فكان لهم ما أرادوا رغم ما في هذا الدستور من هنات بدأت تظهر للعيان تحت وقع الأحداث والمستجدات.

لقد أرادوا محاسبة «النهضة» على ضلالاتها ونادوا بإقصاء الإسلاميين من الحكم، وهو ما تجلى من خلال الضغوط التي مارسها المجتمع المدني واعتمادا على أحد الأحزاب الحداثية. لقد نحوا هذا المنحى بطريقة سلمية دون اللجوء إلى العنف، فذهبوا إلى انتخابات ديمقراطية تأسيسية وتشريعية ورئاسية. حصل ذلك في مرة أولى في سنة 2011، وفي مرة ثانية في سنة 2014، ولم يحيدوا قط عما تفرضه الأعراف والقواعد والممارسات الانتخابية والاحتكام إلى نتائج الاقتراع. وتصدى الفاعلون السياسيون والمنظمات المهنية إلى كل التعطيلات والأزمات السياسية وتوفقوا إلى تسوية النزاعات بالتـوافق والاعتــدال في اتخاذ المواقف والأخذ بالتي هي أحسن. حصل ذلك خلال الحوار الوطني الذي جرى عقب اغتيال محمّد البراهمي في جويلية 2013، وحصل بعد انتخابات 2014 من خلال التحالف الذي لم يكن منه بدّ بين حزب النداء وأحزاب علمانية أخرى وإسلاميي «النهضة» ، وهو يحصل حاليا من خلال «اتفاق قرطاج» والمبادرة الرئاسية بشأن حكومة وحدة وطنية. فالتوافق هو أساس الديمقراطية وجوهرها. بل وحصل أكثر من ذلك وأعمق. فها هو حزب النهضة ذاته بصدد إحداث انتقال إلى «التخصص» السياسي بدفع وحرص شديد من زعيمه راشد الغنوشي وذلك رغم بعض الصعوبات. هنالك حقيقة إرادة أكيدة لتغيير هذا الحزب الإسلامي بشذب طابعه الثيوقراطي، والحد منه، وبدفعه إلى الانخراط في اللعبة الديمقراطية. فالواقع يبقى هو الواقع ولا بد من الاعتراف به. أما أن تكون الأمور قابلة للتحقيق أم لا بالنسبة إلى الإسلاميين، فتلك حكاية أخرى القول الفصل فيها متروك إلى المستقبل وحده. طبيعي جدا في منطق السياسة أن يقرر رئيس حكومة الاستجابة لا إلى مشيئة رئيس الدولة الذي عينه، وإنما إلى إرادة الناخبين وإلى ممثليهم في البرلمان كما ينص على ذلك الدستور. طبيعي جدا في منطق الديمقراطية أن يقــرر رئيس حكــــومة لا يحظى بشعبية يعتد بها طرح مسألة الثقـة على البرلمــــــان. في فرنسا طالت سهام النقد رئيس الحكومة مانويل فالس وكذلك رئيس الجمهورية ذاته فرانسوا هولاند لرفضهما الاستقالة رغم ما يلقيانه من رفض ومنازعة داخل الأغلبية التي ينتميان إليها حسبما تظهره مواقف الرأي العام واستطلاعات الرأي.

ينص الدستور التونسي على أنّ الحكومة مسؤولة أمام البرلمان حتى عندما تكون معينة من طرف رئيس الجمهورية  (الفصل 95). ولا يستطيع رئيس الجمهورية بمقتضى الدستور ذاته تعيين أحد آخر غير ممثل الحزب أو الائتلاف الحائز على الأغلبية الفائز في الانتخـابات (الفصل 89)، وهو ما حدث بشكل قسري بما أنّ الحبيب الصيد قد حظي حين تعيينه بـ«قبول» علني وببعض التحفظ من قبل نداء تونس، وهو شيء معقول تماما ديمقراطيا. فالرئيس يعين ممثل الحـــزب المتحصـل على الأغلبــية في البرلمان رئيسا للحكومة، ومن الطبيعي، والحالة تلك، أن يمثل رئيس الحكومة أمام البرلمان للتأكد من أنّ نفس الأغلبية ماضــــية في منحه الثقة بما يخوّل له مواصلة الاضطلاع بمهامه السياسية. فهذا يتفق تماما مع روح النظام البرلماني. ولو عمد السيد الحبيب الصيد رئيس الحكومة إلى قبول تقديم الاستقالة نزولا عند رغبة الرئيس الباجي قايد السبسي، يكون قد قام بقراءة «رئاسوية» للنظـــام الســــياسي في البلاد، وهي قراءة كان رئيس الجمهورية مصرا تماما على فرضها بصفته زعيما للأغلبية السياسية. فكان الحبيب الصيد بموقفه هذا وفيّا تماما للنظام البرلماني روحا ومنطوقا وفقا للدستور. فالقراءة إذا صحيحة من وجهة نظر مؤسستية. واليوم وبعد سحب الثقة من حكومة الحبيب الصيد، عين رئيس الدولة على رأس حكومة الوحدة الوطنية التي وافقت على تكوينها  تسعة أحزاب وثلاث منظمات نقابية ومهنية ممثلة للمجتمع المــدني الشاب يوسف الشاهد (41 سنة) العضو القـيــادي في نداء تونس والوزير الحالي للشؤون المحلية في منصب رئيس الحكــــومة. وبذلك يكون الرئيس قد استعمـل حقه الشرعي، وبوسـعه أن يمـضي في ذلك قدما، آخذا بعين الاعتبار ميزان القوى والظرفية السياسية ومتطلبات الوفاق. وسيكون بوســع الرئيــــس ومن خلال واحد من مناصريه على رأس الحزب أن يؤثر بشكل أو بآخر في مجرى حكومة مؤلفة من عديد الأحزاب. فرئيس الحكومة هو الذي بيده رسم معالم النظام السياسية. لقد أيّد عدد من الأحزاب الموقعة على «اتفاق قرطاج» هذا التعيين، وقبلت الدخول في مرحلة تعيين أعضاء الحكومة.

أن يحظى الرئيس السابق للحكومة الحبيب الصيد القائم اليوم على تصريف الأعمال، أو خلفه يوسف الشاهد برضا الأحزاب أو أن لا يفوزا برضاها، فذلك شيء، وأن يستمر النظام الديمقراطي في العمل أم يتعطل فذلك شيء آخر. فأمر تعيين رؤسـاء الحكومات في الأنظــمة الديمقــراطية غير موكــول إلى الرأي العام. وقد حصل ذلك في الماضي على نحو غير مباشر بانتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية. كما أن للرأي العام إمكانية اللجــوء في كل وقت إلى محاسبة الأحزاب والأغلبيات الحاكمة في الانتخابات القادمة، وللرأي العام كذلك أن يحتفظ بحرية النقد. فنحن نرى بوضوح كيف أنّ الديمقراطية التونسية مستمرة وقائمة رغم المحن والمصاعب (الإرهاب والجهادية والأزمة الاقتصادية  والسوق الموازية والفساد والبطالة والاختلالات الجهوية والسياحة...) وكيف أنّ المؤسسات مستمرة في العمل على نحو طبيعي ورغم كل النقائص وفق التوجهات الصادرة عن مسيريها، فذلك يبدو جليا وداخلا في طبيعة الأشياء، فالبلاد لم تنساق وراء أعمال العنف أو الحرب الأهلية، والتغيرات السياسية جارية بشكل سلمي، والخصوم السياسيون يعترفون ببعضهم البعــض، كما أنّ الاقتراع العام يبقى محل احترام الجميع أحزابا وفاعلين سياسيين. وسائل الإعلام حرة وكذلك الصحافة. وهنالك إقبــال غير منقطـــع على الأخذ بأسباب الديمقراطية والتقيّد بقواعدها. الديمقراطية باقية رغم العـراقيـــل، بل تسعى غالــــبا إلى مداراتها وتجــاوزها. فعلينا أن لا نكون متشائمين أكثر من اللزوم، ولا متفائلين أكثر من اللزوم بشأن الحياة السياسية والديمقراطية التونسية. ولنعترف بكل تواضع وموضوعية بالأشياء كما هي، فلا نعمد إلى طمس طبيعتها وتأويلـــها في أي اتجاه كان.

حاتم مراد

أستاذ العلوم السياسية بجامعة قرطاج، رئيس مؤسس للجمعية التونسية للدراسات السياسية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.