أخبار - 2016.07.25

قصة جديدة يكتبها لكم علي اللواتي : كاترسيس في مطعم

كاترسيس  في مطعم

 في مطعم فخــم ذي شــــــرفة واسعة تسيّجها نباتات مزهرة وأشجار باسقة، جلس رجال ونساء وأطفال بملابس صيفيّة ووجوه عليها آثار النّعمة بينما كان النُّدُل يطوفون عليهم بالأطعمة والأشربة. كلّ شيء هناك، يوحي بالأناقة والرّفاه والتّناسق ؛ ورغم اعتدال الجوّ في تلك اللّيلة ورغم نسيم البحر الذي كان يحرّك النّباتات بلطف ويلهو بشعور النّساء فالوجوه بدت منغلقة في تعبير متجهّم والأطفال صامتون على غير عادتهم. كانت الأنظار تتّجه نحو ركن يجلس فيه شخص أمام طاولة تكدّس فوقها من الطّعام ما يزيد عن كفاية إنسان عاديّ...  سمك وبرغوث بحر ولحم وسلطات مختلفة! كان يأكل بأناة منتقلا من طبق إلى آخر، غير عابئ بنظرات الاستغراب والاستهجان التي تحاصره.

 

بدا «الميتر دوتيل» أكثر الحاضرين ضيقا بالرّجل. كيف لم يتفطن إلى قدومه ؟!.. لعلّه أتى بينما كان داخل المطبخ يستعجل إعداد الطّلبات أو عندما ألجأته الضّرورة إلى الحمّام؟  .. من الذي سمح له بالجلوس؟!..  تمنّى لو أمكنه طرده لولا أنّ القانون لا يجيز منع أيّ كان من دخول مطعم بحجّة أنّه يرتدي معطفا مهترئا في عزّ الصّيف ويعتمر «مظلّة» قشّ بالية تغطّى نصف وجهه.. أيّ هيئة مزرية تلك.. إنّها لا تليق بمطعم من مستوى «ثلاث شوكات»، وأيّ وقاحة أن يعكّر ذلك «المتشرّد» صفو ليلة صيفيّة رائقة من ليالي الأحواز الشّماليّة !.. ثمّ من هو النّادل الأبله الذي جلب له كلّ تلك الأطعمة المُقدّر ثمنها بأكثر من مائة دينار ؟!. ظلّ يتساءل ويتساءل ملقيا إلى الغريب نظرات قلقة، وزاد من غيظه أنّه كان منشغلا عنه بالأكل فلا يقرأ على وجهه مدى غيظه واستيائه من وجوده.  

 
ماذا لو أنّه من أولئك المتطفّلين الذين لا يدفعون ثمن ما يأكلون؟! .. لكن المشكلة ليست في أن يدفع أو لا يدفع بل في وجوده أصلا بتلك الهيئة المزرية... أحسّ  بفورة من الحرّ تجتاحه من الدّاخل حين فكّر في إمكانيّة قدوم صاحب المطعم على حين غرّة ! الرّجل حريص على سمعة مطعمه الذي يرتاده ذوو الرّفاه أو الشّخصيّات الرّسميّة.. قد يفصلُه عن الخدمة لو وجد المتشرّد هنا ولن يسهل عليه العثور على عمل في محلّ محترم كهذا..  والأدهى من ذلك أنّه مقبل في الأيّام القليلة القادمة على خطبة فتاة قبلت به أخيرا بعد تمنّع، فكيف يطلب يدها لو فُصل من العمل ؟!.. يجب أن يفعل شيئا ما.. عليه أن يجد أيّ ذريعة للتّخلّص من ذلك الطّفيلي حتّى لو اضطرّ إلى أن يسدّد عنه ثمن ما أكله من جيبه!» العرق يتصبّب الآن من كامل جسده الممتلئ وقد انضغط في بدلته السّوداء، واختنق بربطة «الفراشة» التي تشدّ ياقة قميصه  .. خرج عن هيئته الوقورة عادة وأخذ يذرع الممرّات بين الطاولات بخطوة متشنّجة مهمهما بألفاظ سوقيّة تنفلت منه كما ينفلت من الجسم ما لا يقوى الإنسان على ردّه؛ وعندما رأى الغريب يرفع برغوث بحر مشويّ من ذنبه ويحقّق النّظر فيه قبل أن يلتهمه متلمّظا، سرت تشنّجات في عضلات وجهه ولمع في عينيه وميض شرّ.. خامرته فكرة مجنونة ..
 
ماذا لو جلب سكّينا من المطبخ و... ولكنّ أمرا ما هدّأ من نقمته : لقد أحسّ بأنّ جلّ الحاضرين يقاسمونه مشاعر الانزعاج والاستهجان لوجود الغريب. كانوا يتبادلون النّظرات المعبّرة أو يتهامسون وهو منشغل عنهم بالأكل. قال أحدهم: «الوباء .. لم يترك في المطبخ شيئا!» .. قال ثان : «المسألة صحيّة يا أخي.. ألا يخشى البطنة ؟!». قال ثالث: وهل يخشى المتسوّلون البطنة. أضاف رابع : الغريب في الأمر أنّه يخفي نصف وجهه.. لعلّه يكون إرهابيّا متنكّرا في هيئة شحّاذ! أردفت امرأة جاوزت سنّ اليأس: «قد يكون منحرفا جنسيّا وذلك أخشى ما أخشاه !».. سمع الغريب بعض تلك التّعليقات وردّ عليها بنظرة دائرية أجالها من تحت «مظلّته» في الحاضرين  ممّا فاقم توجّسهم ثمّ أشار لأحد النُّدُل بالاقتراب فهرع  «الميتر دوتيل» إليه مستبقا النّادل وقال بجفاف:
ـ ألا يزال لديك طلب آخر يا سيّد؟ ملحّا على كلمة «آخر» بنبرة لا تخلو من سخريّة ؟ ! 
 أجابه الغريب بهدوء، دون أن يرفع عينيه عن الطّاولة: قهوة من فضلك، مع مُثلَّج ليمون.
ــــ نعم ؟!.
ــــ ألم تسمع ؟!.. قلت قهوة مع مُثلّج ليمون.. أرجو أن تحضرهما سريعا.
انتابت «المتر» رغبة جامحة في خنقه ولكنه كظم غيظه وقال:
ــــ حاضر .. ولكن هل لي أن أجلب أيضا ورقة الحساب ؟!
ــــ لم أطلب منك الفاتورة بعد .. هل اعتدتم إرغام زبائنكم على المغادرة بهذا الأسلوب الفجّ ؟!.
   ابتعد «الميتر دوتيل» وهو يستشيط غيظا وغاب داخل المطعم خشية أن يدفعه غيظه إلى ما لا تحمد عقباه. في أثناء ذلك كان يجلس على مقربة من الغريب رجل حليق الرّأس متجهّم الوجه، برفقة امرأة تشبك زهرة في شعرها الأصهب الأجعد. همس الرّجل لرفيقته : 
ــــ إنّه لصّ!
ــــ دع المسكين وشأنه، لا يمكن أن يكون أكثر لصوصيّة من صاحب المطعم، أرأيت لائحة الأسعار ؟!.
ــــ كفى مماحكة ! .. المتشرّد الذي يأكل بقيمة عشرات الدّنانير لا يمكن أن يكون إلاّ لصّا..
ـــــ هَبْ أنّه متشرّد.. أيّ ضرر في أن يأكل الفقراء أحيانا من مال الأغنياء؟!. لا يظفر المتشرّدون دائما بما يسدّ الرّمق..
 زمّ الرّجل شفتيه غيظا:
ــــ يسدّون الرّمق ببرغوث بحر ؟! يا للشّعور النّبيل !.. الأجدى أن نتحدّث فيما أتينا من أجله. 
ــــ لن نتحدّث في شيء حتّى تعترف بأنّك ترفض حقّ الحياة لغيرك!
   عندما عاد «المتر دوتيل» ومعه نادل يحمل فنجان القهوة ومُثلَّج اللّيمون، كان الغريب منشغلا بإطعام قطّة اتخذت لها مكانا بين الأطباق فوق الطّاولة. قال «الميتر» وهو يكاد يختنق:
ــــ من فضلك يا سيّد ..  قطّة شاردة فوق الطّاولة ؟!.. هذا المحلّ له سمعة .. أرجوك!
   أجابه وهو يُلْقِمُ القطّة قطعة سمك:
ــــ لا داعي للتّوتّر، أنت تخيف هذه القطّة اللّطيفة!
ــــ سأريك ما أفعله بالقطّة اللّطيفة!
   أمسك القطّة بعنف وابتعد بها وهي تطلق مواء حادّا. اندفع في إثره طفل يصرخ بالفرنسيّة: «أمّي يا أمّي ذاك الرّجل الشّرّير يعذّب القطّة المسكينة!». هرعت امرأة أجنبيّة نحو «المتر دوتيل» محتجّة : «سيّدي أيّ صنيع هذا، ألا تخجل من نفسك ؟!». انتزعت منه القطّة وسلّمتها للطّفل فأخذ يمسح عليها حتّى هدأت ثمّ عاد بها نحو الغريب صاحب المعطف وقال:
ــــ سيّدي هل تسمح لي أن أجلس وأطعمها معك ؟!
ــــ بكلّ سرور، تفضّل!
 
شرع الطّفل في إطعام القطّة بينما مدّد الغريب رجليه مسترخيا وأنزل حافّة المظلّة على وجهه حتّى لم يعد يظهر منه شيء، ولبث يتلذذ بمُثلّج اللّيمون ويدخّن سيجارة. وفجأة رفع عقيرته بأغنيّة بدويّة:
«وحْش السّرا وبرودَه ... يا من عزِمْ شَرِّفْ على قمُّودَة «
   كان صوته حسنا قويّا ذا نبرة جبليّة صافية... 
   علت تعليقات حول الطاولات: «يا إلهي، لم يعد بوسع أحد أن ينعم بالهدوء في المحلاّت العموميّة!».. «أيّ كارثة هذه، لا أحد يدرى ما سيفعله بنا بعد الغناء !».. «غير معقول: معنا سيّاح ولا أحد يحفل بسمعة البلد!».
 
أمّا «الميتر دوتيل» فقد وقف في ركن من الشّرفة زائغ النّظرات لا يدري ما يفعل. قال أحدهم معلِّقا : «النّغم جميل لا شكّ، إنّما الكلمات بها خشونة ريفيّة!» هتف شيخ أشيب ذو جمجمة لامعة تلتصق بها شعيرات قليلة ويكشف تبّانه عن ساقين عجفاوين: «أمرنا لله، لا نسمع هذه الأيّام سوى المزود وقافلة تسير!». التفت نحوه شابّ ذو جسم رياضي وقال حانقا: 
ــــ لا شأن لك بالقافلة سارت أم لم تسر، دع الرّجل وشأنه!
   همّ الشّيخ بالكلام ولكنّه أحجم إذ قدّر بمجرّد نظرة إلى الجسم الرّياضي، أنّ توازن القوى ليس في صالحه.
   اتّجه أحدهم من أثرياء الرّيف نحو الغريب وجلس قُبالته؛ قال له وهو يمسح دمعة سالت على خدّه: «أخي لقد هيّجت أشجاني بهذه الأغنيّة، كانت والدتي ـــ رحمها الله ـــ تهدهدني بها في طفولتي.. بالله عليك أَعِدْ غناءها». 
 
ابتسم له الغريب وانطلق مجدّدا في أغنيته بينما وقف «المتر دوتيل» يرمقه ذاهلا، ملقيا بين الفينة والأخرى نظرات قلقة في اتّجاه الطّريق متوقّعا في كلّ لحظة أن يحضر صاحب المطعم. تعالت فجأة أصوات شجار في ركن من الشّرفة. كان الرّجل حليق الرّأس والمرأة المتزيّنة بالزّهرة يتراشقان بنظرات مسمومة :
ــــ أنا لا أفهم ... لمَ يحلو لك إحراجي ومعارضتي أمام النّاس.. قلت لك إنّ ما يغنّيه هذا المتشرّد ليس فنّا!
ـــــ هلْ عليّ أن أجاملك في كلّ ما تقول وتفعل ؟!.. لو كان لك فعلا بعض الذّوق لراقك صوتُ الرّجل! 
ــــ الحقيقة لا أدري لماذا استمرّ في علاقتي بك .. ما دام أعجبك غناء ذلك الجلف فاذهبي إليه!
ـــــ جلف .. لصّ .. أيّا من كان فلن يكون أسوأ منك!
   اتّجهت المرأة بخطوة منفعلة نحو الغريب الذي بدا سابحا في لجّة أنغامه؛ انضمّت إلى الجالسين إليه وأمعنت النّظر في ما كان باديا من وجهه تحت المظلّة، وما لبث أن انفرجت أساريرها في ابتسامة مسحورة !
 
طلبت منه المرأة أن يسمح بأخذ صورة «سِلْفِي» لهما بهاتفها فأنعم بحركة من رأسه دون أن يكشف عن كامل وجهه أو ينقطع عن الغناء. أقبلت المرأة الأجنبيّة، أم الطّفل، عليهم مبتسمة وشرعت في تصوير فيديو للمشهد؛ نهض الغريب، عندئذ، مصفّقا بيديه وانطلق في أغنيّة بدويّة موقّعة وما لبث أن انخرط في حركات راقصة فنهضت صاحبة الزّهرة تراقصه والتحق بهما الثّريّ الرّيفيّ. 
   ترك بعض الزبائن طاولاتهم وتحلّقوا بفضول حول المجموعة وأخذ بعضهم يصفّق، بينما ظلّ آخرون يراقبون ما يجري بذهول وامتعاض. غادر الطّهاة وعملة المطبخ قدورهم وأفرانهم والتحقوا بالحلقة وتبعهم بعض النّدل.خاطب أحدهم «الميتر دوتيل» بلهجة حانقة:
ــــ أرأيت، هناك، كبير الطّهاة يصفّق للمهرّج ؟!.. لم نتوقّع منكم هذا الخروج عن الحِرَفِيَّة .. ننتظر منكم وضع حدّ للمهزلة! . أردف آخر:
ــــ المهزلة هي أنّني أنتظر منذ ساعة «الكالامار» المشوي!
   اندفع الرّجل حليق الرّأس صارخا نحو رفيقته التي كانت تراقص الغريب: «هكذا إذن تراقصين هذا الصّعلوك يا بنت الأكابر ؟!.. الآن أصدّق من أفادني بأنّك سليلة رعاع أجلاف.. اعتبري العلاقة منتهية بيننا !» لم يتمّ كلامه حتّى أفرغت المرأة على ثيابه بقايا طبق سمك وعاجله الثّريّ الرّيفيّ بلكمة أسقطته أرضا وصاح فيه :»لا يعجبني ما قلته عن الأجلاف يا مائع، يا خنفس الجدران!».
   هاج الحاضرون وماجوا وولّدت الشّتيمة الأخيرة فيهم ردود فعل متضاربة فانقسموا بين منتصر للثّريّ الرّيفيّ ومشنّع عليه، وانتهى الأمر إلى تبادل اللّكمات والسّباب بين الفريقين، بينما أخذ «الميتر دوتيل» يلطم وجهه. وينتف شعره. 
فجأة، برز شرطي وشقّ لنفسه طريقا وسط «المعمعة» صارخا : «ما الذي يحدث هنا ؟!. أهدأوا وإلاّ جررتكم جميعا إلى المركز!». ولكن صوته ضاع بين الأصوات المتشنّجة وكاد يسقط جرّاء التّجاذب والتّدافع. هرع «المتر دوتيل» إليه مشيرا بإصبعه نحو الغريب:
ــــ سيّدي العون إنّه السّبب ولا أحد سواه .هذا المحلّ يرتاده أناس محترمون وأجانب. إنّه يفسد سمعة المطعم برقصه وغنائه. أرجوك أن تأخذه إلى الحجز.. أنظر إلى هيأته الرّثّة وإلى ثيابه الباليّة!
ــــ لا تضع وقتي .. الرّقص والغناء من الأمور المعتادة في المطاعم .. ومن جهة أخرى، القانون لا يؤاخذ النّاس على تواضع هيئتهم وثيابهم .. أرجوك أن تحدّد ما اقترفه الرّجل بالضّبط، وأحذّرك من مغبّة الإطالة! 
ــــ لقد استهلك أصنافا من الطّعام الفاخر تكفي أربعة أشخاص ولا أظنّ أنّ متشرّدا مثله في وسعه أن يدفع !
   تقدّم الشّرطيّ نحو الغريب وقال له:
ــــ يتبيّن لي من أقوال الشّاكي أنّك استهلكت أصنافا غالية من الطّعام فهل أنت قادر على الدّفع ؟!
ــــ طبعا سيّدي.. أنا رغم مظهري المتواضع رجل شريف أعيش من كدّ يميني وبعض هؤلاء المواطنين الطّيّبين صبّوا عليّ أقذع الشّتائم ووصفوني بأقذر النّعوت، ولكنّي سعيد أن راقت أغنيتي لبعضهم الآخر...
ـــ أيّ دخل لي في الغناء يا هذا .. أحذّرك من مغبّة العودة إلى تمييع القضيّة  بإقحام الرّقص الشّعبي .. سؤالي بسيط: هل أنت قادر على تسديد ثمن ما استهلكته ؟
عندئذ، أخرج الغريب من جيبه لفّة من الأوراق النّقديّة ووضعها فوق الطّاولة:
التفت الشّرطي  لـ»لمتر دوتيل» وفتح فمه على نحو يوحي بأنّه سيتلفّظ بشتيمة، غير أنّه تماسك وكتم غيظه قائلا: «يا للمهزلة ! ليس فيما فعله هذا الشّخص ما يخالف القانون وأحذّركم من مغبّة إزعاجنا مستقبلا بالشكاوى الواهيّة ... السّلام عليكم».
   ابتعد الشّرطي شامخ الأنف واثق الخطوة بينما ران على الحاضرين ذهول وصمت ثقيل.
   اقترب الغريب ذو المظلّة من «الميتر دوتيل» وقدّم له ورقة نقديّة من فئة الخمسين دينارا قائلا: «هذه لك فوق الحساب لقاء ما سبّبته لك من إزعاج وأرجوك أن تأتيني بالفاتورة سريعا لأنّني سأغادر هذه الرّفقة الطّيّبة!»
ظلّ الرّجل ذاهلا ينقل النّظر بين الغريب والورقة النّقديّة، وعندئذ تقدّمت المرأة ذات الزّهرة من الغريب قائلة:
ـــــ أرجوك يا فتى .. سلوكك ينمّ عن رفعة وقوّة شخصيّة لا يتناسبان مع مظهرك، فمن أنت حقيقة ؟!
   خلع الغريب معطفه البالي ونزع قبّعة القشّ المهترئة عن رأسه فذهل الحاضرون لرؤية شابّ وسيم في نحو الثّلاثين يرتدي ملابس صيفية أنيقة. قال لهم:
 
 «أيّها السّادة أقدّم لكم خالص اعتذاراتي عمّا سبّبته من ضيق للبعض منكم، كما أشكر الذين تجاوبوا مع هذه التّجربة.. نعم إنّها تجربة فنّيّة فأنا في الحقيقة مخرج سينمائي أعدّ شريطا من بين أبطاله فتى فقير يقرّر ارتياد مطعم فاخر للاستمتاع مرّة في حياته بمأدبة ينفق مقابلها ما يناهز أجرة عمل شهر كامل. أردت أن أختبر مشاهد المطعم  التي جاءت في السّيناريو ، كما تجري في الواقع قبل تصويرها، لاعتقادي أنّ الفنّ الحقيقيّ، وإن كان لا يرضى أن يكون نسخة من الواقع، إلاّ أنّه  يظلّ على علاقة وطيدة به...لقد فجّرت فيكم هيئتي المتواضعة وأغنيّتي الرّيفيّة شحنتين متنافرتين، موجبة وسالبة.. استياء وقسوة ورفض من بعضكم، وتفهّم واستحسان بل وتعاطف من بعضكم الآخر .. تجربتي كانت كشفا عن أرصدتكم من الإنسانيّة فعرفت من فيكم الثّريّ ومن المفلس !  الآن يمكنني أن أنجز شريطا جيّد التّوثيق بعد أن انكشفت لي حقائق هامّة سأحاول استثمارها في عملي. إنّ الفنّ ـــ أيّها السيّدات والسّادة ـــ «كاترسيس»  للنّفس كما يقول اليونانيون، أي أنّه  يطهّرها من أدرانها ويحرّرها، وأرجو أن تكون تجربتي هذه قد ساهمت ـــ وإن قليلا ـــ في تطهيركم وتحريركم.. كان اللّقاء بكم فرصة رائعة حقّا وإنّي أشكركم عليها!».
 علي اللواتي
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.