الدستور الأعرج والتغيير الحكومي المنتظر

الدستور الأعرج والتغيير الحكومي المنتظر

بدأت تظهر بوضوح عيوب دستور جانفي 2014، دستور أريد له خاصة من قبل النهضة، أن يكون الحكم عبره برلمانيا ، أي بيد السلطة التشريعية التي تتولى الحكم الفعلي، من خلال التشريع والمراقبة والمحاسبة و المساءلة، والذي لا يترك سوى هامش صغير للوجه الآخر لسلطة تنفيذية مبتورة ، الهامش المتروك لرئيس الجمهورية.

وفي الأنظمة البرلمانية الحقة ، فإن خيوط القرار تبقى بيد رئيس الحكومة بالذات، وحتى الحكومة فإنها تستمد سلطتها من رئيسها ، الذي بمجرد استقالته تستقيل أوتوماتييكيا معه ، مثال ذلك النظام البرلماني في بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وإسرائيل، رئيس الدولة  فيه يلعب أدوارا تشريفاتية فقط، باعتباره الرمز الممثل للدولة بروتوكوليا، وعلى العكس فالنظام الرئاسي يجمع كل الخيوط بيد رئيس الجمهورية ، وحتى في الحالات التي يكون فيها وجود لوزير أول (لاحظ أنّ التسمية ليست رئيس حكومة) فإن الأخير مسؤول لدى رئيس الجمهورية ولدى البرلمان بحيث يمكن لرئيس الدولة تغييره وإقالته، كما يمكن للبرلمان سحب الثقة منه، وليس هذا أمر النظام الرئاسي الأمريكي الذي يضع خطا موازيا بين سلطة الرئيس وسلطة الكونغرس.

أما في تونس ، فإن دستور جانفي 2014 قد اعتمد بعكس دستور 1959، (القائم على نظام رئاسي متمركز جدا حتى لا نقول رئاسويا  ) بدأ على الشكل الأمريكي ثم ومنذ 1970 تطور إلى الشكل الفرنسي  واقتضى أن يقرر رئيس الدولة تعيين رئيس الحكومة أو إقالته ، وإليه يعود تعيين الوزراء أو صرفهم.

إذن فإن دستور جانفي 2014 قد اعتمد النظام البرلماني الذي فضلته النهضة، منذ كتابة الدستور الصغير أو تنظيم الحكم في 2012، خوفا من تركيز السلطة في يد وحيدة قد تقود إلى الاستبداد ، ولكنه وبعكس الدساتير البرلمانية ( وبعد المساومات) خصصت لرئيس الدولة مجالات لا يقتضيها عادة النظام البرلماني ، قيل في حينه إنها مقتبسة من الدستور البرتغالي، وقد خص دستور 2014 رئيس الدولة ، بصلاحيات واسعة في ضبط السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية ، وتنفيذها بمشاركة رئيس الحكومة وإن بقيت في مجاله الخاص.

في ظل هذا الدستور وبعد سنتين ونصفا على سنه ، تبدأ ملامح خلافات ، هي في عمقها ، مبرزة لتناقضات يعود بعضها إلى النص في حد ذاته ، والبعض الآخر للممارسة، مع قسط كبير من الحساسيات الشخصية،
أولا: إن الدستور ليس دستور نظام برلماني بالكامل ، فقد حفت بصياغته تنازلات ممّا جعله إلى حد ما متأرجحا بين نظامين.
ثانيا: لقد أبرزت الممارسة أن رئيس الدولة، المنتخب والمكتسب لشرعية شعبية يوفرها له ، التصويت بالاقتراع العام ، يريد أن يستعمل هذه الشرعية، رغم نصوص دستورية، لا تمكنه من تلك الممارسة، ولكن تقاليد البلاد بحكم حوالي  55 سنة وقوة شخصية ودهاء مفرط  للباجي قائد السبسي، تجعله في موقع من يسعى وينجح في فرض الأجندا التي يريدها، أمام رئيس حكومة هو الذي اختاره على المقاس ، ولكنه تفطن عندما مسه التيار، أنّ صلاحياته على الورق يمكن أن تمكنه، - إن لم يكن من البقاء- من تسجيل حضوره كرجل سياسي يمارس مشمولات  سياسية واسعة، لا كرجل إداري كما حدد له رئيس الجمهورية أي إداريا تحت الأوامر، ومن محاولة أن يكون رجل سياسة فاعل، و أن ينتقل من موقع الإداري إلى  موقع رجل الدولة، حريصا على أن يضمن مستقبله السياسي، لا أن يكون فقط قد استخدم وانتهى أمره ودوره.
ثالثا: لعل الحبيب الصيد قد فوجئ بالحديث التلفزي للرئيس في ذلك الخميس المشهود عشية حلول شهر رمضان، ولعله كان يتمنى أن يكون رئيس الدولة قد فاتحه في الأمر، وخفف من مرافعته ضد كل ما تم إنجازه من وجهة نظره خلال العام ونصف من توليه رئاسة الحكومة (تحت القيادة الرشيدة) لرئيس الدولة.
الحديث والتحركات الموالية تركت مرارة العلقم في حلق الحبيب الصيد ، فقد أظهره الرئيس بمظهر العاجز ، باعتباره غير صالح لاستكمال المرحلة ، وفي نفس الوقت فإن الباجي قائد السبسي، يكون قد غسل يديه من إخفاقات كل الفترة منذ انتخابه رئيسا للجمهورية، ومسحها في الصيد.
والباجي قائد السبسي من جهته لعله يؤمن بأمر أساسي، بأنّ عليه أن يغير مركوبته في الطريق ، لعله يستعيد شيئا من الشعبية التي انطلق بها غداة انتخابه رئيسا للجمهورية، خاصة وأن نسبة مؤيدي الصيد فاقت نسبة مؤيديه.

المهم أنّ الصيد أظهر صلابة عوده، وأنه ليس حربوشة للبلع السهل، وبين أخذ ورد، انتهى إلى أن لا أحد يمكن أن يقيله، ولا أحد يمكن أن يؤثر عليه للاستقالة، وإنه إن كان من بد فلعل الأسلم بالنسبة إلى مستقبله السياسي، أن يسحب البرلمان الثقة منه، كما هو الشأن في البلدان الديمقراطية البرلمانية التوجه، وأنه ليس من حق الباجي صرفه، وبذلك يخلق سابقة مهمة في تاريخ الديمقراطية التونسية الوليدة.
بهذا المسعى السليم دستوريا، وغير المستقيم ممارسة في نظر الكثيرين، يرسم الحبيب الصيد مستقبله السياسي ويخرج من ظل الباجي قائد السبسي، ويعد نفسه لأدوار مقبلة  لم يكن الرئيس قد قرأ لها حسابا أو توقعها، من "الموظف "البسيط الذي رفعه إلى أعلى المراتب، ولعل الحبيب الصيد يقدر أنّ مسار التحدي أفضل مما أعده له الباجي، فيمكن له أن يكون له قول في المذهب، ومستقبل سياسي، فتفطن عن حق أو باطل بأنّ صرفه  من قبل من صنعه، وهو الوفي المخلص لا يعني انتهاء أمره، أو إنهاء حياته السياسية، ودفعه لغياهب النسيان.
صحيح أنّ الرئيس الباجي قائد السبسي أتى به مرة أولى في 2011 كوزير للداخلية، وهو الذي فرضه على نداء تونس في أوائل 2015 كرئيس للحكومة وليس وزيرا أول، وهو يرى بذلك، وباعتباره نال ثقة مجلس نواب الشعب، قد اكتسب شرعية، لا يمكن أن يزيلها أحد غير مجلس نواب الشعب، كما تقتضيه القاعدة القانونية الأثيرة  لدى رجال القانون أي توازي الأشكال.

السيناريو المقبل إلا إذا حدثت مفاجأة، أن يقف الصيد ليدافع عن "إنجازات" حكومته (في جلسة تقرّرت بعد وسيجتمع مكتب مجلس نواب الشعب الاثنين لتحديد موعدها)، ويطلب الثقة، وكل الدلائل تشير إلى أنّ الثقة ستحجب عنه، فيضطر إلى الاستقالة، ويكون أثبت لنفسه وللناس أنه سياسي  وليس رجل أحد ، وسيأخذ مهلة للراحة والتفكير، وسنراه ينضم إلى واحد من الأحزاب القريب إليها ، وفي التقدير العام فإنه سيكون له شأن في الحياة العامة ، بحكم الشرعية التي اكتسبها  من رئاسته للحكومة، الموقع الأول دستوريا في الدولة، والبريق الذي يعطيه المنصب المرموق الذي تقلده، وهو الذي خبر الأحزاب ومدى جدية بعضها ومدى جدية رجالها، لن يضع رجله في فراغ، ولن يكون ضمن حزب مهزوز أو بلا مضمون.

لكن أهم المهم في كل هذا أن الباجي قد ضمن الإرث لابنه حافظ، عندما أمضى الأخير على وثيقة أولويات حكومة الوحدة الوطنية باسم نداء تونس أو هكذا يظن هو وأبوه،  أي فرض نفسه على رأس "أكبر" حزب في البلاد، كان صرحا فهوى، فوضعه أبوه في صدر الصورة ، والبقية تأتي.
أليس ذلك هو أكبر هدف للرئيس الباجي قائد السبسي؟

عبد اللطيف الفراتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.